جان توما و… رحلةٌ عبر العمر!

Views: 854

د. عماد يونس فغالي 

والعمرُ حركيّةٌ متواصلة. في عنوان كتاب الدكتور جان توما قراءتان في ظنّي، كلاهما دلالةُ حياةٍ متحرّكة: العمرُ شراعٌ مسافرٌ، أو العمرُ شراعُ مسافرٍ! في الاحتمالين، العمرُ شراعٌ، والشراعُ محرّكُ السفر، في الأمسِ واقعًا، اليومَ رمزًا… والشراعُ فعلٌ حركيّ بامتياز، طالما كان هو المحرّكَ الأساس في فعلِ السفر. وتحلو لي قراءةُ العمرِ على منصّةِ الفعلِ شراعًا مسافرًا، يكون عندها هو المتحرّك، أو شراعَ مسافرٍ فيكون المحرّكَ. بين محرّكِ ذاته ومحرّكِ الآخر، يبقى العمرُ فاعلاً يدرّ حياةً، كم نقرأها في كتاب الدكتور توما المعنون هكذا، في جماليّةٍ إنسانيّة متنوّعة، عرف يسكبُها في عينٍ لاحظةٍ تفاصيلَ، نشكره على توثيقها بدقّة، فلا تندثر، وتبقى للأجيال إرثًا حيًّا من نبض العمر!

أنتَ في الكتاب، على متن رحلةٍ تنطلق من مدينة الميناء الطرابلسيّة، تسوحُ فيها عبرَ أماكنَ ومعالم، تجذّرتْ في التاريخ والحضارة، تشهدُ لمروراتٍ بشريّة أرستْ قيَمًا عبرَ شخصيّات لن يخبو وجهها، رغم تبدّلاتٍ وتطوّرات!

مجموعة مقالاتٍ للمؤلّف، نشرها له موقعُ “ألف لام” الإلكترونيّ بتأسيس الأستاذ جورج طرابلسي والإعلاميّة كلود أبو شقرا وإدارتهما على امتداد السنة الجارية ٢٠٢٠، عالج فيها انطلاقًا من مدينة الميناء، أحداثًا اجتماعيّة  ومناسباتٍ دينيّة وأعيادًا. وتكلّم على شخصيّاتٍ أظهرَ دورَها الرياديّ في مجالاتِ كلٍّ منها، وأضاءَ على مراحلَ من كلّ عمر. وذلكَ في تبويبٍ موضوعاتيّ فائق الوضوح والتمييز.

 

هي مقالات، نعم. لكنّها لوحاتٌ فنيّة، ترسمُ مضمونها بألوانٍ حيّة تحكي لا سردًا على الفعل الماضي، بل تُحيي المشهدَ السالف، فتراه أمامكَ كأنْ نابضًا بالحاضرِ الهادف! ما يلفتُ في كلّ لوحةٍ مقال، وحدةُ الفكرة المعالَجة. بتعبيرٍ آخر، يعالج الكاتبُ أمرًا واحدًا في المكان أو الشخصيّة أو الحدث موضوع المقال. ومن خلال هذه الوحدة الموضوعاتيّة، تنكشف لكَ جوانب أخرى إن لم تكن الجوانب كلّها.

في ناحية أخرى، تبرز أهميّة هذا الكتاب، في إبراز شخصيّاتٍ مغمورة، ومعالمَ دينيّة وسياحيّة لا تُعارُ أهميّةً في العادة. يبان لك كم كانت ضروريّة إضاءةٌ عليها.

إن كان المكانُ الغالب على مساحة الكتاب، هو “الميناء”، حيثُ يرسو شراعُ العمرِ عند كاتبنا، ومنه أبحر، فهو ماخرٌ عبابَ الزمن في ماضيه وحاضره، ويصبو إلى غدٍ يرقبه! لذا نجدُ الرحلةَ تكشف الحضارةَ في الجماد، والقيمَ في معيوش الناس، والتقاليد التي تركبُ أمواجَ التقدّم، فتنطلقُ في سباقٍ ضوئيّ إلى ما بعد!

يمتدّ النمط السرديّ على الصفحات فيغزوها بمؤشّراته الفائقة الدلالات. لكنّ الإيعازَ آخذٌ مكانته المهيبة في السياق. أمّا أدبُ السيرة، فيقطفُ قبساتٍ من وجوهٍ طبعت المشهديّة المينائيّة بشعاعاتٍ تُحتذى!

الكاتبُ العزيز،

أن ينشرَ منتدى شاعر الكورة الخضراء كتابكَ هذا، فهو بشخصِ مؤسّسته الراقية، رأى فيه واحةً خضراءَ الأدبِ الإنسانيّ الذي تبرعُ في تدوينه بمدادِ عروقكَ النبيلة، أصالةَ خمرٍ معتّقة في دنانِ  انتماءاتكَ القيميّة لجغرافية العيشِ الإنسانيّ المشترك!

مباركٌ نتاجٌ يسافرُ عبرَ العمرِ، تسيّره شراعاتٌ عاصية على عاتياتِ الأنواء الزمنيّة الموبوءة. وطوبى لطاقمِ الرحلةِ، كاتبًا وناشرًا، عرف كيفَ يمتّعً ركّابًا على متنِها بزخارفَ أدبيّة من محارٍ ندر!!

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *