في ثقل التراجيديا البيروتيّة

Views: 538

 منصور مبارك

 على نحوٍ ما، تعمل المُدن بوصفها ساحة التثقيف الأولى للفرد، ويُمكن القول إنّها المُختبر الإبداعيّ الضخم للثقافة والفنون والذائقة العامّة والألبسة والأطعمة. ليست المُدن المَصدر لذلك فقط، بل في احشائها تتشكَّل الاتّجاهات والأنماط والحركات في حقول السياسة والآداب والفكر، وغالباً ما تتجاور فيها أشياء من الماضي وأخرى من المستقبل. وهي كما نَظَّرَ لها مؤرِّخ الثقافة ذائع الصيت كارل تشورسكي، في ذروة نمائها بؤرة نِزاع القديم مع الحديث.

في السياق هذا، ربّما تواريخ بيروت المستقرّة عميقاً في ذاكرة عشّاقها من أشدّ مرايا علاقتنا بالواقع صفاءً، فهي تارةً تزخر بفضائل المدينة التي أَطنب فلاسفة التنوير في الثّناء عليها، على النحو الذي رأى فيه فولتير لندن وكأنّها أثينا الحديثة، وفي طورٍ آخر تُستعاد فيها صورة المدينة، بوصفها مَرتع الرذائل كما جنحَ إلى ذلك فلاسفة القرن التاسع عشر، حيث عدَّها كثير منهم الأمّ الخاطئة التي من بطنها يولد الدمار، والعنف، والتوحُّش. بيروت تأرجحت بين هذه وتلك؛ فقد عصفت بها الأزمنة والتحوّلات على النحو الذي تحوّلت فيه إلى مُختبر كبير، في ثناياه تُختبر الأفكار والأيديولوجيّات والتيّارات الفكريّة والنظريّات الأدبيّة والبنادق والسيّارات المفخَّخة وتنظيمات الكراهيّة.

وبما أنّ الحديث عن الأمكنة يتّخذ في الأغلب طابعاً شخصيّاً، فإنّ مُقارَبة علاقة الكويتيّين ببيروت لا يُمكن إلّا أن تتلوَّن بالمزاج الفردي والشخصي. كنتُ في الطفولة مثل الكثيرين من أقراني أو أقلّها نَفَر ممَّن أعرفهم التقينا بيروت من دون موعد في مناسبتَين هُما صوت فيروز والمطبوعات الأدبيّة، وبخاصّة الروايات المُترجَمة. أذكر بعضاً من التفاصيل التي لم تسقط من ثقوب الذاكرة، مثل سماع صوت فيروز صباحاً ونحن في طريقنا إلى المدرسة، آنذاك أذكر بتوهُّج المطر وبرودة الطقس، وقد تداخلا على نحو مُنسجم مع صوتها، وبفضول الأطفال سألنا عن هذا الصوت الذي لم تألفه آذاننا، فعرفنا من بين أشياء عدّة أنّها من بيروت. هذا الصوت القادم من هذه المدينة سيلتفّ حولنا كلّ صباح، بحيث استوى فولكلوراً لا تكتمل بداية النهار بغيره، وفي ساعات أخرى من اليوم كان ينثره علينا المذياع الصادح من ذلك المطعم وذاك المقهى في أثناء لَهونا. وعبر هذه البوّابة المُشرعة اتّجهنا صوب عالَم تسكنه الرومانسيّة والوجدانيّة، فنحن شَعَرنا وكأنّنا بإزاء لغة وتراكيب جديدة تصف لنا العالَم وتقترح علينا أنماطاً مُغايرة لإدارة علاقاتنا الإنسانيّة واتّصالنا اليومي بالآخر، ولو جاز لي القول بأنّ المَدنيّة هي توظيف القيَم في السلوك اليومي، لقلتُ إنّ تلك كانت تباشير الحضارة الوافدة إلينا من بيروت، وغير بعيد عن ذلك الإقرار بأنّ مفردات من مثل الكروم والصفصاف والحور العتيق وغيرها، كانت أشبه ما تكون بضربات الفرشاة الدقيقة على سطح لوحة بديعة تغوي الخيال.

وكلّما اقتربنا من الجانب الثقافي لبيروت، زادت قدرة عقولنا على مُمارسَة التخيُّل، وفي ظنّي أنّ هذا الأمر على قدرٍ كبيرٍ من الأهميّة، فالعقل الإنساني بإطلاقيّته لا يتعامل مع تيّار الواقع الموضوعي الذي ينساب إلى ذهنه بسلبيّةٍ وحياديّة، بل على النقيض من ذلك، فإنّه يتعامل معه بديناميّة مُستمرّة وتمدُّدٍ لا يَفتر. ذاك أنّ هذا العقل يأبى الإقرار بمَفاهيم مثل الحدود والقيود، وهذا التوق إلى مُحاولة العقل تجاوُز نفسه على الدوام هو لبّ عمل الخيال. كان الإنتاج الثقافي والفكري الذي ترسله بيروت إلى مَكتباتنا عاملاً رئيساً في مُمارَسة الخيال من حيث القدرة على تركيب الأفكار والصور عمّا سيكون عليه المستقبل والتغيير والكيفيّة التي يُمكن من خلالها رؤية الأشياء على نحو مُختلف. ومَطابع بيروت في دَورها التثقيفي لقرّاء العربيّة تُضاهي بالمعنى المُعاصر لتأثيراتها ابتداع الألماني غوتنبرغ للطباعة في مدينة ستراسبورغ الفرنسيّة.

هذا الوجه الثقافي لبيروت هو تحديداً ما يرسم خصوصيّة العلاقة بين الكويتيّين وبيروت، فالثقافي والفكري كان في البدء عند تأريخ العلاقة بين الطرفَين، إذ كان اختلاف الكويتيّين الأوائل على بيروت في العقد الثاني من القرن العشرين هدفه الأوحد الدراسة في الجامعة الأميركيّة في بيروت، وتلك دشَّنت علاقة طويلة بين الكويتيّين وهذا الصرح العِلمي العتيد على مدى عقود. وجدير بالذكر أنّ أبرز النُّخب الكويتيّة تلقَّت تعليمها هناك، وهي كانت الأنشط في مَيادين الفكر والسياسة والاقتصاد، وقد قدَّمت لنا الجامعة الأميركيّة في بيروت أوّل أستاذة للفلسفة في الكويت وأعلى نظرائها الأكاديميين شأواً د. شفيقة بستكي.

أحياء كويتيّة في لبنان

أُضيف إلى ذلك، ما تناقله الكويتيّون عبر تجاربهم الشخصيّة عن الآفاق الرحبة للحريّة والتسامُح في بيروت، وأظنّ ذلك سبباً رئيساً في هيام الكويتيّين ببيروت، وهو ما انعكس في الهجرات الصيفيّة الهائلة نحو بيروت والبلدات المُحيطة بها. وتُسجِّل الإحصاءات أنّ الكويتيّين في عقدَي الستينيّات والسبعينيّات من القرن الماضي، كانوا يُفضّلون قضاء إجازاتهم الصيفيّة هناك. وقد صَنعت هذه الظاهرة الفريدة من نَوعها حالة نادرة في الأوطان العربيّة، ذلك أنّه تشكَّلت في بيروت وحولها ما يُمكن أن نُطلق عليه “أحياء كويتيّة” نتيجة ارتفاع نسبة الكويتيّين فيها وإقامتهم الطويلة.

وثمّة مَلمحان يُشيران إلى تجذُّر الكويتيّين في بيروت، أوّلهما انتشار الدواوين الكويتيّة للمرّة الأولى والأخيرة خارج الكويت، حيث كان هناك كثيرٌ منها في بيروت وحولها، وثانيهما بناء الشيخ دعيج الصباح فندق شبّرد في العام 1957، وهو أوّل فندق كويتي في الخارج. وبعدها أَخذَت بالنهوض مؤسّسات وهيئات مصارف متعدّدة أَنشأها كويتيّون، وكانت تعبيراً عن مدى قربهم من بيروت، وشهدت معدّلات تملُّك الكويتيّين عقارات سكنيّة في بيروت ارتفاعاً هائلاً على النحو الذي أصبحت فيه هذه المدينة وطناً ثانياً لهم، وهي الظاهرة التي باتت تُسمّى “توأمة لبنان والكويت”.

غير أنّ الثقافة التي عرَّفتنا إلى منظومة مُتكاملة نسيجها الحريّة والتسامُح والمدنيّة، ما لبثت أن زرعت في دواخلنا شعوراً عارِماً بما لا يصحّ تسميته سوى بالتراجيديا. ذاك أنّ هذه المدينة التي تطفو على سطحها التعابير الرومانسيّة ومُغامرات الحداثة، كانت ترقد في أعماقها وحوش كثيرة لا تحصى. وقد فاقَم من هذه المأسويّة ما عَلِمناه لاحقاً من أنّ بيروت سبق وأن علِقت في الخمسينيّات من القرن المُنصرِم في فخاخ الحرب الباردة، وهو الأمر الذي تأتّى عنه تحوُّل جزء كبير من “الثقافة البيروتيّة” وفعالياتها إلى أحصنة طرواديّة، على الرّغم من الجرعات التلطيفيّة التي كانت تقدِّمها الأيديولوجيا وقتذاك.

بلغت التراجيديا شكلها الأكثر اكتمالاً مع الحرب الأهليّة في العام 1975، وأرى أنّ توصيف ما خَبرته بيروت على أكثر من مستوى على أنّه تراجيديا له مسوّغاته الوجيهة. فالتراجيديا بعيداً عن توظيفاتها الأدبيّة، هي تلخيص لرؤية الحياة ذاتها كشكل صافٍ من المأساة، وليس في اعتبار الحياة مَصدراً للصعوبات والمشقّات. وهذا التمييز في غاية الأهميّة، فمن نافلة القول معرفة إنّ الحياة تطرح مُشكلات بعضها مروّع والبعض الآخر أقلّ وطأة على البشر، وهُم جميعاً يختبرونها على مضض، ولكنْ في حال بيروت يكفي استعادة الشريط التاريخي للوراء منذ لحظة الانفجار العظيم في المرفأ هبوطاً إلى شرارات الحرب الأهليّة. سنجد أنّ الحياة بحدّ ذاتها في بيروت مأساة، وهذا بطبيعته يتجاوز فكرة أنّ الحياة فقط تنطوي في داخلها على بعض المآسي. وبذلك فإنّ إحدى الطُّرق التي تقودنا إلى فَهْم التراجيديا، تكمن في النّظر إلى الحياة بوصفها إشكاليّة كبرى، واستطراداً فَهْم النواة الصلبة في قلب كلّ تراجيديا، وهي المُعاناة.

من الصعب أن ينظر المرء إلى الحياة بوصفها مأساة أو أن يتبنّى منظوراً تراجيديّاً للحياة، ولكنّ بيروت بفجيعتها المتّصلة، تدفع المرء للإيمان بأنّه ليس من قبيل المُصادَفة مُعاناة البشر، فتواريخ بيروت القريبة تسوق البرهان تلو الآخر على ثبات فكرة المُعاناة واستقرارها في قلب خبرات أهل بيروت أو ما تشترطه إنسانيّتهم. فالأيّام الطويلة للقتال على الهويّة وتمجيد الذبح وإلصاق الصفات الأخلاقيّة به وانهيار فكرة النظام الأخلاقي الكوني التي يسود فيها الخير ويندحر بها الشرّ، جعلت من بيروت عاصمة للتراجيديا الإنسانيّة.

بالنسبة إليّ وإلى الكثيرين من الكويتيّين، ما زال يسكُننا شعورٌ يتأرجَح بين الإيمان والخرافة، بأنّ بيروت قادرة دائماً على أن تستأنف الحياة. وما يرجِّح كفّة الإيمان في جوانحي أنّ صومعة الحبوب العملاقة التي قوّضتها نِترات الأمونيا، والتي شيَّدتها الكويت في العام 1968 ودُشِّنت رسميّاً بحضور الراحلَين الرئيس شارل الحلو والشيخ صباح السالم، رحمهما الله، قد عملت بوصفها درْعاً واقياً لبيروت لحظة الانفجار فخفَّفت إلى درجة كبيرة من كوارث الخراب الرهيب. ولكنّ هذا لا يُخفِّف بأيّ حال من الأحوال ثقْل التراجيديا البيروتيّة.

 ***

(*)  إعلامي وكاتب ومترجم من الكويت

(*) مؤسسة الفكر العربي- نشرة أفق

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *