مَظَاهِرٌ  لِحَرَكِيَّةِ  الفِكْرِ  العَرَبِي  عَبْرَ  الفَاعِلِيَّتَيْنِ الفَنِّيَّةِ  والاجْتِمَاعِيَّةِ لِلبيان الأَدَبِي الحلقة الثَّالثة والأخيرة (مِن فاعليَّةِ البَيانِ الأَدَبِيِّ عِنْدَ نِزار قبَّاني)

Views: 396

الدكتورو وجيه فانوس

(رئيس المركز الثقافي الإسلامي)

يسعى العالم العربي، ومنذ زمن طويل، إلى تأكيد احترامه المرأة؛ بل إنَّ كثيراً من القِيَمِ الاجتماعيَّةِ والتَّربويَّةِ المُعاصرة، تُصِرُّ على تعظيم الفاعِلِيَّةِ التي تقومُ بها المرأةُ العربيَّةُ في الزَّمنِ الرَّاهن. مِن هنا، فإنَّ المدارس، كما وسائل الإعلام، والمؤسَّسات المجتمعيَّة المتعدِّدة، تسعى، وباستمرارٍ، إلى التَّأكيد على هذا “الدَّور الرَّئيس” الذي تمارسه المرأةُ في المجتمعِ العربي، أو عليها أنْ تمارسه. أكثر من هذا، ثمَّة من العربِ مَن يفتخر بأهميَّة الأعمال التي تقوم بها المرأة العربيَّةوريادَتِها؛ وهو يدعو إلى مزيدٍ من الإنجازاتِ في هذا المجال.

ثمَّة “بيان أدبيٌّ” لشاعرٍ يعدّه كثير من الدَّارسين وجمهور الأدب،”شاعر المرأة”، أو “أفضل مَن تحدَّث عن المرأةِ بلسانها”. والمرأةُ المقصودة، ههُنا، هي المرأةُ العربيَّةُ المعاصرةُ، المدعُوَّةُ إلى الانطلاقِ في حياتها إلى آفاقِ الرِّيادة الاجتماعيَّةِ والفكريَّةِ، والمؤكِّدة، عبر هذا الانطلاق، على حضورها الشَّخصيِّ وعلى انميازِها في هذا الحضور وسعيها إلى الاستقلال الاجتماعيِّ عن أيَّةِ تبعيَّةِ تجاه الرَّجُل.إنَّها نموذجُ المرأةِ التي سعى كثيرٌ من أهل الفِكر العربيِّ، وما زالوا يسعَون، إلى تحقيقِ وجودِها في الحياة اليوميَّة.

 

نزار قبَّاني

 

الشَّاعر هو “نزار قبَّاني”، والمرأةُ هي تلك المتحرِّرة المنطلقة القادرة على إعلان حبِّها وعِشقها وكثيرٍ من خصوصيات ذاتها. أما القَصيدة، فإنَّها من هاتيك القصائد اللَّواتي وجدت مجالاً كبيراً للظُّهور والانتشارِ، بسببِ عوامل توصيلٍ وإبلاغٍ وتأثيرٍ عدَّةٍ، لعلَّ مِن أبرزها:

              * شهرة الشَّاعر، الذي كثيرا ما يُعَرَّفُ بأنَّهُ “شاعر المرأة”.

              *طرافة الموضوع.

             *جماليَّة اللفظ والإيقاع.

            *إتقان أساليب فنيَّة التعبير البلاغي وأصول تركيب الصورة الشعريَّة المُحَرِّكَة.

      *إنشاد القصيدة، مغنّاة، من قبل مؤدية قديرة ومشهورة يُقبل على سماعها عدد كبير من الجمهور العربي، هي السيِّدة ماجدة                                الرُّومي

          * انتشار القصيدة مغناة عبر الإذاعات المسموعة والمرئيَّة، وبواسطة أشرطة التسجيل المعلَّبَة.

كلمات

يُسْمِعُنِي حِينَ يُراقِصُنِي

كَلِمَاتٍ لَيْسَت كَالْكَلِمَات

يَأْخُذُنِي مِنْ تَحْتِ ذِرَاعِي

يَزْرَعُنِي فِي إِحدى الْغَيْمَات

وَالمَطَرُ الأَسْوَدُ فِي عَيْنِيّ

يَتَسَاقَطُ زَخَّاتٍ زَخَّات

يَحْمِلُنِي مَعَهُ يحملني

لِمَسَاءٍ وَرْدِي الشُّرُفَات

وَأَنَا كَالطِّفْلَةِ فِي يَدِهِ

كَالرِّيِشَةِ تَحْمِلُهَا الْنَّسَمَات

يُهْدِينِي شَمْسَاً

يُهْدِينِي صَيْفَاً

وَقَطِيع سُنُوْنُوات

يُخْبِرُنِي أَنِّي تُحْفَتُهُ

وَأُسَاوِي آلافَ النَّجَمَات

وبِأَنِّي كَنْزٌ وَبِأَنِّي

أَجْمَلُ مَا شَاهَدَ مِنْ نَغَمَات

كَلِمَات

كَلِمَات

يَروي أَشْيَاءَ تُدَوِّخُنِي

تُنْسِيني المَرْقَصَ والخطوات

كَلِمَاتٌ تَقْلِبُ تَاريخِي

تَجْعَلُنِي اِمْرَأَةً فِي لَحَظَات

يَبْنِي لِي قَصْرَاً مِنْ وَهْمٍ

لا أَسْكُنُ فِيهِ سِوَى لَحَظَات

وَأَعُودُ، أَعُودُ لِطَاوِلَتِي

لا شَيْءَ مَعِي إِلاَّ كَلِمَات

كَلِمَاتٍ لَيْسَت كالكَلِمَات.

يقدِّم “البيان الأدبي”وجُودَهُ، ههُنا، بشكل قصيدة ترويها امرأة؛ تحكي فيها عن علاقة لها مع رجل. يمكن توزيع موضوعات القصيدة على جهات ثلاث؛ هي المرأة، والرَّجُل، وأشياء تتعلَّقُ بهما ضمن “البيان”. وإذا ما اعتُمِد مبدأ “الوجود الإشاريُّ”، أي ما تشير إليه موضوعات القصيدة من دلالات، فيمكن ملاحظة أنَّ الرَّجُل هو الذي يشغُلُ أكبر مساحة من ممارسة الفعل في فضاء هذا “البيان”؛ في حين تحتلُّ الأشياء التي تتعلَّق بالمرأة والرَّجُل المساحة التَّالية، ولا يبقى للمرأة إلا جزء ضئيل جدَّاً من المساحة المتبقية من “البيان”.

 

الرَّاقصان؛ لوحة تشكيليَّة للرسَّام والمُصَوِّر الفوتوغرافي الأميركي المُعاصر “دان سبراول”

*

يتَّضح، ممَّا سبق، أنَّالرَّجُل هو أبرز مصدر للفاعليَّة في فضاء القصيدة؛ وقد يمكن معاينة هذا الأمر باعتماد نموذج تَتَبُّعِ مُنشِئ الفاعليَّة في أفعال البيان.فالرَّجُل، وعلى سبيل المثال، هو من “يُسْمِعُ”، و”يُراقِصُ”، و”يَأخُذ”، و”يَزْرَع”، و”يَحْمِل”، و”يُهدي”، و”يُخْبِر”، و”يُشاهِد”، و”يَرْوِي”، و”يُنْسِي”، و”يَبْنِي”؛ ويكون مجموع هذه الفاعليَّات في هذا النَّصِّ عشر فاعليَّات. وواضح، أيضاً، أن الأشياء التي تتعلَّق، في وجودها، بالرَّجُل والمرأة تأخذ الترتيب الثاني في هذا المجال؛ إذ هي “تتساقط”، و”تُدَوِّخ”،و”تُنْسِي”، و”تَقْلِب”،و”تَجْعَل” فعددها، ههُنا، خمس فاعليَّات؛ أمَّا المرأة فلم يكن لها نصيبٌ من الفاعليَّة إلا، فاعليَّة واحدة لا غير، إذ “تعود إلى طاولتها”، بعد أن وقعت عليها جميع الفاعليَّات الخمس عشرة الموجودة في النَّصِّ.لعله من الطريف أن يُذكر في هذا المجال أنَّ الفاعليَّة التي تشكل منها وجود الرَّجُل هي من باب الفاعليَّة الإيجابيَّة التي تترك بصماتها حيث تكون؛ وكذلك الحال في الفاعليَّة المتشكلة من الأشياء المتعلقة، في وجودها، بالرَّجُل والمرأة. من جهة ثانية، فإن الفاعليَّة التي تشكَّل منها وجود المرأة فاعليَّة استكانيَّة راضخة للفاعليات التي تنشأ عن وجود الرَّجُل وما يرتبط بهذا الوجود. ولعل أبرز تجسيد لهذا الوجود الاستكاني، أو الراضخ، للمرأة في هذا البيان يكون عبر إفادتين تصدران عن هذه المرأة بالذات. تنصُّ الإفادة الأولى، وبوضوح كلي، على قبول المرأة بأن تتحوَّل إلى مجرَّدِ “تُحْفَة” يمتلكها الرَّجُل؛ بل هي، وبكلامها الوارد في البيان، “تحفته” الخاصة التي يقوّمها هو بالسعر الذي يراه مناسبا، هذا السعر الذي لا يزيد ولا ينقص عن “آلاف النجمات”. وتنُصُّ الإفادة الثانية، وبلسان المرأة أيضا، على أنها رضيت من علاقتها بالرَّجُل بأنها لم تحصل من هذه العلاقة على أي أمر أو شيء حقيقي؛ إذ عادت، بعد لقائها بِرَجُلِهَا، و”لا شيء” معها إلا كلمات. وتأتي الخلاصة صارخة، هاهنا، فالمرأة ترضى، من علاقتها مع الرَّجُل، وهماً مُمَيَّزاً بديلا من الفراغ؛ فإذا العلاقة مجرَّد “كلمات ليست كالكلمات”.

تشكيل على كانفا، للهيمنة الذكورية،للفنَّان البريطاني المعاصر “ساشا جافري”

*

جليٌّ أن المرأةتتعامل مع وجودها، في هذا البيان، عبر الرَّجُل الذي يحتل الفضاء الأكبر من البيان؛ فهو مصدر لتحقيق المرأة، بل هو الطريق التي لا تجد امرأة البيان سواها لتعلن عن حضورها من خلالها.ويبدو من هذه العلاقة التَّوسلِيَّة، التي تنشأ بين المرأة ورجلها، أنَّ المرأة لا تستطيع أنْ تجد ما يُشَكِّلُ الوجود الفاعل لها إلا بوساطة الرَّجُل وعبره. من هنا، يمكن القول إنَّ المرأة تؤكِّد، عبر هذا التَّوسُّل، أنْ لا فاعليَّة وجودها الذَّاتي لا يمكن أنْ تكون نابعةً من كيانها الخاص أو الشَّخصي؛ بقدرِ ما تنبع مِن القيمة التي يمنحها الرَّجُل لهذه المرأة.وهذا ما يشكِّل ما يمكن أن يكون سحابةَ إحباطٍ، أو خيبةٍ، في تجربة هذه المرأة؛إذ هي تؤكِّد لنفسها أنها ما جنت شيئا من هذه التَّجربة. من جهة ثانية، فإنَّ هذه المرأة لا تلبث أن تعزِّي النَّفس بأنَّ ما حصَّلته يبقى، على خوائه، خواءً مختلفا أو مميزاً عن سواه. ومن الواضح، ههُنا، أنَّ المرأة لا تثور على هذه النَّتيجة التي وصلت إليها ولا تحتجّ؛ بل إنها تقبل تعزيتها لذاتها بكل استكانة: فلا تثور، ولا ترفض، و لا حتى تسعى إلى تغيير.

*

يظهر من هذا البيان الارتباط الاستكاني الذي تعيشه المرأة تجاه الرَّجُل، كما يظهر الاعتماد الأساسي من قبل هذه المرأة على الرَّجُل في تحقيق وجودها. لابد من الانتباه، هاهنا، إلى أن تصوير المرأة، بهذه الكيفيَّة كما يقدمها البيان، لم يكن إسقاطا اجتماعيا على المرأة، بقدر ما كان صنيعَ من رسم لها هذا الحضور، وجعلها تتقبله عبر الفاعليتين الفنيَّة والاجتماعيَّة للبيان الأدبي. إضافة إلى هذا، فإن في البيان ما يمكن أن يُظْهِرَ نزوع هذه المرأة إلى الرضوخ، والقبول، وعدم الثورة والتجديد في أوضاعها.يبقى ثمة سؤال يلح على البال هاهنا: “إلى أي حد تختلف القيم التي يمكن لهذا البيان الأدبي العربي المعاصر أن يطرحها حول المرأة،عن تلك القيم التي تسعى كثيرات من النسوة العربيات، ومعهن كثير من الشعراء إلى تحقيقها عبر دعوة سبق لنزار قباني عينه أن أطلقها قبل سنين بعيدة حين صرخ، في سنة 1969 مُفْتَتِحَاً مجموعتةالشعريَّة “يوميات امرأة لا مبالية” مُخاطِباً المرأة:

ثوري! أحبك أن تثوري

ثوري على شرق السبايا..والتكايا..والبخور

ثوري على التاريخ، وانتصري على الوهم الكبير

لا ترهبي أحداً فإن الشمس مقبرة النسور

ثوري على شرق يراك وليمة فوق السرير..

يبقى تساؤلٌ أساسٌ في هذا المجال، عن مدى جديَّة التَّعامل مع “البيان الأدبي” إبداعيَّاً، وإنشائِيَّاً، ونقدِيَّاً لجهة تحمُّله مسؤوليَّة تحقُّق كثير من مناحي العيش العربي المعاصر!! نعم، إنَّ هذا “البيان الأدبي” الذي ما فتيء العرب يتعاملون معه، مبدعين كانوا أو مُسْتَقْبِلين، هو من أبرز لَبُنَاتِ صناعة الفكر العربي اليومي؛ وما هذه الصِّناعة، عبر تراكماتها التي لا بدَّ منها، إلاَّ تأسيسٌ للفِكر العربيِّ في حضوره المستقبليِّ.

نعم، إنَّ”البيان الأدبي” يحمل مسؤوليَّةً لا يمكن إهمالها في صناعة المستقبل العربي؛ هذا المستقبل الذي لا يمكن للعرب إلاَّ أن يطمحوا لأن يكونوا فيه روَّاداً، وقادة، وصانعي حضارة ناجحة؛ انطلاقاً من وعي حريَّة العيش، وكرامته، وبدءاً من سُمُوِّ القِيَمِ وتفاعلها الإيجابيِّ مع هذه الطُّموحات.

“ثورة الأنثى على مغتصبها”، تشكيليَّة من القرن السَّابع عشر، للفنَّانة الإيطاليَّة “أليزابث سيراني، المتوفَّاة سنة 1665، عن عمر لم يتجاوز 27 سنة

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *