شارل مالك الفيلسوف العربي الأعمال الكاملة

Views: 105

د. أديب صعب

بما أني واحدٌ من الذين عرفوا الدكتور شارل مالك عن كثب عبر العمل معه والتتلمذ عليه، فسوف أستهل الكلام عنه بشهادة شخصية. عندما دخلتُ الجامعة الأميركية في بيروت طالباً في الآداب، كنتُ أَنشد، أولاً، الثقافة الانسانية التي وَجد فيها الفيلسوف الأسباني خوسيه أُورتيغا إي غاسيت (1883-1955) لبّ كل علم جامعيّ، إذ إنها، على حد تعبيره، تُوصِلُنا إلى الانسان وراء المهندس والطبيب وأيّ اختصاصي آخر، مضيفاً أنّ الجامعات إنما تخرّج حَمَلة درجات أُمّيين بدون هذه الثقافة(1). كانت الجامعة الأميركية من المؤسسات التي آمنت بالعلوم الليبرالية وأمّنتها لطلابها من كل الاختصاصات، فجعلتنا نقرأ روائع الفكر والشعر والدين والرواية والمسرح والتاريخ والعلوم الاجتماعية من سوفوكليس إلى سارتر. في الفصل الثاني من سنتي الأُولى قررتُ التركيز على اللغة والأدب العربيين لشهادة البكالوريوس. وحدث في مطلع السنة الثانية أن انضمّ إلينا في صفوف الأدب رجلٌ وَقور في سنّ آبائنا، عرَّفَنا عن نفسه بأنه الراهب لوقا الدومينيكي، رمزي مالك، الذي، بعد ردح أمضاه متغرّباً، كاد أن ينسى قواعد اللغة العربية الكلاسيكية، كما قال. لذلك كان هدفه من العودة إلى مقاعد الجامعة التعمق من جديد في لغته الأُمّ.

في أيام قليلة نشأت بيني وبين رمزي مالك صداقة دامت عمراً. صرت أقرأ عليه كل ما أكتب وهو يقرأ عليّ أيضاً كل ما يكتب. وذات يوم من تلك السنة الجامعية (الجونيور)، فاتَحَني بأنّ شقيقه الدكتور شارل مالك يبحث عن مساعد له يعرف الانكليزية والعربية معرفةً لائقة، وأنه، أي رمزي، يظنني ذلك الشخص. وإذ عبّرتُ له عن موافقتي على الفكرة، أخذ لي موعداً كي ألتقي أخاه. وفي الموعد المحدَّد كنتُ في بلسّ هول للمرة الأُولى. أدخلتني سميرة صليبا، وهي معاونة الدكتور مالك طوال سنوات، إلى مكتبه، فإذا بي أمام قامةٍ جسدية تليق تماماً كي تؤوي تلك القامة المعنوية. استقبلَني بحفاوة أبوية وأفصحَ لي عما يتوقع مني، وهو جَمْعُ كتاباته في اللغتين العربية والانكليزية وفهرستها وتصنيفها في مجلدات إعداداً لنشرها تباعاً. وأعطاني غرفةً في مكتبه الرحب في الجامعة، صرتُ أعمل فيها كما في مكتبته البيتية الكبيرة في الرابية.

بعد نحو سنتين تكوّنت لدينا مجموعة من المجلدات وزّعناها على موضوعات، منها: الفلسفة، الايمان، لبنان، حقوق الانسان، الشؤون الدولية، الخطابات، المقالات، المقابلات… حتى العلوم الطبيعية، التي عمل فيها مالك فترة وجيزة في مصر قبل سفره إلى الولايات المتحدة لمتابعة دراسته الفلسفية، كان لها مجلَّد في تلك المجموعة. وبعد مغادرتي الجامعة لمتابعة دراستي في الخارج، كنتُ أتوقع أن يباشر الدكتور مالك نشر كتاباته بطريقة منهجية، فتتكوّن لديه، خلال فترة قصيرة، مجموعة أعمال كاملة. وقد بدأ ذلك المشروع فعلاً بعمل فلسفي أساسي هو “المقدّمة” التي صدرت في طبعتها الأُولى عام 1977 بإشرافه الشخصي. وكان قد نشر كتباً صغيرة تتناول شؤوناً دينية ولبنانية، إضافةً إلى كتب، صغيرة أيضاً، في الانكليزية، جَمع بعضَها من تلك المجلدات. لكنّ ظروف الحرب الأهلية واعتلال صحته منعته من متابعة العمل. هكذا رحل فيما لبثت معظم محتويات المجلدات غير منشورة في كتب. وكان حسناً صدور “المقدمة” في طبعة ثانية(2)، أضاف إليها الدكتور جورج صبرا موادَّ جديدة. كما كان حسناً صدور مجلد، بهمّة الدكتور حبيب مالك، يحوي الكثير من كتابات والده في حقوق الانسان(3).  

Adib Saab
د. أديب صعب

 

لغة شارل مالك

ما يهمني بنوع خاص هو كتابات شارل مالك التي وضعها أساساً في العربية. الملاحظة الأُولى التي أودّ إبداءها هنا تتناول لغة مالك بالمقارنة مع اللغة السائدة على نطاق واسع في المؤلفات الفلسفية العربية. وهنا مثَلٌ ٱستهَلَّ به “المقدمة”: “كلنا غرباء. أنا أعرف تماماً أني غريب، وأزعم، أيها القارئ، أنك أنت أيضاً غريب. غرابتك أنك طافح بالأسرار التي أجهل، بل والتي تجهل أنت أيضاً. وهذا هو الأغرب. غرابتك أنك تَجيش بالمهام التي لستَ واثقاً منها أنت نفسك. إنك مثلي، تتلمس أسرارك. ومعنى حياتك كلها في هذا التلمس. إنّ سرّك الدفين هو أنك تريد، مثلي، إنهاء تغربك والعودة إلى كنانك، وتفتش، مثلي، عن طريق العودة. متى نعود؟ وكيف نعود؟ وإلى أين بالذات؟ وإلى مَن؟ ثم هل نستطيع العودة؟… وهل من طبيعة كياننا أن نبقى غرباء، نعاني حسرات الغربة؟ تلك هي الأسئلة الأخيرة الحاسمة. التغرب هنا لا يعني التغرب المكاني. فالقابع في داره أو بلده تسعين عاماً هو أيضاً متغرب. وسقراط، الذي لم يهجر أثينا يوماً واحداً طيلة حياته، كان هو لربما أشد البشر تغرباً”(4).

هذه اللغة الفلسفية البسيطة عينها نقع عليها في كتابات مالك حول شؤون الايمان ولبنان والقضايا الدولية وسواها. لكن لنقارن لغته باللغة التي نقرأُها في بعض الكتابات الفلسفية العربية. وهنا مثل من مفكر مرموق متنور: “أما اللاتناهي الحقيقي فهو ذلك الناشئ من اندراج الآخر في الذات، بحيث لا يكون الآخر حداً وبالتالي سلباً، بل جزءاً مكوِّناً لوجود الذات. وهذا يتمّ بالإمساك بطرفَي العملية، دون أن ندع أحدهما يفرّ وحده من الآخر…”(5). ونتابع من الكتاب نفسه: “ولعل في هذا ما يعيننا على فهم طابع الزمانية بالنسبة إلى المقولة الثلاثية السابقة، مقولة الطفرة. فإنّ الطفرة تُعَدّ تقهقراً بالنسبة إلى التعالي: إذ إننا في التعالي نَقذف إمكانياتنا أمامنا، وفي الطفرة نحاول أن نرتد من هذه المواقع الأمامية إلى مواقع خلفية هي التي علينا أن نغزوها ونؤثّر فيها بالفعل. وهذا الارتداد يتمّ بواسطة الطفرة لأنها، كما قلنا، الأصل في التأثير والفعل…”(6).

Plato and socrates

 

هذا النوع من اللغة المعقدة يميز الكثير من الكتابة العربية المعاصرة لا في الفلسفة فحسب بل في معظم حقول الانسانيات، من علم اجتماع وعلم نفس وتربية وعلوم سياسية ولاهوت ودراسات لغوية وأدبية. هذه ملاحظة خطيرة جداً، يجدر بالأساتذة الذين يشرفون على رسائل جامعية في هذه الحقول وما يجاورها توجيه طلابهم إليها وحفزهم على اختيار رداءة اللغة موضوعاً لرسائل بعضهم الجامعية. وتحت رداءة اللغة يندرج الكثير من الكتب العربية المعتمَدة للتعليم الجامعي (textbooks) في الحقول المذكورة، وهي، في أحيان غير قليلة، منقولة نقلاً حرفياً أو شبه حرفي عن كتب أميركية وغربية عموماً، بلغة عربية تفوح منها رائحة الترجمة الركيكة، ومع ادّعاء مترجميها أنهم مؤلّفوها. لم يفهم مالك بالبساطة الفلسفية تبسيطاً للأُمور فوق ما تحتمل وابتعاداً عن التعمق. بل جمع بين عمق الفكر وبساطة العبارة. وهنا عين البلاغة. وفي فلسفتنا العربية المعاصرة عدد ضئيل جداً من الكتّاب الذين أعطوا قراءهم أفكاراً جدية عميقة في أبسط ما يمكن من عبارة. ومن هؤلاء الفيلسوف المصري زكي نجيب محمود (1905-1993).

لقد أدرك محمود، كما أدرك مالك، أنّ قارئ الفلسفة، مثل قارئ الأدب، ليس محصوراً في طلاب الفلسفة الجامعيين، بل هو كل طالب جامعي من أيّ اختصاص علمي أو أدبي أو فني أو تقني، وهو طالب الثقافة عموماً حتى من خارج الجامعات. لذلك اقتصد مالك في استعمال المصطلحات التقنية الخاصة بالفلسفة واعتمد لغة الخطاب العادي على غرار العديد من الفلاسفة في العالم الناطق بالانكليزية. ولم يتبنَّ من المصطلحات التقنية إلا ما لا يُستغنى عنه في سياقه. وكان يفسّر معنى كل عبارة تقنية لدى ورودها للمرة الأُولى كما فعل بالنسبة إلى الفلسفة “الظهورية”. “ومن أمتع أساليبه التعليمية”، كما قلتُ في أحد كتبي، “التوقف أحياناً عند عبارة إنكليزية – إذ كان يحاضر جامعياً بالانكليزية – والسؤال عما يقابلها في العربية. وكان الطلاب يفكرون، ويقدّم بعضهم أجوبة تختلف من واحد إلى آخر. من تلك الكلمات integrity، وكان مقابِل مالك العربي لها “السلامة”، بمعنى تَماسُك الشخصية النفسي والخُلقي، و intimacy، وكان هو يقابلها عربياً بالودّ أو المودّة. ومن كلماته أيضاً dogmatism، وكان يعرّبها بالتزمت أو النزعة التزمتية”(7).  

كان شارل مالك نَزوعاً بطبعه نحو التبسيط. وحبذا لو كان هكذا المؤلفون والمدرّسون في الفلسفة والانسانيات عموماً. ولئن كان هذا التعقيد في الكتابة والكلام يطغى، إلى حد أو آخر، على الانسانيات في لغات العالم، مع استثناء الكثير من الأدبيات الأنكلوسكسونية، لكنه يميز الكتابة العربية بمقدار كبير. من الأخطاء الشائعة حول الفلسفة أنها، بطبيعتها، نظامٌ فكري صعبٌ لأنه يتناول أفكاراً عميقة مقصورة على خاصة الناس ولا تستطيع العامة إدراكها. وقد اختبرتُ هذا الخطأ سنةً بعد سنة في تعليمي الفلسفة، إذ كان طالبٌ أو آخر يسألني، بعدما قطعنا شوطاً مع الفلسفة القديمة أو الوسيطة أو الحديثة: “متى نبدأ الفلسفة؟”. فأُجيب: “لقد بدأنا بالفلسفة التي سبقت سقراط، ثم تناولنا سقراط وأفلاطون وأرسطو. وها نحن أمام الرواقية وسواها من مذاهب الفلسفة القديمة… فما معنى سؤالك؟”. وكان يأتيني هذا الجواب: “المادة التي عالجناها حتى الآن واضحة جداً. لكنّ ما لقّنونا إياه من فلسفة قبل الجامعة جعلنا نكوّن فكرة عن الفلسفة أنها مادة شديدة التعقيد وصعبة على الادراك”(8). هذا بعض محنة الفلسفة في العالم العربي اليوم. وهي محنة صنعتها أسماء، بعضها كبير شكلاً ومضموناً. هؤلاء لم يدركوا – وهم يلقون خطابهم على الناس – أنّ لكل خطاب طرفين: المخاطِب والمخاطَب، وأنّ أبسط حقوق المخاطَب أن يفهم ما يلقى عليه من كلام. وبما أنّ الكثير من الخطاب الفلسفي، خصوصاً العربي، خارج نطاق الادراك، أرى إلى العديد من المشتغلين بالفلسفة في عالمنا العربي المعاصر كمجموعة من الممثلين الذين يصرّون على تأدية دورهم المعتاد فوق الخشبة وهم لا يلاحظون أنّ النظّارة غادرت المسرح.

جرجي زيدان

 

شارل مالك، كما قلنا، كان واضحاً بطبعه. وأُقدّر أنّ وضوحه وقدرته على الايضاح إنما اشتدّا بفعل ثقافته الأنكلوسكسونية والعربية على السواء. وقد كانت ثقافته العربية نتاجاً للنهضة الفكرية واللغوية التي أطلقها في هذه الديار الآباء المؤسسون للكلية السورية الانجيلية، وهي الجامعة الأميركية في بيروت لاحقاً، وفي طليعتهم كورنيليوس فاندايك (1818-1895). وقبل أن يكون فاندايك مترجماً للكتاب المقدس ومؤلفاً للكتب الطبية والعلمية باللغة العربية، كان مؤسساً للجمعية السورية في بيروت عام 1847، التي انبثقت النهضة العربية الحديثة في جناحها الشامي من رحمها، بعدما كانت النهضة، في جناحها المصري، انبثقت من حركة الترجمة والنشر التي أطلقها رفاعة رافع الطهطاوي في أعقاب جملة نابوليون على مصر. واندمجت النهضتان بعد هجرة عدد كبير من المثقفين الشاميين إلى مصر، وجلّهم من طلاب الكلية السورية الانجيلية. وأخصّ بالذكر جرجي زيدان (1861-1914) الذي أسس في القاهرة مجلة “الهلال” الثقافية ودار الهلال للترجمة والنشر. وإلى روايات زيدان وأبحاثه الكثيرة عن التاريخ الاسلامي والآداب العربية، تولّت دار الهلال نقل عدد كبير من روائع الأدب العالمي إلى اللغة العربية. ولا ننسَ أثر التنويريين المهجريين في لغة مالك العربية، وفي طليعة هؤلاء جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وأمين الريحاني.     

وبما أنّ الانسان مفطور على طرح الأسئلة، ها أنا أطرح علناً سؤالاً طالما طرحته على نفسي، هو الآتي: لو اختار شارل مالك اللغة العربية للتعليم والتأليف الفلسفيين، أما كان وضعُ الفلسفة العربية أفضلَ اليوم؟ وبمنطق مجاور أسأل: لو استمر كورنيليوس فاندايك في تعليم الطب باللغة العربية، أما كان العالم العربي مساهماً، كمجتمع لا كأفراد، في النهضة الطبية العالمية؟ إنّ النهضة التي ساهمت الكلية السورية الانجيلية في إطلاقها قامت، إلى أبعد الحدود، على اللغة العربية. ويستطيع الراغب أن يتحرى عن خلاف فاندايك مع إدارة الكلية عند قَصْرها لغة تعليم الطب على الانكليزية. ولو وجد الدكتور مالك نفسه في الجامعة الأميركية في دائرة فلسفة تعتمد اللغة العربية للتدريس، لكان في ذلك حافز له على وضع معظم مؤلفاته بالعربية، في موضوعات مثل تاريخ الفلسفة وبعض شخصيات الفلسفة القديمة والحديثة وتوما الأكويني والفلسفة الخُلقية. ولكان لدينا، منذ زمن بعيد، تاريخٌ للفلسفة في اللغة العربية، أصيل وغير مترجَم، لا يقل شمولاً ودقةً وروعةً عن تاريخ فردريك كوبلستون (1907-1994) في اللغة الانكليزية، الذي اعتمده مالك مرجعاً دراسياً لطلابه.

Father Frederick Copleston

 

لقد درّستنا الجامعةُ الأميركيةُ الفلسفةَ – كما هي حال دوائر الانسانيات باستثناء الدائرة العربية طبعاً – باللغة الانكليزية وحدها. لكن لو اعتمدت العربية مع الانكليزية لغتين أساسيتين، كما كانت الحال أيام الكلية السورية الانجيلية، إلى جانب لغات أُوروبية أُخرى حديثة وقديمة تفيد الطالب في قراءة المراجع والبحث العلمي، لكانت الكتابة العربية في الفلسفة والانسانيات أفضل كثيراً مما هي عليه اليوم. كذلك لكان لنا في العربية، إلى جانب الكتب الفلسفية الموضوعة أصلاً في لغتنا الأُمّ، مكتبة ضخمة تحوي الروائع المترجَمة من اللغات الكلاسيكية والحية. ولا أتصور أحداً أجدى من شارل مالك بالقيام على مشروع من هذا النوع. فهو كان أحد الانسانيين العالميين الكبار في عصره، من أمثال: ألفرد نورث وايتهد، خوسيه أُورتيغا إي غاسيت، مورتيمر آدلر، جون إرسكين، جاك ماريتان، كريستوفر دوسون. لقد أدرك مثلهم أنّ الانسانيات هي لبّ الجامعة. وطالما طلبت إليه إدارة الجامعة اقتراح كتب تضاف إلى لائحة الثقافة العامة. يومئذٍ كان العديد من طلاب الجامعة يَنشدون الثقافة غايةً في ذاتها، قبل أن تتحكم فكرة سوق العمل بالدراسة الجامعية على حساب الثقافة الانسانية، كأنما الاثنان لا يجتمعان. أقول، لم يكن أحد ممن عرفتهم أجدى من مالك باختيار الروائع المئة أو المئتين أو الخمسمئة أو الألف لنقلها إلى العربية. لو حصل هذا، لكنا نتنعّم اليوم بأعمال أفلاطون وأرسطو الكاملة منقولةً من اللغة اليونانية، وأعمال فلاسفة القرون الوسطى منقولةً من اللاتينية، وأعمال كانط وهيغل وفويرباخ وماركس منقولة من الألمانية، وأعمال هوبس وبيكون ولوك وهيوم منقولة من الانكليزية، وأعمال دوستويفسكي وتولستوي من الروسية، وأعمال ديكارت وسارتر وكامو من الفرنسية، وأعمال وأعمال وأعمال من الاسبانية والايطالية وكل اللغات ذات التراث العالمي. وما نراه من كتب فلسفية منقولة إلى العربية من لغاتها الأصلية، خصوصاً في مصر، يعود إلى عصرٍ ذهبيّ غابر، لكنه لا يندرج ضمن مشروع منهجي لنقل الأعمال الكاملة لهذا المؤلف أو ذاك ولمجوعات مؤلفين. وكانت الترجمة يومئذٍ توضَع بين أيدي كتّاب كبار موهوبين، ولا يُعهَد بها إلى هواة.  

 

هنا أقترح أن تتيح كل دائرة جامعية بلا استثناء، سواءٌ أكانت في الانسانيات أم في العلوم، لطلابها الراغبين شهادة إضافية في الترجمة تقوم على ستّ مواد مثلاً، كما كانت حال “دبلوم فن التعليم” في الجامعة الأميركية في بيروت. يمكن أن يَدرس طالب الفلسفة أو التاريخ أو الاقتصاد أو الآداب أو العلوم السلوكية أو الكيمياء أو الطب أو الهندسة، أعني الطالب الراغب في تعريب كتب من حقل اختصاصه، هذه المواد خلال سنوات اختصاصه، أو أن يكرّس سنة لهذه الدراسة تلي تخرجه. هكذا تُحصَر ترجمة التاريخ، مثلاً، بأشخاص يحملون دبلوم الترجمة إلى جانب درجتهم في التاريخ. والشيء نفسه ينطبق على الفلسفة والآداب والعلوم الاجتماعية والطبيعية وأي موضوع آخر. أما دوائر الترجمة الجامعية فهي تخرّج مترجمين قانونيين ومترجمين فوريين. وعلى ضرورة هذا النوع من الترجمة وأهميته، إلا أنه آن الأوان حتى يكفّ الناشرون عن التعامل مع هذه الطبقة من المترجمين لنقل كتابات من أفلاطون، مثلاً، عن الفرنسية أو من دوستويفسكي عن الانكليزية.

كنت أتمنى أن يقوم شارل مالك على مشروع من هذا النوع في رعاية مؤسسة. وأيّ المؤسسات أجدر من جامعة لإطلاق هذه المشاريع؟ لكن لا جامعة مالك فعلت، ولا هو اعتمد العربية لمزيد من مؤلفاته. وَلْنقرأ ما كتبه في توطئة “المقدمة”: “أما تصميمي الحاضر فيشمل، بعد المجلدين الأولين، وهما “المقدمة” بقسميها، بضعة عشر مجلداً، هي الآن في مراحل متفاوتة من التحضير، تتناول، أولاً، العلم (مجلد واحد)؛ ثانياً، الفلسفة (أربعة مجلدات: مدخل تمهيدي، الميتافيزيق والأخلاق، بعض المفكرين القمم في التاريخ، الحرية والانسان)؛ ثالثاً، السياسة (أربعة مجلدات: الشرق الأوسط، الأُمم المتحدة، الصراع الإيديولوجي العالمي، مجد الغرب وانحطاطه)؛ رابعاً، لبنان (مجلدان: القضية اللبنانية، وثائق دولية)؛ خامساً، الايمان (خمسة مجلدات: في الكتاب المقدس، في الحياة الروحية الشخصية، في الحياة الليتورجية، في الحركة المسكونية، الصراع في المسيح مع الشيطان). وتصميمُ كل مجلد أن يحتوي مواد سبق أن نُشِرَت باللغة العربية، ومواد سبق أن نُشرت باللغة الانكليزية وعُرِّبَت للنشر في المجلد المختص بها، ومواد جديدة باللغتين العربية والانكليزية لم تُنشَر من قبل، الانكليزية منها عُرِّبَت لنشرها في المجلد المختص بها”(9).

شارل مالك على منبر الأمم المتحدة

 

نطاق الفلسفة

قد يتراءى لبعضهم، وبين هؤلاء عدد من المشتغلين بالفلسفة، أنّ شارل مالك لم يكن فيلسوفاً لأنه وزّع اهتماماته على حقول كثيرة، منها العلم والاجتماع وحقوق الانسان ورسالة الجامعة والسياسة والدين. لكن يبدو أنّ هؤلاء لم يطالعوا أعمال أفلاطون الكاملة. فهي تحوي هذه المواضيع كلها، التي عالجها أفلاطون بناءً على فلسفته الميتافيزيقية أو الوجودية وعلى مفهومه للمعرفة. هكذا فعل مالك أيضاً بإطلاقه اسم “المقدّمة” على باكورة أعماله الكاملة بالعربية، إذ شاء أن تكون فلسفته الوجودية، أو “الكيانية” كما فضّل أن يدعوها، أساساً لنظراته في العلوم الطبيعية والاجتماعية وفي السياسة والدبلوماسية والعلاقات الدولية وفي شؤون الايمان. وهو، على غرار أفلاطون وأرسطو والفلاسفة الكبار، كان يؤمن بأنّ لكل نشاط إنسانيّ فلسفته: فهناك، مثلاً، العلم وفلسفة العلم، السياسة وفلسفة السياسة، الفنّ وفلسفة الفن، الدين وفلسفة الدين. وعندما كتب مالك في العلم والسياسة والدين، فهو إنما كتب كفيلسوف، مُرْسِياً فلسفاته الجزئية، إنْ جاز التعبير، أي مفاهيمه في العلم والاجتماع والسياسة والدين وما إليها، على فلسفته الكلية الميتافيزيقية التي كرّس “المقدمة” لعرضها.

من هنا أخذ بعضهم على مالك المثالية في السياسة، قائلين إنه انحرف بذلك عن طبيعة السياسة المتعلقة بشؤون الناس اليومية. لكن حبذا لو حذا أهل السياسة، في الشرق والغرب، حذو مالك المثاليّ. فالسياسة معنية ليس فقط بما هو كائن، لكن بما يجب أن يكون أيضاً. وما يجب أن يكون إنما هو مثالٌ يجدر أن يضعه أهل السياسة نصب أعينهم ويرسموا الخطط لتحقيقه. بدون هذه المثل لا يمكن أن يحصل أي إصلاح اجتماعي. وإلى حد كون السياسة مثالية بهذا المعنى، فهي قائمة على الأخلاق؛ والأخلاق، أكثر من أي نظام آخر، معنية بما يجب أن يكون، أي بالمثُل. لذلك جعل أرسطو فلسفته في الأخلاق مدخلاً إلى فلسفته في السياسة. وعندما كان مالك في أربعينات القرن الماضي سفيراً في واشنطن للجمهورية اللبنانية الناشئة، فعل ما لم يفعله ربما أي سفير آخر للبنان في أي عاصمة من عواصم العالم وما لا يفعله عادةً سوى قلّة من سفراء أي دولة. فهو كتب تقارير إلى الحكومة التي انتدبته، يصف فيها الوضع العالمي في أعقاب الحرب العالمية الثانية ومواقف القوى العظمى التي شاركت في الحرب والسلم، كما ينصح حكومته بما يحسن فعله وسط تلك الأوضاع العالمية من أجل خير لبنان حاضراً ومستقبلاً. لكن يبدو أنّ مفهوم الحكومة اللبنانية الوضيع للسياسة، بمعنى مواجهة الأُمور اليومية في أوقاتها مواجهاتٍ ظرفية بعيدة عن المثل العليا والرؤى الخلاقة ومرتكزة إلى مصالح السياسيين الشخصية، كان أضيق من النظرة الاستشرافية الرحبة لسفيرها الفيلسوف، فنأت بنفسها عن قراءة تقاريره المتنورة، التي يقال إنها لبثت مختومةً ضمن ظروفها إلى أن فضّ مالك أختامها وهو وزيرٌ للخارجية.

Bertrand Russell

 

وإذا استطردنا قليلاً، لكن من ضمن الفلسفة كما أرى، لذكرنا نقد بعضهم لسياسة مالك المنحازة، إذ “كان موالياً للدول الغربية بصورة عامة وللولايات المتحدة بصورة خاصة، لأنّ همّه الرئيسي كان مجابهة الاتحاد السوفياتي والقوى المتحالفة معه، سواءٌ على الصعيد المحلّي أم الاقليمي أم العالمي”(10). لكن أوَليس هذا الموقف حقاً من حقوقه، وهو المدافع العنيد عن حقوق الانسان، وسط معسكرَين آنذاك، يدوس أحدهما، وهو المعسكر السوفياتي، على أبسط هذه الحقوق، فيما يَنصر الآخر، على الأقل نظرياً، حرية الشعوب في تقرير مصيرها؟ ولا يغيبنّ عن بالنا أنّ نظرة مالك إلى الغرب نظرة حضارية قبل أن تكون نظرة سياسية، وأنّ روسيا ومنظومتها هي في صلب هذه الحضارة. وهو، في رفضه النظام السوفياتي، إنما تمنّى عودة روسيا إلى أصالتها. وكما انتقد السياسة السوفياتية لانحرافها ببلد عظيم مثل روسيا عن قيمه، هكذا وقف في المحافل الغربية، ولا سيما الأميركية، ينتقد الغرب السياسي نقداً بلغ حد التأنيب لانحرافه “عن قيمه الحضارية وعن الروح الانجيلية الصحيحة، خصوصاً من جهة سوء التصرف بالحرية وتحويلها فوضى نفسية واجتماعية وعالمية”(11). ولئن صحَّ أنّ مالك كان مغالياً في انحيازه إلى الغرب السياسي، فهذا النقد من قبيل الحكم على الماضي في ضوء الحاضر. فالمعسكر الذي راهن عليه كان، حسب ظواهر الأُمور، جادّاً في نصرتنا، قبل أن يسفر عن وجهه الحقيقي أو يلبس وجهاً آخر، وهو وَضْعُ مصلحته فوق كل مصلحة أو اعتبار، وإنْ اقتضت تلك المصلحة شراء أعدائه بثمن لا يقل عن التضحية بأصدقائه. لكن مهما كان الأمر، فإنّ موقف مالك الحضاري هو الأصل أو السبب، وموقفه السياسي هو الفرع أو النتيجة. ولْنذكر أنّ بين مشاريعه التأليفية التي لم تبصر النور واحداً حول “مجد الغرب وانحطاطه”. لكنه، للأسف، لم يعمّر حتى يضع بنفسه كل تلك الكتب التي وعدَنا بها.

 

وإذ أجد أنّ “المقدمة” كافية لاعتبار شارل مالك فيلسوفاً عربياً ذا مستوى عالمي، فلا شك أنّ نشر أعماله الكاملة باللغة العربية، بعد تعريب ما كتبه أصلاً بالانكليزية وإضافته إليها، من شأنه أن يُهدي إلى المكتبة العربية عملاً جليلاً مكتملاً من فيلسوف أصيل وليس من ناقل للفلسفة، كان جريئاً في الجهر بآرائه والدفاع عنها. ومن تلك الآراء إيمانه بالأُلوهة وبيسوع المسيح مجسِّداً لها. وهنا ثغرة إضافية نفذ منها بعض منتقدي مالك ليأخذوا عليه دفاعه العقلي عن الايمان بالله. وهنا أيضاً واحد من أكبر الأخطاء الشائعة حيال الفلسفة، هو رَبْطُها بالإلحاد، في حين أنّ الفلسفة، من حيث هي منطق، حيادية لجهة الايمان والالحاد. ويستطيع الفيلسوف اعتماد الحجة الفلسفية دعماً لموقفه الديني إيماناً أو تشكيكاً أو إلحاداً.

كان شارل مالك، في كل ما كتبه، فيلسوفاً أصيلاً وليس ناقلاً للفلسفة. وإذا كنا في حاجة إلى خانة نصنّفه ضمنها كما يفعل مؤرخو الفلسفة، وهذا، كما أرى، غير ضروري بل هو من باب لزوم ما لا يلزم، إذ إنّ كل كلمة تنتهي بـ “إيّة” (ism) قد تلهي الدارس أو القارئ عن الصفات الشخصية التي يتمتع بها هذا الكاتب أو ذاك، فلعل هذه الخانة هي “الكيانية” كما وَسَمَ فلسفته. ومع إقراره بأنّ هذه الكلمة كان يمكن أن تكون “الوجودية”، إلا أنه استغنى عنها لأنها مشتقة من “الموجود”؛ والموجود، كما يفهمه، مفعول، أي موجود بسواه، في حين أنّ “الكائن” كائنٌ بذاته. ويذكر دارسو الفلسفة ومدرّسوها الحوار الشهير بين برتراند رصل (1872-1970) وفردريك كوبلستون(12)، الذي أجملَ كل منهما موقفه في ختامه. فقال رصل إنّ العالَم موجودٌ، وكَفى؛ وإنّ افتراض خالق للعالم لن يؤدّي إلى تقدم العلوم وإصلاح المجتمع وتحقيق السلام العالمي. (Provigil) وقال كوبلستون – الراهب اليسوعي والمفكر التومائي وأهم مؤرخ للفلسفة في القرن العشرين – إنه لا يقر للعقل قرار ما لم يذهب أبعد من العلم والطريقة العلمية في جوابه عن السؤال الذي طرحه ليبنتز ببلاغة: “لماذا هناك شيء وليس لا-شيء؟”.

هذا الدليل على وجود الله، المستند إلى التمييز بين الممكن والواجب، سماه الفلاسفة المسلمون “أُمّ البراهين”. وهو بات يسمّى في الأوساط الفلسفية الغربية “المناقشة الكلامية على وجود الله”، أي المبنية على اللاهوت الاسلامي أو علم الكلام (the kalam argument). وقد ظهر هذا التمييز بين الممكن والواجب باكراً جداً في الفلسفة، مع الفلاسفة الذين سبقوا سقراط، والذين بحثوا عن “المبدأ الأول” للوجود خارج العلم وطرائقه، فوصفوه بأنه موجود بذاته، غير محدود، لا بداية له ولا نهاية؛ ولو لم يكن هكذا لصار كبقية الموجودات واحتاج هو نفسه إلى مبدأ أول. ومن هؤلاء المفكرين الذين لا نعرف عنهم الكثير باستثناء الشذرات التي بلغتنا من كتابات أفلاطون وأرسطو وسواهما: طاليس، أناكسيمينس، هرقليطس، أناكسيماندر، بارمنيدس. وهذا يفسر إقدام الباحث ورنر ييغر (1888-1961) على إعطاء أحد كتبه – وهو في الأصل محاضرات غيفورد التي ألقاها في جامعة سانت آندروز الاسكوتلندية بين 1936 و1937 – عنوان: “لاهوت الفلاسفة اليونانيين الأوائل”(13)، مبرهناً أنّ مفاهيم فلسفة الدين الأساسية وُلدت مع أفلاطون وأرسطو، بل قبلهما مع أُولئك المفكرين القدامى. وكان المفكر الاسكوتلندي إدوارد كيرد (1835-1908) ألقى محاضرات غيفورد في جامعة غلاسكو بين العامين 1900 و1902، وقد جُمعت في كتاب أُعطي عنوان “نشوء اللاهوت لدى الفلاسفة اليونانيين”(14). أما فلسفة شارل مالك الكيانية فهي استمرار لذلك الخط الفكري العقلاني الموغل في القِدَم.

Edward Caird

 

هناك نظرتان كبيرتان إلى العالم لجهة علاقته بالأُلوهة: العالم بلا إله، والعالم مع الله. ويمكن أن يكون الفرق كبيراً جداً بين النظرتين لا على الصعيد النظري فحسب بل على الصعيد العملي أيضاً. شارل مالك كان من فريق الفلاسفة الذين جعلوا الله جزءاً ضرورياً من نظرتهم إلى العالم. لكننا نجد بين مؤرخي الفلسفة والفلاسفة نفَراً يضعون النظرة إلى العالم بلا إله في خانة الفلسفة، فيما يضعون النظرة إلى العالم مع الله في خانة الدفاع الديني (apology). هكذا يسمّون، مثلاً، كتاب برتراند رصل “لماذا لستُ مسيحياً”(15) كتاباً فلسفياً، لكنهم يسمّون كتاب وليم تمبل (1881-1944) “الطبيعة والانسان والله”(16) كتاباً دينياً دفاعياً. وينظرون إلى ريتشارد دوكينز (1941)، أُستاذ البيولوجيا في جامعة أُكسفورد، كفيلسوف في كتابه “وهم الأُلوهة”(17) المدافع عن الإلحاد، لكنهم ينظرون إلى تشارلز ألفرد كولسون (1910-1974)، أُستاذ الكيمياء في الجامعة نفسها حتى سبعينات القرن الماضي، كمدافع ديني في كتابه “العلم والإيمان المسيحي”(18). وقد كانت هذه الأفكار الرعناء في أساس الخطأ الشائع على أوسع نطاق، الذي يربط الفلسفة بالإلحاد.   

الوجوديّة الكيانيّة

كان شارل مالك يتمتع بثقافة نادرة، جعلته يدمج الفلسفة بالانسانيات والعلوم ليصل إلى ما سماه الكيانية. ولو أردنا أن نشبّه هذا الفيلسوف العربي الرائد بالمفكرين الغربيين المُحدَثين، فلا شك أنّ لأُستاذَيه ألفرد نورث وايتهد ومارتن هايدغر أثراً في اهتماماته الفكرية. لكن لعل الأقرب إليه في الغرب هو الفيلسوف الاسباني الذي ذكرناه خوسيه أُورتيغا إي غاسيت. وإنما أعني الأقرب لا من حيث المنهج الفكري بالضرورة، وإنْ كان الاثنان تأثرا بالفلسفة الفينومينولوجية مع إدموند هوسرل (1859-1938)، لكن من حيث الاهتمامات المتشعبة وإدخال الفلسفة إلى كل المجالات التي طرقاها. ويكفي إيراد بعض عناوين أُورتيغا دليلاً على ما نذهب إليه: “ثورة الجماهير”، “الانسان والأزمة”، “نحو فلسفة للتاريخ”، “تفسير للتاريخ الكونيّ”، “العقل التاريخي”، “ما هي الفلسفة؟”، “ما هي المعرفة؟”، “في الحب”، “لا-إنسانية الفنّ”، “فينومينولوجيا الفنّ”، “مهمّة الجامعة”. المهم في هذا الكلام أنّ لدى لبنان والعالم العربي فيلسوفاً يفاخرون به، كما تفاخر إسبانيا وأميركا اللاتينية بفيلسوفها، وقد جمع بين الاثنين شغفهما بالحقيقة والعقل والحرية والانسان.

Richard Dawkins

 

يؤسفني أنّ غيابي عن لبنان خلال عقد الثمانينات منعني من رؤية أُستاذي وصديقي الكبير في سنواته الأخيرة. لكني خصصتُ قسماً من أحد أعداد مجلة “الأزمنة” الثقافية التي رأستُ تحريرها لتكريم شارل مالك بعد مرور سنة على وفاته. فكتبتُ افتتاحية العدد الرابع عشر (بتاريخ كانون الثاني – شباط 1989) عنه، ونقلتُ إلى العربية مقالاً له حول ماهية الفلسفة، وطلبتُ إلى اثنين عرفاه عن كثب أن يكتب كل منهما شهادةً فيه. هكذا كتب الدكتور ماجد فخري (1923) عن مالك الفيلسوف(19)، وكتب الدكتور حسن صعب (1922-1990) عن مالك الدبلوماسي. في شهادته، قال فخري إنّ الفلسفة كانت دخيلة على المناهج الدراسية في لبنان يوم أدخلها شارل مالك بزَخْم إلى الجامعة الأميركية ونأى بها عن تنميق العبارة وتعقيد المفاهيم مع معلّمي الفلسفة في الجامعات والثانويات: “كان المرء يشعر لدى قراءة كتابات أُولئك المتفلسِفة أنهم في حالة حرب مع اللغة، وأنّ حجّتهم الكبرى على تملُّكهم من ناصية الفلسفة تكمن في القدرة على تشويه اللغة والتلاعب بها على هواهم”. وأضاف أنّ “أهم ما كان يَفتن طلابه ومستمعيه هو تلك الملَكة اللغوية التي كانت تُشعِرنا أنّ جُمَل صاحبنا ومقاطعه كانت تُسبَك سبكاً محكماً بحيث تعبّر عن الفكرة تعبيراً دقيقاً، لا مبالغة فيه ولا إطناب”. وأشار إلى “الجدّية المطلقة” التي كان يطرح بها القضايا الحيوية ويعالجها، بشغف غير محدود، “حتى نهايتها”. وكانت تلك القضايا من السعة بحيث خاطبت كل العقول، فتحلق حول مالك طلاب من مختلف التطلعات: الفلسفية والوجودية والاجتماعية والسياسية واللاهوتية. ولاحظ فخري أنّ كتابات أُستاذه المنشورة لا تتجاوز “قطرة من بحر” تعليمه وحضوره. لذلك اتّسع تأثيره، على غرار سقراط وسواه، وراء الكلمة المكتوبة إلى الكلمة المحكية والتفاعل مع طلابه. وأطرى تعلقه، كما فعل مفكرون مثل الكندي وابن رشد، بالتراث الانساني العالمي وعدم الانغلاق عليه “باسم الاكتفاء الذاتي أو العصبية القومية أو الدينية”.

د. حسن صعب

 

أما شهادة حسن صعب حول شارل مالك الدبلوماسي(20) فانطلقت من عمل صعب معه في النصف الأول من خمسينات القرن الماضي يوم كان مالك سفيراً للبنان في واشنطن وممثلاً لبلده في الأُمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي. قال صعب: “كان لمالك دَورٌ تَوّج به هذين الدورين الدبلوماسيَّين التقليديَّين، وارتقى به من تمثيل دولة صغيرة إلى تمثيل دولة كبرى، وهو دَور المفكر العالميّ المستوى. وتوحي إليّ تجربتي مع مالك بأنّ هذا الدور كان مفضَّلاً عنده، وبأنه لم يَبغِ، في واشنطن ونيويورك، سفارتَين، بل منبرَين لرسالته الفكرية التي كان يعتبرها رسالة لبنان إلى العالم، بل معنى وجود لبنان بين دول العالم”. وأضاف صعب أنّ التزام مالك الايديولوجية الغربية الليبرالية في مواجهة إيديولوجية الاتحاد السوفياتي المادية الملحدة جعلته، في نظر الأميركيين، “علَم المواجهة” بين هاتين الايديولوجيتين، فصار يدعى إلى إلقاء الخطَب من ولاية أميركية إلى أُخرى، في الأندية الاجتماعية وحفلات التخرج الجامعية، بمعدَّل خطاب كل أُسبوع. وناصرَ القضايا العربية، وفي طليعتها قضية فلسطين، حتى كلفه السفراء العرب الكلام باسمهم. ومع وعيه التام “ظلم الغرب للعرب، لكنه كان يعي أيضاً، كمفكر ناقد، ظلم العرب لأنفسهم وظلم بعضهم لبعض”. وختم صعب شهادته بأنّ أروع ما في تعامله مع مالك كان الأحاديث الفكرية بينهما، التي برهن مالك فيها أنه “مثال الرئيس المُحاوِر، لا الرئيس الآمر”.     

جامعة سيدة اللويزة

   

بالعودة إلى أعمال مالك العربية الكاملة، أرى أن يجري العمل الآن، ربما بإيعازٍ ورعاية مباشرة من مؤسسة الفكر اللبناني في جامعة سيّدة اللويزة، على نشر هذه المجموعة، مشتملةً على ما ذكره مالك في توطئة “المقدمة”، أي على ما كتبه أصلاً في العربية وعلى كتاباته الانكليزية مترجَمةً إلى العربية. ويحتاج هذا المشروع إلى فريق عمل تُرسَم له خطة – لِنَقُلْ خمسية أو عشرية – يتولّى أفرادها نشر كتابات مالك بطريقة منهجية، بما فيها كتاباته غير المنشورة. بالطريقة المنهجية أعني أن يدور كل مجلد على موضوع محدد، وأن يحوي كتابات الرجُل التي تنتمي إلى هذا الموضوع، وأن تَصدر المجلدات تباعاً، من الأول حتى الأخير، وفق منطق مرسوم وليس عشوائياً. أما الكتابات غير المنشورة فتحتاج إلى تحرير، مع مقدمات تلقي الضوء على الظروف التي نشأت فيها وتبرِّر نشرها في الظرف الراهن. هكذا تصير لنا من كتابات هذا الفيلسوف اللبناني الرائد مجموعة توضع بين أيدي المعلمين والطلاب والباحثين والراغبين. نحن في ثقافتنا العربية نفتقر إلى فكرة الأعمال الكاملة الموضوعة أصلاً بالعربية والمترجمة عن لغات أُخرى. وما هو لدينا من هذه الأعمال قليل نسبياً. ومن هذا القبيل أعمال ميخائيل نعيمة، التي أشرف على نشرها هو شخصياً. أما ما نراه في اللغات الأُوروبية من مجموعات كاملة لعظام مثل أفلاطون وأرسطو وكانط، وقد ترجمها عن لغاتها الأصلية اختصاصيون خبراء وضعوا لها مقدمات وحواشي وفهارس تسهِّل عمل الباحثين، فهذا لا وجود له في اللغة العربية. حتى في مصر، التي أولت جامعاتها الفلسفة عناية خاصة ودرّست في سبيلها اللغات الكلاسيكية، لم يتولَّ أي باحث أو مجموعة باحثين نقل أعمال أفلاطون وأرسطو الكاملة إلى العربية. ومع أنّ بعضاً منهم ترجم أعمالاً محدودة لهذين مباشرةً من اللغة الأصلية، أي اليونانية، إلا أنّ ذلك لم يحصل ضمن مشروع متكامل، وإنما بقي، كما لاحظنا، عشوائياً. ونحن ما نزال، إلى حد بعيد، ننقل الفلسفة الاغريقية عن الانكليزية أو الفرنسية. وهذا ما نفعله بكتابات كانط ونيتشه ودوستويفسكي. والكثير ممن تكلفهم دور النشر نقل كتابات تاريخية أو فلسفية أو اجتماعية أو لاهوتية إلى العربية ليسوا كتّاباً في اللغة التي يَنقلون إليها، ولا هم درسوا التاريخ أو الفلسفة أو العلوم السلوكية أو اللاهوت، وإنما أعدّتهم دوائر الترجمة في الجامعات، كما قلنا، لترجمة وثائق الأحوال الشخصية وما شابهها من مواد قانونية عموماً.

Jose Ortega y Gasset

 

لقد كان شارل مالك، كما يَعلم طلابه أكثر من سواهم، سقراط الفلسفة العربية بمعنيين: الأول كثرة الطلاب الذين تتلمذوا عليه وتحلقوا حوله ونوعيّتهم وتَوزُّعهم على حقول الانسانيات المختلفة من فلسفة وتاريخ وسياسة وآداب وعلوم اجتماعية ولاهوت. والمعنى الثاني أنّ مالك كان معلماً بالكلمة المحكية أكثر مما كان معلماً بالكلمة المكتوبة، بالرغم من أنّ كتبه التي نشرها هو والتي نُشرت بعد وفاته تبقى، على عدم قلة عناوينها، أقل مما كان يستطيع كتابته لولا شواغله السياسية والدبلوماسية. لكن لو تحقق نشر آثار مالك الكاملة بالعربية على النحو المنهجي الذي نرتجيه والذي كان هو يرتجيه، لتركنا للأجيال العربية كنزاً فكرياً تفاخر به.    

هوامش

  1. Jose Ortega y Gasset, The Revolt of the Masses, London: Unwin, 1932, Chapter XII: “The Barbarism of Specialization”, pp. 82-87. See by the same author: Mission of the University, London and New York: Routledge, 2014.
  2. شارل مالك، المقدمة: سيرة ذاتية فلسفية، الطبعة الثانية، بيروت: دار النهار، 2001.
  3. شارل مالك، دَور لبنان في صنع الاعلان العالمي لحقوق الانسان، تحرير وتحقيق: رفيق معلوف وحبيب مالك وجورج صبرا، بيروت: نوفل، 1998.
  4. شارل مالك، المقدمة، الطبعة الأُولى، بيروت: دار النهار، 1977، ص 13-14.
  5. عبد الرحمن بدوي، الزمان الوجودي، بيروت: دار الثقافة، 1973، ص 10.
  6. المصدر نفسه، ص 202.
  7. أديب صعب، هموم حضارية، بيروت: دار النهار، 2006، الفصل الرابع: “شارل مالك في المقدمة”، ص 93.
  8. أديب صعب، دراسات نقدية في فلسفة الدين، بيروت: دار النهار، 2015، ص 156-157.
  9. شارل مالك، المقدمة، ط 1، ص 9-10.
  10. ناصيف نصار، مقالة في الوجود: قراءة نقدية في سيرة فلسفية ذاتية، بيروت: دار النهار، 2001، ص 59-60 (هامش).
  11. أديب صعب، هموم حضارية، ص 104.
  12. “The Existence of God- a debate between Bertrand Russell and Father Frederick Copleston, S.J”, in Bertrand Russell, Why I Am Not a Christian, London: Unwin, 1971, pp. 138-159.
  13. Werner Jaeger, The Theology of the Early Greek Philosophers, Oxford: Oxford University Press, 1947.
  14. Edward Caird, The Evolution of Theology in the Greek Philosophers (being the 1900-1902 Gifford Lectures at the University of Glasgow), Glasgow: James MacLehose & Sons, 1904.
  15. Bertrand Russell, op. cit. First appeared in 1957.
  16. William Temple, Nature, Man and God, London: Macmillan, 1935.
  17. Richard Dawkins, The God Delusion, London: Bantam, 2006.
  18. C.A. Coulson, Science and Christian Belief, London: Fontana, 1966.
  19. ماجد فخري، “شارل مالك فيلسوفاً”، مجلة “الأزمنة”، المجلد الثالث، العدد 14، كانون الثاني/يناير – شباط/فبراير 1989، ص 70-72.
  20. حسن صعب، “شارل مالك دبلوماسيّاً”، المصدر نفسه، ص 72-74.
Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *