في التّجريب الصّحفيّ (12)

Views: 415

محمّد خريّف*

كنت مذ تعلمت من اللغتين الفرنسيّة والانكليزية ما يمكنني من تبادل الرسائل في مرحلة التعليم الثانوي مع أصدقاء وصديقات  من أنحاء العالم حيث كنت أقتني من بعض من زملاء الدراسة في معهد ابن شرف قصاصات ما يعرف “بفرندشيب العالمية” بواسطتها تعرفت على صديقتي بريجيت الألمانية، وهي التي كانت تبعث إلي برسائلها وأبعث  إليها برسائلي عبر البريد الجوي أنذاك فأحدثها عن عادات بلدي في المواسم والأعياد كما كانت تحدثني  عن عادات بلدها-لكن من المفارقات أن يحدث في الأثناء ما يفسد علي أجواء التراسل  كأن ألتجيء ولا أعرف بالضبط لماذا، ربما خوفا من ردة فعل الوالد- إلى الاحتماء  عند الاقامة في القرية أثناء العطل المدرسية بعنوان حلاق القرية تحسبا لما ينجر عن انكشاف سر علاقتي بالفتاة الألمانية لدى العموم، ولاسيما عائلتي، وأنا المحسوب عندهم على الانضباط في الدراسة والحرص على حفظ كلام ربي في جامع الزيتونة و الحي الزيتوني قريب بالولاء من جامع الزيتونة كماكان يعتقد جدي ،  فإذا بالحلاق يخيب ظني –ولعلي لم اتعظ بقصة الحلاق الثرثار –وحلاق قريتي  قد يدفعه الفضول إلى أن يمكن قريبه من فتحي الرسالة الشخصية فيفتحها دون علمي .

وهكذا صارت رسالة بريجيت  مشاعة للعموم وهي المكتوبة بلغة أجنبية ليقرأها شخص قد لايفهم ما فيها سوى أنها مبعوثة من شابة ألمانية إلى شاب تونسي مثلي ،ولعل الحلاق وهو يفعل ذلك قد كان على حسن نية أو أنه لايعرف مراسم التعامل مع رسائل الغيروما تتطلبه من مراعاة الحميميّة الشخصية و ربما فعل ذلك أيضا لأني لم أعلمه مسبقا بضرورة ملازمة الحذر في مثل هذه الأمور وقد هوكغيره من رجال القرية ونسائها غير متعود بحكم تربيته أن شاهد في حياته تبادل رسائل بين ذكر وأنثى دون حضور الشيطان ، لذلك لعله  يعتبر الأمر خطيرا على الأخلاق العامة وقد يكون غير مرتاح إلى سلوكي فيسرع إلى إعلام والدي ومن حسن حظي أن يفهم والدي المزارع حسب عقليته المتطورة أن لا ضير أن تحصل مثل هذه العلاقة ولا يهم أن تكون مشروع زواج أو غيره، وهو بحكم تفتحه وتردده على العاصمة لم يهول الأمر ولم يعطه اهتماما كبيرا وظل محتفظا بخبر الحلاق لنفسه ولم لم يشعرني البتة  بذلك و قد أظل جاهلا بذلك لو لم يعلمني الحلاق نفسه.

بورتريه متخيل لمحمد خريف بريشة GABRIELLE DUMONT OUTURIER

 

 

و لا أدري بالضبط إلى حد الآن لمَ حرص على إعلامي برد فعل والدي، وقد أفهم من سياق حديقه أنه يلطف من هول المسالة لكن وبانقطاع صلتي ببريجيت توقفت عن التعامل مع”الفرندشيب” ولعل الحلاق بإشاعته الخبر قد يكون أفسد علي نكهة مواصلة العلاقة مع أنثى متحرّرة من عقدة الرقيب الواشي وهي عقدة الذكر في بلدي وهي عقدة لا تختلف عن عقدة الأنثى في قريتي خلال الستينات إذ لا يجوز لها أن تراسل أيا كان من الذكور وحتى الإناث ،وهل أنا أنثي أم ذكر ؟…لكن الولع بتبادل الرسائل مع نساء الغرب ورجاله  تواصل عندي وعاد له توهج بريقه مع ظهور الأنترنيت في بداية عام ألفين فكنت ذلك البوجادي المتلنصي يدفعني الشره إلى الإبحار رغم جهلي بالسباحة في محيطات “الواب”  حيث عثرت على أسماء أصدقاء وصديقات من أنحاء العالم لاسيما من فرنسا حيث تعرفت على الفرنسية قبريال ديمونت كوتيرياي كما تعرفت  على الكاتب جيلبار مركاص من فرنسا وبرنار ليقولت من كيباك بكندا وغيرهم.                                                   

 قبريال ديمون كوتيرياي تعرفت عليها منذ بداية سنة ألفين بالصدفة من خلال نصّ شعريّ منشور في الأنترنيت(انظر دنيا الرأي) والنص عبارة عن قصيدة منشورة بموقع أدبيّ لذلك كان  لي أن أقرأها وأعلق عليها.وقد خيّل لي في بداية التراسل مع قبريال وقبل تبادل الصور الشخصية في بداية العهد بالانترنيت أن الشاعرة قبريال فتاة تبدو مبتدئة من خلال قصيدتها فإذا بها متقدمة في السن وهي من عمري أو تكاد ، لكن وبما أن قبريال لا تعرف صورتي الحقيقية في بداية التعارف وهي مغرمة برسم الأشكال والهيئات فإنها لم ثتردّد في الاستجابة لطلبي الخاص بتخيل صورتي من خلال ما أبعث به إليها من نثر وشعر ورسائل اليكترونية ففعلت وأرسلت لي بصورة لي تخيلتها كانت رسمتها  بريشة اليد وهي لا تشبهني البتة(تفيدني مثل هذه التجربة في مبحثي الخاص بالسيميائية العربية- دار نينوى دمشق2017 ولاسيما في مسألة علاقة الصورة بالتعليق). ولعل الخجل وطلب الاعتذار الصادرين عن قبريال كانا بسبب عدم وجود تطابق بين الصورة المقترحة وصورتي الحقيقية المرسلة إليها في ما بعد ولا أدري لمَ الخجل والاعتذار وبارط يشير إلى القطيعة الحاصلة بين النص والصورة في كتابه “امبراطورية العلامات” والصورة سواء أكانت واقعية أم افتراضية فلا مرجعية لها ثابتة والكلام غير قادر على تجسيدها ؟ 

الشاعرة ايمرود ديمون كوتيرتييان من صور الشباب

 

                       

هكذا تواصلت علاقتي الافتراضية بقبريال عن طريق  البريد الاليكتروني وظل تراسلنا بين مد وجزر ، واتصال وانفصال، فنكتب أحيانا بالاشتراك ونتوقف أحيانا أخرى فيهجر أحدنا الآخر ويعود ، كنا نتمنى ونسوف لانجاز كتابة شعرية مشتركة، لكن هيهات فالمرأة تتراجع في كل مرة وتتردد متذرعة بأمور لها علاقة بناشريها لكنها تطلب مني قبل وفاتها بقليل أن أنشر كل ما كتبناه معا. فقبريال امرأة تبدو متحفظة كالمشرقيات عندنا وجاز لها إن تخلع قناع الحشمة متى تخلصت من قناع الاسم واللقب فتكتب الشعر بحرية لافتة كما جاء قصيدة لها مرسلة الي بعنوان” الغازي” وتندرج في مشروع مجموعة شعرية مشتركة بعنوان:

  “التوسل العذب”

*Conquistador

 ** La douce supplique

كتبنا معا محاولات في الشعر أخرى منها : “علامات حياة*” إلا أن قبريال التي لاتمضي باسم الحقيقي بل هي مغرمة بالأسماء المستعارة ومنها أوبالين ألّونداي**  وايميرود ديمون كوتيرياي***

*Signes de vie

**Opaline Allandet

***Emeraude Dumont Couturier

(Opaline ALLANDET(1948-2019

 

 

وقد تجد صديقتي الافتراضية في التخفي وراء الأسماء المستعارة هوامش للتعبير الحر الجريء،هكذا كانت تمضي كتبها الصادرة هنا وهناك وهي ترغب في  أن أترك بصمة لي على منشوراتها فاقترحت علي ذات مرة أن  أكتب لها مايشبه التقديم لمجموعة من أشعارها فقبلت في البداية لكنني تراجعت عن ذلك بعد أن تبين لي أن قبريال ترغب في تقديم يكون مستجيبا لمزاجها خاليا من صرامة النقد فأبيت وكان ذلك من الأمور التي جعلتني زاهدا في مواصلة التجربة معها فكتبت إليها رسالة مؤرخة في 16 نوفمبر 2014 أنشرها معربة بتصرف:                     

” صباح الخير،آسف مدام، فنحن لسنا على نفس الموجة في فهم الأدب،لعلك نسيت أنني ناقد لا يقبل البتة هذا النوع من المزايدات والمساومات بما في ذلك هذه التوصيات،……. .، حقا لقد أفرطت في الطلب، أرجوك وبصراحة إلغاء هذا المشروع الخاص بتقديم لست متهيئا بطبعي للقيام به  تحت ضغط الطلب،  فلا تنشريه إذن سواء أكان ذلك في نسخته الأولى أو الثانية مع الاعتذار وطاب يومك “.             

 ولعلني كنت أضحك في داخلي من نفسي ومثلي قد أتشبه بكبار الحومة العربي من الكتاب الكبار عندنا في اتخاذ مثل هذه المواقف البطولية الخرافيّة، وأنا المنطلق من أوهام تغريني بأن أ تعامل مع قبريا وغيرها تعامل الند للند فكان ذلك دأبي مع الكتاب المشارقة وغيرهم من الأجانب و بي عقدة رفض الذوبان في الأجنبي المغرور بتفوقه، فكيف لي أن أكون أنا ذلك الكاتب العربيّ المبتديء مع الأدباء الفرنسيين أمثال قبريال وغيرها وكأني أنا المغرورأتطفل على لحمة أكبر من فمي “جبت الصيد من وذنو”

 ولعل شظايا أصداء لغوية مترسبة في الوجدان تنهل من علاقة الشرق بالغرب و من مواقف طه حسين أو صنع الله إبراهيم من السلطة وحراسها من المثقفين ،، هذا وان كان من الكتاب العرب لا يعتذر عن خطأ ارتكبه في حقي بدعوى سوء التعامل النقدي مع إصداراتهم  فان قبريال شهرت أوبالين ألونداي كتبت إلي رسالة اعتذار عما حدث فطاح الكاف على ظله، فكان لنا أن استأنفنا الحوار فواصلنا التراسل وكتبنا معا قصائد بعنوان “علامات حياة” أترجم بعض المقاطع منها:” ابتسامتك كون من فراغ معهود ومن نقاط مضيئة تشع في عينيّ كالكثير من العجائب…..قابا

وها انأ أرد عليها مكتفيا بترجمة البعض منها:” أنصت إلى الفروق الدقيقة الملونة التي تطفح فوق أمواجنا المحطمة بفضل العاصفة الكبرى لنسيم قادم من مشاهدنا المبتورة…..  …. بلا جمهور قد كان الحب من قلق على عجل..هاديء البصر…موحا

 بمثل هذا النفس الشعري تواصل حواري مع هذه الشاعرة الفرنسية التي تكتب وكأنها تعيش أبدا ولا تموت غدا، لكنها ومع الأسف ترحل ذات يوم من شهر أكتوبر  2020 ،فأعرف عندها أننا ننتمي إلى برج العذراء، ويصدق الحدس فتكون من عمري وبان على جدارها الفيسبوكي أنها ظلت تكتب الشعر إلى آخر رمق من حياتها……..                                        

كان التجريب الصحفي بواسطة الأنترنيت لا يقل أهمية عن التجريب الصحفي الورقي بل يتجاوزه إلى آفاق أبعد فكانت لي محاورات أدبية مع شعراء وشاعرات من فرنسا وكندا وغيرها من البلدان وكنت أتوقف عند محطات تكون فيها صداقة التراسل على ما يعرف عندنا بسلوك “الرجولي” والرجولي صاحب المواقف من الكتاب ولو كان ينتمي إلى ثقافات أخرى وجنسيات أخرى ومن هؤلاء أذكر الروائي والمسرحي الفرنسي جيلبار مرقاص* وبرنارد لي قولت** وقد كان لي شرف أن قدّم جيلبارمرقاص لمجموعتي الشعرية”سوسن بلا أرض”منشورات أيديليفر***باريس   *(Gilbert Marquès1948-2011)

**Bernard Legault

*Lys sans terre,éditions Edilivre ;Pris

gilbert_marques

 

 

وجيلبارمتعدد المواهب قد كتب لي رسالة قبل وفاته يقول فيها :”…..شاءت الصدف أن أولد في 8 سبتمبر وأن تولد أنت يوم 11 سبتمبر من نفس السنة1948 .فوجب أن نكون أيضا شاعرين وكاتبين وذلك كفيل بان يزيل الحدود والفوارق…. فانا كما قد قلت لك ليس لي أية عقيدة دينية في حين أنني كنت انحني إجلالا أمام سارة ،عذراء الغجر الزنجية فلا زوجتي ولا أنا  أعرف السبب ؟..

رسالة جيلبار مركاص وصلتني قبل وفاته بقليل وهو يتحدث عن مشاريعه المستقبلية وما يأمل أن نقوم به معا خلال2011  بالرغم من أنه يعرف انه مصاب بمرض خبيث يصعب الشفاء منه-( هذه الظاهرة تميز من عرفتهم وقرأت عنهم من أدباء الغرب فتجعلهم أمام الموت مختلفين عن الكتاب العرب ) والطريف في جيلبار انه لايخفي نقده لما اكتب عنه وقد يراني مقصرا في بعض الجوانب حيث تنقص عملي   بعض المعطيات الخاصة بحياته كاتبا وبآثاره السابقة واللاحقة ولعله لا يتفق مع منهجي في النقد الروائي الذي يعتبر الراوي ظاهرة علاماتيّة لغوية فلابد في نظره من إرشادات إضافية مكملة لفهم خصوصيات الأثر الروائي….

تجربة ممتعة مع هذا الكاتب الصديق وهو القريب مني بانتمائنا إلى البحر الأبيض المتوسط لاغير كما يقول هو في رسالة بعث بها إلي أقتطف منها مايلي بتصرّف :” فالمهم عندي الانفتاح على الآخر،مهما كان أصله، فالإنسان عندي أهم وفي حالنا الأثر لا غير…و لا مشكل لي أن تكون كاتبا عربيا ، فقد سبق أن  كانت لي الفرصة أن قلت انا نفسي بالرغم من أني أحمل بطاقة تعريف فرنسية فاني اعتبر لقيطا أو ميتاك كما يتغنى بذ لك المستكي، فأصولي عديدة ومن الصعب فك عُقدها : فأبي من أصل ايطالي وقد فقدته صبيا، وأمي من أصل اسباني، وعلى وجه التدقيق غجرية، ثم جدّي من الراجح أن يكون يهوديا، لكن بالنسبة إلى البقية لا أدري، ولايقين لي سوى أن جذورنا متوسطية ,وأنا لي منها فيزئائيا الأنموذج الأصلي، فأنا في الواقع كما لو أنني  جزء يسير من كل العالم وقد  هدمت هذه العقلية الاستعمارية التي تلمح إليها والتي لا تزال مستمرة عند البعض بما في ذلك الشباب فلا شك أني على مستوى العقلية اقرب إليك من أن أكون بارسيّا ، فما يقربنا كوننا أنت و انأ كاتبين ( 20 جولية 2010) بمثل هذه العبارات ينتهي جيلبار يوم 2 جانفي2011  ولا تنتهي مسيرتي مع التجريب الصحفي ولاتتوقف حياة اللغة بتوقف أنفاس صانعيها

( يتبع….)

***

(*) كاتب من تونس

 

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *