صحافةُ بيروت طعمٌ آخر

Views: 132

غسّان الشهابي

الحديث عن الصحافة اللّبنانيّة لن يشبهه الحديث عن أيّ نَوع من الصحافة العربيّة الأخرى، وذلك نظراً لعاملَيْن أساسيَّين هُما: تفرُّد التركيبة الاجتماعيّة البالغة التنوُّع، والتركيبة السياسيّة، وكلّ هذا في مدىً جغرافيّ يُعَدّ صغيراً، وبقيت بيروت تستقطب الأنظار إليها بهذه الخصوصيّة المُغرية والخَطِرة في آن.

لم تبخل بيروت بالحِبر عربيّاً، إذ كانت مَلجأ الكُتّاب العرب الهاربين من أتون بلدانهم، والرّاغبين في أن تتنفَّس مقالاتهم وأفكارهم هواء الحريّة النقي، فأينما ولّى الكُتّاب وذوو الأفكار المُخالِفة (وليس شرطاً المُعارَضة) وجوههم قبل المشرق أو المغرب العربيَّين، فإنّ لبنان هو المآل، حيث يُمكن أن تُنشر هذه المقالات في “سوق” الصحافة اللّبنانيّة. فلقد سبقت بيروت العواصمَ العربيّة في إصدار أشكال الصحافة غير الرسميّة، والتي تُحاول انتزاع نفسها من تأثير السلطات عليها، ولاسيّما أنّ عدداً منها قد أتى والإمبراطوريّة العثمانيّة تترنَّح هَيبتها، وبدا عليها الوهْن، والدول في هذه الحالة قد تتصرَّف بما يتناسب مع عدم قدرتها على ضبْط نفسها. وهذا ما أدّى إلى أن يَستثمر الصحافيّون اللّبنانيّون هذه الأجواء، ليُغامِروا مُغامَرةً عالية الخطورة، أدَّت في بعض مُنحنياتها إلى إعدام عددٍ من الصحافيّين اللّبنانيّين، كما حدثَ غداة إعلان الحرب العالَميّة الأولى، إذ جرى إعدام 31 مُواطِناً منهم 16 صحافيّاً.

من المقولات الكلاسيكيّةالسائدة: “الصحافة مرآة المُجتمع” و”إنْ أردتَ أن تعرف مُجتمعاً، اقرأ صحافته”، لذا كانت الصحافة اللّبنانيّة في النصف الثاني من القرن العشرين في حالة الاستقطاب الشديد، فلقد أدهشت الحريّة التي حازتها بيروت، بصفتها عاصمة الطباعة في الوطن العربي، المُثقّفين العرب سواء أكانوا في المحيط اللّبناني أم أبعد من ذلك، فلقد كانت دولٌ عربيّة عدّة قد بدأت تشقّ طريقها نحو الاستقلال، سواء عن طريق هزيمة المُستعمِر في الحرب العالَميّة الثانية وانسحابه، أم نتيجة قيام الثورات التي قادها – في الأغلب – ضبّاط الجيش، وكانت هذه الدول الجديدة الشكل تتذرَّع بالحاجة إلى الهدوء والتماسُك الداخلي لتتفرَّغ لعمليّة البناء الوطني، فكانت كثيراً ما تشدِّد على وسائل الإعلام المُختلفة، حتّى “لا تخرج عن الخطّ الوطني” أو “الإجماع الوطني”، وقد استمرأ الكثير من الأنظمة العربيّة القمعيّة رفْع خيالات المآتة هذه في وجه الإعلاميّين للحدّ من حريّاتهم لئلّا يُفسدوا عليها مَساعيها الرامية إلى السيطرة على جميع مَفاصل البلاد والتغوّل فيها، في الوقت الذي كانت فيه بيروت تُغذّي بارقة الأمل – ربّما الوحيدة – في الوطن العربي التي يُمكن الإشارة إليها على ما تذهب إليه الصحف من حريّات، بينما البلد لم يتفكَّك.

مثَّلت صحافةُ بيروت التعدديّةَ الواسعة ثقافيّاً ودينيّاً ومَذهبيّاً وعرقيّاً، فكلّ هذا الثراء والتنوُّع الباذخ البالغ رسميّاً 18 طائفة، يقوم في بلدٍ صغير الحجْم لا تزيد مساحته عن 10 آلاف كيلومتر مربّع إلّا قليلاً، وفي هذا معنىً يحسن قراءته، وهو أنّ هذا البلد مكتظٌّ إلى حدّ ما، وخصوصاً في عاصمته، بحيث لا يُمكن للناس أن ينعزلوا وينزووا، وأنّ الاحتكاك دائمٌ بينهم، فلا يُمكن أن تمحو ثقافةٌ ثقافةً أخرى، ويصعب تطويع جميع الطوائف لرأيٍ واحد أو غالب، وخصوصاً أنّ الطوائف لم تتوقّف – في معظمها – عند كونها أحد المكوّنات الثقافيّة للبلد، بل أتبعتها بأحزاب تتشادّ الحقوق وتُغالِب للدفاع عن “أبناء الطائفة”، فلم يحلّ بلبنان ما حلّ بجاراته الكبريات ذوات القربى وذوات الجنب، من حيث سطوة الصوت الواحد على المشهد الإعلامي برمّته، فليس هذا بمسموح به في لبنان نظراً لطبيعته التعدديّة، وهذا ما كان يجعل المفكّرين و”المُخالفين” العرب يلجأون بأنفسهم أو بأنفسهم وأفكارهم إلى هذا البلد الذي يُمكنه أن يمدّهم بهذه الفسحة التي تعزّ عليهم حيث هُم.

لذا، غابت عن صحافة لبنان اللّغة الواحدة المُهيمِنة والصارمة والمُتناسِخة بين الصحف جميعاً، واكتسبت الصحافةُ والإعلامُ اللّبنانيّان لغةً إعلاميّة متفرّدة ساعدت كثيراً على إثارة الإعجاب الكبير في المشرق العربي، فتوافقت الصورة الذهنيّة عن الذائقة اللّبنانيّة العالية في شتّى مناحي الحياة، وما تكتبه صحافة هذا البلد.

للمال سطوته الكبرى

وبينما هناك مَن يرى أنّ التعدُّد قوّة، يراه آخرون ضعفاً وتخلخلاً إذا لم تكُن له من غاية عليا، أي إذا لم يعلُ الوطن على التعدُّد هذا، فيُصبح التعدُّد في خدمة الوطن لا العكس. وهذا بالضبط ما هو حاصل في لبنان – على الرّغم من المُكابَرة الرسميّة – فإنّ تعدّديّته التي تقوم فيها الطوائف الكبيرة بشدّ أطراف البلاد وشلّها عن الحركة، قد انعكست بأشكالٍ عدّة على الإعلام اللّبناني، ومن أهمّ تمظهرات هذا التشادُد تجلّيه في الصحافة أيضاً بوصفها المرآة العاكسة.

فكما تسابَق المُثقّفون و”المُخالِفون” من خارج لبنان إلى داخله لينعموا بالحريّة والانفتاح، تسابقت القوى الإقليميّة أيضاً لصدّ هذه الأقلام وشراء منصّات النّشْر المُختلفة أو التأثير عليها ما وسعها ذلك، أو إحداث ضغط على مُتّخذي القرار في عدد من الصحف والمنصّات الإعلاميّة لتُوازِن بين نشْر مقال أو تلقّي دعم من هذه الجهات، وأحياناً تلقّي تهديد أو تنفيذ هذا التهديد. وفي تطوُّرٍ لافت، وربّما يكون فريداً في الوطن العربي أيضاً، قيام صحيفة لبنانيّة كمُتحدّثة رسميّة عن أنظمة وأفكار معيّنة، سواء في الداخل اللّبناني أم خارجه، وهذا ما سمّي بصحافة المهجر، ولكنّ اللّبناني كان يُنسب إلى المدرسة اللّبنانيّة. فبات من المعروف أنّ هذه الصحيفة أو تلك مثلاً، هي لسان حال هذا البلد العربي أو ذاك، أو أنّها تميل إلى هذا أو ذاك، ولا عجب، لأنّ للمال سطوته الكبرى في المؤسّسات غير الحكوميّة، إذ يهمّها ضبْط كشوف الربح والخسارة الماديَّين في آخر العام في عالَمٍ يخلو من المثاليّات التي قد تودي ببعض المؤسّسات الإعلاميّة إلى الإفلاس، إن جرى الاستسلام لها تماماً.

ولا يُمكن نسبة الحديث عن سياسة ” لَيّ الذراع” أو “الابتزاز الإعلامي” إلى الصحافة اللّبنانيّة حصراً، لأنّ هناك أنساقاً في هذا الاتّجاه، بالكتابة عن بعض الدول العربيّة “الهشّة” التي لم تكُن تملك إعلاماً موازياً قويّاً ومتنوِّعاً وهادراً، فكانت تحاول اتّقاء عدد من رؤساء التحرير بمَبالغ ماليّة، إمّا للسكوت، وإمّا للكتابة المادحة والملمِّعة. هذه الثلمة في تاريخ الصحافة اللّبنانيّة ما كانت لتوازي ما قدّمه هذا القطاع من تضحيات اعتبرت قرابين من أجل النهوض بالصحافة والإعلام اللّبنانيّين، وكلّه في سبيل حقّ الجمهور في الاطّلاع على ما يجري. لذا تقاطرَ شهداء الصحافة والإعلام في لبنان بين العامَين 1915 و1916 حتّى الأمس القريب، إذ استشهد في سبيل عمله أناسٌ نذكر منهم عبد القادر الخرسا ومحمّد ومحمود المحمصاني، وعبد الكريم خليل، والشيخ أحمد طبّارة، وسعيد فاضل عقل، وعُمر حمد، وعبد الغني العريسي، وفيليب وفريد الخازن.

وعلى مدى العقود التالية، وصولاً إلى الحرب الأهليّة وتداعياتها حتّى الأمس القريب، فُجعت الأوساط الصحافيّة اللّبنانيّة والعربيّة باستهداف كلٍّ من الصحافيّين المُميّزين: نسيب المتني، وكامل مروّة، وفؤاد حدّاد، ورياض طه، وسليم اللّوزي، وجبران تويني، وسمير قصير، إضافة إلى شهداء الإعلام المرئي.

بيروت خطٌّ إبداعيّ

في واحدة من أهمّ المحطّات القريبة جدّاً من الذاكرة، رجوع صحيفة “الحياة” اللّبنانيّة إلى الحياة مجدَّداً قبل نهاية العقد الثامن من القرن العشرين، ولكنّها عادت لتُصبح صحيفةً ذات انتشارٍ عربيّ، وليس لبنانيّاً محلّيّاً، وباتت لها طبعات في عدد من العواصم العربيّة والدوليّة. هذه العودة عرَّفت القارئ العربي على طَعْمٍ جديد للصحافة لم يكُن قاسياً وذا رائحة احتراق، كما تفعل الصحف الحزبيّة العربيّة المُعارِضة التي تحيل نهار القارئ إلى ركامٍ من البؤس، ولا هي الصحيفة الرسميّة تماماً (وإن كانت بتمويلٍ رسمي) المُثقلة بالبروتوكولات والمُجاملات والخطاب الرثّ، بل أخذت نصيباً من العمل الإعلامي بمعناه الواسع والحديث. وإذا ما أردنا اختزال تجربة صحيفة “الحياة” تحديداً، فسنقول: المهنيّة الأنيقة.

هذه الأناقة اللّبنانيّة ألقت بأنوارها على الكثير من الصحف العربيّة، شكلاً ومضموناً، وشكَّلت خطّاً جديداً في التناول الصحافي العربي للقضايا، بدءاً من كتابة مَصادر الأخبار، مروراً بالصياغة المهنيّة. كما أثار تصميم الصحيفة، والآتي من تصميم الصحافة اللّبنانيّة بشكلٍ عامّ، غيرةً “حميدة” لدى عددٍ من الصحف، وخصوصاً الجديدة منها التي كانت تبحث عن نقاط تميُّز تكون لها علامة فارقة مع مُنافساتها القدامى، فصارت صحيفة كـ”الحياة” دليلاً استرشاديّاً لمَن أراد صناعة صحيفة حديثة ومهنيّة، “دسمة” من دون تخمة.

في هذه الفترة التي شهدت تحوّلاتٍ عدّة على المستويَين العربي والعالَمي، شهدت الكثير من الدول العربيّة، وبينها دول الجزيرة العربيّة كافّة، طفرة حادّة في عدد الصحف الجديدة، وبدأت أنظار مؤسّسي الصحف تتّجه لاستقطاب تجارب مهنيّة من بيروت على أمل الوصول بهذه المشروعات الوليدة إلى المستوى اللّبناني من الصحافة التي عرفها أصحاب الاختصاص كـ “النهار” و”السفير” على وجه التحديد، و”الحياة”، كما عرفها الجمهور العربيّ العريض.

بعدما بَسَطَت أنواعُ الإعلامِ الجماهيريّة، كما كانت تسمّى سابقاً، “التقليديّة” كما تسمّى اليوم، رداءها على المشهد الإعلامي بشكلٍ كامل على مدى أكثر من 160 عاماً انطلاقاً من العاصمة بيروت، لتطبق شهرة الإعلام اللّبناني الآفاق كطعْمٍ مُتفرِّدٍ ومُغايرٍ للإعلام العربي، عادت لتتراجَع إلى حدودٍ أقلّ ممّا كانت عليه في العقود الثلاثة الماضية بعد سيطرة منصّات التواصل الاجتماعي على المشهد بشكلٍ عامّ، وتقلُّص عدد الصحف الورقيّة عمّا كان عليه، إمّا لاحتجابها أو لانتقالها إلى الفضاء الرقمي، في الوقت الذي تُواجِه محطّات الإذاعة والتلفزيون التفكير الجدّي بإمكانيّة تغيير نمط الإنتاج فيهما لتقليل الكلف الماديّة. ومع كلّ هذا، سيبقى هذا الإعلام الذي خرجَ من بيروت، فخَرَقَ الاعتياديّ والبسيط واليوميّ، وأسَّس لغةً صحافيّة أخرى ما كانت معروفة من ذي قبل، وربّما لم تُحسن صحافةٌ أخرى أن ترتدي عباءته، سيبقى علامةً مُضيئةً تشهدُ أنّ بيروت خطٌّ إبداعيٌّ يمسّ كلّ ما يُجاوره و”بيروتيّته” ذات لَون لا يُمكن تقليدُه أو النسْجُ على منواله.

***

(*) كاتب صحافي من البحرين

(*) مؤسسة الفكر العربي- نشرة أفق

(ctlsites.uga.edu)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *