مَظَاهِرٌ  لِحَرَكِيَّةِ  الفِكْرِ  العَرَبِي  عَبْرَ  الفَاعِلِيَّتَيْنِ الفَنِّيَّةِ  والاجْتِمَاعِيَّةِ  لِلبيان  الأَدَبِي الحلقة الأولى (تمهيدٌ وتأسيسٌ)

Views: 420

الدكتور وجيه فانوس

(رئيس المركز الثقافي الإسلامي)

 

ثمَّة فرقٌ بين ما هو “تعبيرٌ عفويُّ” وما هو “بيان أدبيُّ”. “التَّعبيرُ العفويُّ”، هو ما يُكْتَبُ أو يُحَضَّرُ في البال من أدبٍ؛ أمَّا “البيان الأدبيُّ”، فهو هذا المكتوب أو المُحَضَّر وقد وُضِعَ ضمنَ إطارٍ توصيليٍّ ما، لينتقل من لدن واضعه أو كاتبه إلى الآخرين. فالآخر،في مقابل المؤلِّف أو المُرْسِلِ، لا يتلقى، أو يستقبل، الأعمال الأدبيَّة بحكم نصوصها وحسب، بل لا بد لهذه التَّعابير من أن تتخذ أشكالاً وانماطاً توصيليَّة معيَّنة؛كيمايتمكَّن هذا”الآخرُ”، من تلقيها، أو استقبالها، وتاياً التَّعامل معها. ومن هنا يمكن الاستشهاد باهتمام المؤلفين والنَّاشرين بنشر أعمالهم في تركيباتٍ ورقيَّة، من كتبِ أو سواها، أو تركيبات الكترونيَّة مختلفة، يُراعى فيها الإخراج الفنِّيُّ وجمالُ التقديم وجاذبيته. ومن هنا، تشتهر نصوص أدبية، أكثر من سواها، لأن بيانها قدِّم في نصٍّ أُحسِن إخراجه أو نصٍ تم توصيله في ظروف معينة تمكنت من جذب اهتمام المتلقي وتحفيزه على تجاوب ما مع هذا النَّص. فالبَيان الأدبي هو، وبشيء من التبسيط، كيفية إخراج التَّعبير إلى المتلقي.

البَيان الأدبي، على هذا الأساس، مسؤوليَّة حضاريَّة واجتماعيَّة في آن واحد؛ وهي مسؤوليَّة تدخل في صلب الفعل التَّربوي والتَّعليمي الذي نعيشه في مؤسساتنا التَّربويَّة والتعليميَّة على مختلف مستوياتها وتوجهاتها.

اِنْهِمارُالتَّعبير العفوي لوحة تشكيليَّة معاصرة

 

 

والبَيان الأدبي، من هذا المنظور، وإن كان مسؤوليَّة يتجلى من خلالها العمق الحضاري للوجود الإنساني، وتتفاعل عبرها المعرفة الإنسانيَّة في مجال تطورها وتناميها وفاقا لتطور الخبرة الإنسانيَّة في العيش وتناميها؛ لكنه يبقى، كيفما دار الأمر واحداً من اللبنات الأساسيَّة التي يعمل عليها المربون والمعلمون في سبيل تَشَكُّل الإنسان وقيامه بواجباته تجاه مستقبله ومستقبل أمته.

من هنا، فإن التَّعبير الأدبي الذي يشتغل عليه المربي أو المعلم في قاعة الدرس مع متعلميه أو امامهم، ليس مجرَّد وسيلة لفهم أمور من اللغة أو آدابها وحسب؛ بل هو وسيلة أكيدة لقولبة الفكر وتحديد مساحات معينة وخطيرة لتفاعله مع ما يتلقاه وتوجيه أطر هذا التفاعل وربما وضع قواعد غير منظورة له ولقيمه.

ليس البَيان الأدبيَّ مُجَرَّدَ وثيقة أدبيَّة، بقدر ما هو وثيقة فكريَّة واجتماعيَّة. إنَّهُ، ضِمنَ هذا النَّظَرِ، وثيقة بإمكانها أن تُسَجِّلَ للفكر فاعليَّة وجوده؛ بل وأن تَشْهَدَ، عَبْرَ حَرَكِيَّة تَشَكُّلِهَا المُسْتَمِرِّ والمتغيّر في آن معا، للسلبيات والإيجابيات التي يمكن أن تعيشها هذه الفاعليَّة؛ وتكون، في هذا كله، مرآة لحركيَّة هذا الفكر،ودليلا على مجالات تفاعله مع معاناة العيش الإنساني للوجود.

ولِذا، فلن يُمْكِنُ للبيان الأدبي أن يتكوَّنَ من مجموعة هُلامِيَّةٍ من التركيبات البلاغيَّة والتعبيريَّة التي لا موضوع لها. إنه يبقى، بسبب فقدانه خاصيَّة الموضوع، مجرَّد ميدانٍ لِلُعَبٍ تشكيليَّة تتوخى بهلوانيات بلاغيَّة، لا توجد إمكانيَّة واقعيَّة لتحقّـقها؛ ولا يمكن لهذا البَيان، تالياً، أن يكون بيانًا أدبيا، إذ البَيان الأدبي جُماعَ عناصرَ متعددةٍ من أبرزها الموضوع في تشكّله عبر فنيَّة معينة للتعبير.

أنموذج من “كليلة ودِمْنَة” في “البيان الأدبي”

 

وإذا باتَ من المُسَلَّم به، في دنيا النقد الأدبي المعاصر، استحالة الفصل الواقعي، أو الفعلي، بين مَظْهَرِ التَّعبير وحَقِيقتهِ المضمونيَّة،فمن الحَتْميِّ أنّه لا وجود لبيان أدبيٍّ خارج مادته المعرفيَّة التي ينبثق، في أساس تَشَكُّلِ وجوده، عنها. وهنا تكمن أهميَّة المادة الفكريَّة التي يحملها البَيان الأدبي. فهذه المادة، بحكم كونها وجودا، لا تستطيع إلا أن تسعى بكل ما تقدر عليه من طاقات إلى تحقيق هذا الوجود وإثباته. واقع الحال، أنها ليست مجرد وعاء تستقر فيه الصنعة الفنّيَّة للبيان، كما أنها ليست الجسم الذي يلبس الصنعةالفنيَّة ويتجمَّل بها.

إن المادة الفكريَّة في البَيان الأدبي وجودٌ يُعَبِّرُ عن نفسه بجميع الطاقات المتوافرة فيه؛ بل هو يمعن في توظيف كُلِّ واحِدَةٍ من جزئيات البَيان، بصرف النظر عن موقعها وقيمتها، لصالح تمظهره وامتداد فاعليَّة وجوده. فإذا ما كان البَيان الأدبي يُشَكِّلُ، بحكم المادة الفكريَّة التي فيه، قدرة إبلاغيَّة معينة؛فإن هذه القدرة تجد، في العمق التأثيري للبنيَّة الفنيَّة للبيان، أرضا خصبة يمكنها استثمارها لتثبيت ما تحمله من بنية فكريَّة وتأكيدها.

يُثْبِتُ البَيان الأدبيُّ، على هذا الأساس، وعَبْرَ حُضُورِهِ وتطوُّرهِ في الزمن، قدرةً على تشكيل فاعليّات أدبيَّة وفكريَّة واجتماعيَّة متنوعة. لهذه الفاعليات، التي يُشَكِّلُها البَيان الأدبي، دورها الكبير في صياغة وجود الجماعة التي تتعامل معها ومن خلالها. فالبَيان الأدبي لا يبقى، إبّان تفاعل الناس معه، وجودا حياديا في حياتهم؛بل يتحوَّل، بفاعليَّة هذا الوجود، طاقةً تُسَاهِمُ في تشكيل الكيان المفهومي للبنية الإنسانيَّة، والزمانيَّة، والمكانيَّة التي يتم التفاعل معه من خلالها.

يُصْبِحُ البَيان الأدبي، ومن هذا المنظور بالذات، مساحة فكريَّة فاعلة؛ وهي مساحة تعمل على تحقيق وجودها من خلال مجالين أساسيّـين. يتشكَّل المجال الأول عبر الطاقة الفنيَّة التي ينبني البَيان الأدبي عليها، وذلك لِمَا لهذه الطاقة من فاعليَّة في المجالين الإبلاغي والانـفعالي لدى مُسْتَقْبِلِي البَيان؛ ويتشكَّل المجال الثاني عبر الطاقة التأثيريَّة التي يُشكِّلها البَيان الأدبي في المجموعة الإنسانيَّة التي يصل إليها. ويمكن القول، انطلاقا من هذا التصوُّر، إن البَيان الأدبي، بوصفه حاملا بالضرورة لطاقة فكريَّة ما، قادر، بالتالي، على إظهار حركيَّة هذا الفكر الذي يحمل عبر الفاعليتين الفنيَّة والاجتماعيَّة اللتين يتم تمظهره من خلالهما. ولعل بالإمكان الانطلاقَ من هذه الرؤية للنظر في بعض تَشَكُّلات حركيَّة الفكر العربي، عبر تمظهرها بوساطة الفاعليتين الفنيَّة والاجتماعيَّة للبيان الأدبي العربي.

(وإلى اللقاء مع الحلقة التالية ” في فاعليَّة البيان الأدبي”)

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *