قراءة نقديّة في قصّة “جين أوستن” لـ هدى حجاجي أحمد

Views: 691

القدس (فلسطين)- د. محمد موسى العويسات

القصّة كما ترويها بطلة القصّة في حديثها مع نفسها، تدور حول امرأة زوجة لكاتب وروائيّ فذّ، تقرأ ما يكتب فتجده يصف النّساء وشخصياتهنّ وعواطفهنّ والحبّ والغرام ويبدع في ذلك، وكأنّه صاحب تجربة في هذا، تقول: “من أين يأتى بكلّ هذه الخيالات؟ كيف أقنعُ نفسى أنّ كلّ ما يكتبه محض خيال؟ إنّه يصف قلوب النّساء بحس عجيب! يتوغّل فى شفافية، ورهافة ودقّة متناهيتين، يصل إلى أعماق المرأة. فكيف يفعل هذا؟ لا بد أنّ له زادا كبيرا”.

ولا تجد منه مثل هذه المشاعر، تقول: “إنّه يتوغّل فى وصف بطلة روايته. من أين يأتي زوجى بهذه الأوصاف؟ بهذه العواطف الجيّاشة؟ كنت أحسبه قد نسي الحبّ، لأنّه كان يضاجع الأوراق والأحبار، وينسى أنّ له زوجة مشتاقة، تعيش على بعد ذراع، وتتنهّد. كنت أشتاق إليه، وأحضر المكياج والحرير والعطر، وأجلس إلى جواره كقطّة أليفة، وهو منشغل عنّي. ثمّ يطلب قهوته، ويغرق فى أوراقه”، فتشتعل في نفسها الغيرة والشّكّ وتأخذ في محاسبته وسؤاله أين كان؟ ولِمَ تأخّر؟، ومن هذه؟ ومن تلك؟ حتى أمللته وضاق بها ذرعا فرحل عنها في يوم ما. فراحت تقلّب أوراقه فوقعت على مقالة يصف فيها جين أوستن الكاتبة البريطانيّة بالتّوصيف نفسه الذي وصف به شخصيّات رواياته وقصصه الأخرى، للوهلة الأولى ظنّت أنّه يعرفها، ولكنّها فطنت أنّها كاتبة وأديبة غربيّة اشتهرت بعزلتها وماتت قبل قرنين من الزّمن، فعرفت أنّ كلّ ما كان يكتبه هو خيال كاتب وأديب، تقول: “وجدت مقالا شدّني عن جين أوستن. وصفها بأسلوب عذب، رسمها فى عشق واشتعال. سألت نفسي: هل كان على علاقة بها؟ يا لَسخافاتي! إنه يصف عالم «جين» ومعاناتها، كيف ومعرفتها بالناس محدودة لا تزيد على أربعة أسر فى ريف صغير محدود!”… تهاتفه وتطالبه بالعودة، وتعده بأنّ لا تعود لمضايقته والضجر منه… فيسألها عن السّرّ، فتجيبه: “إنّها جين أوستن”.

تقول: “وفجأة أفقت من أوهامي. ألم يكن أجدر بي أن أكفّ عن مضايقته. هذه الغيرة الجنونيّة التي تبيّن لي فجأة أنّها لا محلّ لها. جريت بسرعة على الهاتف، قلت له وأنا ألهث: «تعال فورا، لن أحاسبك بعد اليوم أين ذهبت، ومع من كنت”. رد في هدوء يخالطه دهشة: «ماذا حدث»؟! قلت له وأنا ابتسم: «إنها جين أوستن”.

جاءت هذا القصّة لتعالج قضيّة اجتماعيّة واقعيّة يمرّ بها أغلب الكتّاب والشّعراء والمبدعون في محيطهم الاجتماعيّ والمجتمعيّ، وبخاصّة مع أزواجهم، تلك القضيّة التي تتّخذ منحيين، منحى الانشغال بالكتابة والقراءة والكتب والأحبار، ممّا يولد الفتور في العلاقة الزوجيّة والتّقصير فيها، وربّما يودي ذلك بالحياة الزّوجيّة، وقد سجل التاريخ أحداثا أقدمت فيهنّ النّساء على حرق كتب أزواجهن من العلماء والأدباء، فامرأة سيبويه أحرقت كتبه فلمّا علم بذلك أغشي عليه فلمّا أفاق طلّقها. وإبراهيم العياشيّ قضى عشرين سنة في تأليف كتاب “حجرات النّساء”، فأغاظ ذلك زوجته لانشغاله عنها، فأحرقت كتابه، فأصيب بالشّلل، ومثلها حوادث كثيرة. وهكذا نجد لهذه القضيّة تاريخا وواقعا محسوسا، فهي ظاهرة تستحقّ أن تعالج، لذا وجدنا الكاتبة لم تسمِّ شخصيّات القصّة، لا الكاتب ولا الزوجة، ليكونا نموذجين مجتمعيّين. أمّا المنحى الثّاني ففي زوجة تطّلع على كتابات زوجها وإبداعته فتجده في نثر أو شعر يذكر النّساء، ويصفهنّ ويغرق في الوصف، ويصف مشاعرهنّ أو مشاعره، ويبحر في ملكوت الحبّ والوصف والغزل منه العذريّ ومنه الصّريح، وهذا يلهب فيها نار الغيرة، ويبعث فيها الشكّ والوساوس، فتروح تحصي عليه كلّ حركة وسكنة، وهذا ما كان مع زوجة هذا الكاتب، تأكّلتها الغيرة وأخذتها الشّكوك، فأثقلت عليه بالسّؤال، وحاصرته بالمحاسبة على كلّ صغيرة وكبيرة، فضاق بها ذرعا فهرب من البيت. فكان هروبه الذّروة، اتّسع عليها البيت فامتلأ وحشة. وراحت تبحث في أوراقه، فكان الحلّ والمفاجأة أن تجد له مقالة في “جين أوستن” فكانت لحظة الانفراج، إذ وجدت ما قاله زوجها من أنّ ما يقص ويروي فيه جانب كبير من الخيال، تقول: “قال إنّه لا يصوّر الواقع، بل ينتخب منه، لأنّ الأدب ليس صورة طبق الأصل، بل أكمل وأجمل”. فمن هي جين أوستن؟ هي كاتبة وروائيّة إنغليزيّة توفّيت عام 1816، لم تُشتهر ولم تعرف إلا بعد وفاتها، وصنّف أدبها من الأداب العالميّة، أشهر رواياتها “ليدي سوزان”، والحقّ أنّ استخدام هذه الشخصيّة والإشارة إليها أمر لافت وناجح من النّاحية الفنّيّة، ويذهب بالقارئ إلى الأدب العالميّ، وهنا يحتاج إلى ثقافة ما، أو يُضطر إلى البحث عن سيرتها، وهذا لا ضير فيه. والسّرّ في نجاح الكاتبة في توظيف هذه الشّخصيّة واتّخاذ اسمها عنوانا هو أنّها كاتبة ريفيّة كانت تقضي وقتها في بيتها، بل حرمت المدرسة وتلقّت تعليمها في بيتها، عانت الأمراض وماتت في سنّ مبكرة، ورغم هذا كانت مبدعة في رسائلها وكتاباتها العاطفيّة المتخيّلة.

جاءت القصّة مكثّفة، وبعيده كلّيّا عن السّرد، فالقارئ لا يلمس تدخّلا أو أثرا للكاتبة أو لشخصيّتها، فقد تركت للزّوجة أن تحدّث نفسها، فيندمج القارئ معها في حديث نفسها، وصراعها الدّاخليّ. بل هي من تنقل الحوار مع زوجها وترويه. وجاء رسم الشّخصيتين في معالم نفسيّة محضة، وهذا ما تقتضيه الفكرة، فانحصر فيما يخصّ الغيرة والأنوثة والعطش العاطفيّ من قبل الزّوجة، والتّقصير العاطفيّ من الزّوج، الغارق في الكتابة إلى حدّ إهمال ما حوله وإهمال ذكوريّته. وكذا وصف المكان جاء عابرا بلطف: “اتّسع البيت وتوحّش المكان… البيت هادئ تماما يغريني بالانتحار! البرودة تسري في جسدي، النوافذ مفتوحة”.

جاءت اللّغة سلسة تنساب بعذوبة، لا تخلو من الإيحاءات والفجوات الفنّيّة المتروكة لخيال القارئ، فرسمت الصّورة بأجزائها كاملة. ولم تخل من التّصوير الجميل الماتع، كقولها: “وتنطوى نفسي على موجات من النّار”، “يضاجع الأوراق والأحبار”، وغيرها. ولكنّها غير مغرقة في التّصوير والاستعارات والكنايات، وهذا من التّناسق الفنّي بين الموضوع أو السّياق واللّغة.

ما يؤخذ على هذه القصّة أنّها لم تعالج التّقصير من قبل الرّجل/الزّوج/الكاتب، فالمرأة هي من تراجعت عن سلوك الغيرة أو وعدت بذلك، فبدا زوجها ضحيّة، وليس سببا في هذه العلاقة المتأزّمة، فوشت القصّة ببراءته من التّقصير، فهذا ما يتبادر لذهن القارئ.

وهكذا نكون أمام قصّة جميلة مؤثّرة، وضعت الإصبع على موطن الوجع في علاقة الكاتب الزّوجيّة والأسريّة. وتعدّ من الأدب الواقعيّ الرّفيع.

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *