بيروت: الكارثةُ استثمارٌ في الوجود

Views: 377

علي البزّاز

يتقاسمُ انفجارُ مرفأ بيروت الكارثةَ والعقابَ الجماعيّ معاً، وكأنّما أُريدَ للشرق أن يكون مُجدياً عن طريق الكوارث والحروب فحسب؛ من الحصار الجائر على العراق في بداية التسعينيّات من القرن المنصرم بغاية التدمير الشامل للأرض والبشر، إلى الحروب بكلّ أنواعها التقليديّة والكيمياويّة والتقنيّة تحقيقاً لفرْض الطّاعة العليا للسلطة، إلى القصاص الأقسى في كوارث مُركَّبة سليلة شرق حلوله غير سهلة، بل ومعقّدة، سوف نُقارب مأساة بيروت فلسفيّاً وتقنيّاً بناءً على قصّة الطوفان في ملحمة جلجامش.

إنّ فكرة “الطوفان” قائمةٌ أساساً على حيازة السلطة المُطلقة. يقرّرُ مَجمعُ الآلهة ذو السلطة الشموليّة عقابَ البشر جماعيّاً بسبب شرورهم عن طريق طوفانٍ شامل ومدمّر يُغيّر لاحقاً الأرض جغرافيّاً وشخصيّة الإنسان حضاريّاً. وهكذا، نستشفّ، كيف كانت الآلهة (السلطة) تنظر إلى الإنسان وقتذاك، وكيف تطوّرت نظرتها لاحقاً إليه، كما نتعرّف على أنواع العقاب الجماعي من كوارث وأوبئة التي فرضتها وصولاً إلى الموت الفردي، ما يكشف عن مكانة الإنسان عند الآلهة، هل هو عبد أم كائن مستقلّ بذاته؟

كان الإنسان يومذاك لدى الآلهة هو “العبد” لا غير، إلى أن اختفى العقاب الجماعي بعد “الطوفان”، وحلّ مكانه العقاب الفردي، بمعنى الموت المفروض على البشر، وهنا فقط أصبح الإنسان كائناً مستقلّاً يعاقَب على أخطائه فحسب، على الرّغم من بقاء مصيره مُقيَّداً إلى الموت. “كانت العلاقة ما بين الآلهة والبشر التي تأسّست بينهم منذ الخليقة في استحقاقِ ثوابٍ وعقابٍ، تتأرجح ما بين العقاب الجماعي في قصّة الطوفان، وفي خراب المُدن ودمارها بسبب غضب الآلهة” (من مقدّمة “ديوان الأساطير”، نقله إلى العربيّة وعلّق عليه قاسم الشواف، دار الساقي، 1997)؛ وإنّها لمُفارَقة أن يكون العقاب بالموت الشخصي على كلّ فردٍ هو الذي سينقل الإنسان من مَكانة العَبْد إلى مَكانة السيّد بعد الطوفان أو إلى الشخص المُستقلّ بذاته والمُتحكّم نوعاً ما بمصيره، فأصبح تحكُّم الآلهة (أي السلطة) به بعد الطوفان نسبيّاً غير شامل كما كان قبله، وذلك على الرّغم من الموت، وهذه نقْلة حضاريّة وثقافيّة، ستُغيّر وجود البشريّة. واللّافت كما تقول ملحمة جلجامش، أنّه تمَّ إنقاذ البشر من الفناء باتّفاق (تواطؤ) “إنكي” إله العِلم والصناعة (التقنيّة) مع أتونوبشتم/ نوح، وذلك بصناعة سفينة ضخمة (تقنيّة النجاة) طافت فوق السيول التي غَمَرت الأرض. وهكذا نجا البشر من الموت المحتّم؛ أي أنّ التقنيّة شارَكت في إنقاذ الوجود، بالتعاون مع إله العِلم، بمعنى أنّها من وسائل التقدُّم والنجاة، ومتأصّلة في الإنسان منذ القِدم ومُتعاوِنة مع سلطة العِلم من أجل عالَمٍ مُزدهر، ولكنْ ليست بمنأى عن تدخّلات السلطة، وما تريده منها، أكان خيراً أم شرّاً. فبحسب الفيلسوف ازوالد شبنغلر تُعدّ التقنيّة خاصيّة إنسانيّة منذ القِدم، وهي نِتاج العقل والفكر الذي يطمح إلى النهوض بالوجود من خلال أهدافٍ وخطط واعية؛ وهكذا، فلا ينبغي فهْم التقنيّة عبر الأدوات والمَكائن فقط، إنّما عن طريق منظومة من الأهداف والنتائج. والهدف من التقنيّة هو الخروج على سيطرة الطبيعة، وجعْل الفرد سيّداً مستقلَّ المصير. وما سفينة “نوح” إلّا وسيلة تمرُّد على السلطة المُطلقة، بغية إحلال مفهوم التقدّم الشامل الذي يجعل الإنسان مركزيَّ الوجود فاعِلاً فيه. ففكرة بناء السفن هي لمُقاوَمة الغرق/ الفناء المادّي والاعتباري، وإن تعرَّضت السفن إلى الغرق، وكما الحال نفسه في الطائرة والقطارات، التي يَعتبر الفيلسوف الفرنسي بول فيريليو أنّها من وسائل الكوارث، وأنّ التكنولوجيا “تحرق الزمان والمكان”.

هذا الرأي المُتصوَّر للكوارث تكنولوجيّاً، يبدو صحيحاً ظاهريّاً، ولكنّ التقنيّة بحسب هايدغر، تتجاوز الإنسان وتتجاوز ذاتها، أي ثمّة ثغرة قاتلة فيها، بمعنى وجود قابليّة للتلاعُب بها، ولكنْ ممّ وكيف؟ الجواب من السلطة، التي تجرّها عنوةً إلى الكارثة، وتحويراً لعبارة فيريليو الآنفة “السلطة تحرق الزمان والمكان”. التقنيّة هي بنية إنسانيّة؛ فالغريب هو تقنيّة للبقاء مثلاً، عبر ترحّله ومُعاناته ومُشكلاته، يُقرّر حياتَه بثبات مستأنِفاً إيّاها من حيث لا يقدر سواه على ذلك، ولها جانبها الرؤوف (لا بدّ من الشرّ في كلّ خير)، وإنجازاتها على صعيد الصحّة والبناء والآداب والفنون والبيوتكنولوجيا، أي تقنيّات الشباب الدائم والسعادة. وعلى هذا النحو فالتقنيّة قدرٌ بشريّ واعٍ فحسب، بخلاف التقنيّة التي تُمارسها الحيوانات في الهرب والدفاع بأساليب غريزيّة نمطيّة، بحسب شبنغلر. التقدّم هو غاية التقنيّة إذاً، بينما النمطيّة والرتابة، اللّا تقدّم، من صفات التقنيّة الحيوانيّة.

لا نأتي بجديد، عند القول إنّ مُجتمعات التقنيّة قائمة على الخطر، فالخطر أصلاً من بينيّة الوجود (ولادة – موت)، ألَم يتعرّض الإنسان البدائي للخطر ذاته بينما لم يكُن عصره تقنيّاً بامتياز؟ التقنيّة أصلاً، ليست شرّيرة، ولكنّ ثمّة استعمالاً وإخضاعاً شرّيراً لها من قِبَل السلطة التي هي المقصودة في كِتاب الفيلسوف الألماني غونتر انديرس “هيروشيما في كلّ مكان”، مؤلّف كِتاب “أصول التوتاليتاريّة”. أي بسبب السلطة، ستكون الكارثة في كلّ مكان، إشارة إلى توصيف ميشال فوكو “ميكروفيزيائيّة السلطة”، حيث من خلالها سنرى “ميكروفيزيائيّة” الكارثة في كلّ مكان، ومن هنا، استمرّ غونتر انديرس بتحذيراته من احتلال العراق والحرب في أفغانستان ولم يفصل ذلك عن مأساة هيروشيما. “فالزرّ يبقى زرّاً”، على حدّ قوله، والأسلحة هي خردة من دون الحروب، والحروب على الورق فحسب من دون السلطة. الفاعل إذاً في الكوارث ليس التقنيّة، وإنْ ارتبطت ظاهريّاً بها، بل السلطة المُستعمِلة لها.

المسؤوليّة الأخلاقيّة ما بين التمويه والتسوية السياسيّة

عبّرت رسالة جان جاك روسّو إلى فولتير بعد “زلزال لشبونة” عام 1755 عن ضرورة تدبير الكوارث البيئيّة، من طريق تنظيم “البنايات، والتخلّي عن المباني العموديّة الشاهقة”، ولكنّها لم تُشِر صراحةً إلى السلطة، إنّما ضمنيّاً. فالسلطة تُشيِّد نظامها المعماري المتّفِق مع استراتيجيّتها، عبر تخطيط المُدن والجسور، استراتيجيّة بناء وفقاً لما تريد، فتشيِّد السجون والمصحّات تحقيقاً للمُعاقَبة، وعليه، تختلف عمارة السجون والمُعتقلات عن غيرها، مثلما يذهب فوكو، في “تاريخ الجنون” و”المُراقَبة والمُعاقَبة”، فتُصمِّم السلطات مبانيها المعماريّة، أكانت دينيّة (بناء المَساجد والكنائس) أم سياسيّة (السجون والإصلاحيّات)، مُسخِّرة التقنيّات اتّفاقاً مع أغراضها السياسيّة والاجتماعيّة.

وراهناً، وفي أثناء كارثة كورونا، تمّ الانتباه بشدّة إلى أثر الصناعة والعمارة في انتشار الفيروس، وكما تقول الإحصاءات، بانتشاره السريع لدى المُهاجرين، وذلك بسبب المَساكن السيّئة المُفتقِرة إلى التهوية الجيّدة ومقوّمات الراحة، وتوافُر حمّام واحد لأسرة من 6 أشخاص. فمن هذا الباب يُمكن أن تُسهم تقنيّات البناء الحديثة في حماية المُجتمعات من الكوارث البيئيّة والأوبئة، ولكنّ الأمر كلّه متعلّق بالسلطة، فلم تنل شركات السكن في أوروبا مثلاً، محفّزات ماليّة من صندوق دعْم المتضرّرين من “كورونا”، بينما أعطي الدعم جزيلاً لشركات لا تستحقّها، أو نالت دعماً مُبالغاً فيه مثل شركات الطيران وغيرها. وهكذا، تُوجِّه السلطة الانتباه نحو ما تريد وتختار انتقائيّاً، وسبق أن حسمَ فولتير مسؤوليّة السلطة واللّاتعايُش والتطرّف بحدوث الكوارث والانهيارات بقوله: “تَسبّبت الآراء والاعتقادات بمُشكلات على هذه الأرض الصغيرة أكثر ممّا تسبّبت به الأوبئة والزلازل”.

ثمّة آراء تقول، بما أنّ التقنيّة سلوك ونِظام استراتيجي للحياة، فالمطلوب تقييده إلى أخلاقيّات تُساعد على التسيير العقلاني، وهذا أمر لمصلحة التقنيّة ذاتها، لكي تتوقّف الادّعاءات الباطلة ضدّها، فهي ذات مرونة وقابليّة للنقاش، ولكنّ الأهمّ، هو تنظيم أخلاقيّات السلطة المُستعصية على الضبْط والتحكُّم، وعندئذٍ نستطيع تنظيم شؤون الحياة برمّتها في ضمان حقوق الكلّ، من الطبيعة إلى الحقوق المدنيّة. ولكنّ تحرير السلطة من قيودها يظلّ حلماً يوتوبيّاً مُحالاً.

بيروت.. تقنيّة للبقاء

تظهر البذرة من جنّة عدن مراراً في فيلم “نوح” من إخراج دارن أرنوفسكي، في بناءٍ دراميّ مُتسلسل، وصولاً إلى لقاء نوح مع زوجته بعد الطوفان وهي تحرث الأرض، أي تجديد الحياة والجغرافيا بعد المأساة، وهذا بالضبط ما قام به جلجامش بعدما يئِس من الخلود الجسدي، كما تقول الملحمة، فخلَّد نفسه في العمران، فبنى أسوار مدينة “الوركاء” جنوب العراق، وفي الأدب، إذ تذكره الملحمة المسمّاة باسمه. وبسبب الكارثة الطوفان، تمّ تقييد الهدْر المجّاني الكيفي من قِبَل الآلهة – السلطة لمصير الإنسان، الذي أصبح سيّداً بعدما كان عبداً؛ فخرجَ على محكمتها العليا إلى قوانينه العليا.

لعلّ انفجار مرفأ بيروت، مهما كانت الوسائل والأسباب، يُسهم في إلغاء الاستنزاف المُستمرّ للوجود وللمُدن، أيّاً تكُن، وللإنسان، أيّاً كان. وبالتأكيد، فالانفجار ليس حَدَثاً مرّ على صخرة. واقتفاءً للطوفان، نقول إنّ السفينة/ المدينة، ولكونها ذات صلة بتاريخ الشرق كلّه، الذي كان في ماضيه الأسطوري والأدبي والديني يُسرِّع النجاة حالما تشتدّ الكارثة، ستحوِّل الفاجعة أو المأساة إلى سواها.

الكارثة في استثمارٍ للوجود المُقاوِم.

***

(*)  شاعر وكاتب من العراق

(*) مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *