الحجّ إلى مونيخ(2) عُمرة في سجون ما قبل الفيريس

Views: 536

محمّد خريّف*

 

            يقول أبو العلاءالمعري:

أراني في الثلاثة من سجوني

فَلا تَسأَل عَنِ الخَبَرِ النَبيثِ

لِفَقدِيَ ناظِري وَلُزومِ بَيتي

وَكَونِ النَفسِ في الجَسَدِ الخَبيثِ

 

وأقول: سجون رحلتي أكثر من ثلاثة وتبدأ بشحن اللغة وأشعر به مذ أجلس في المقعد المخصص لي في الطائرة التابعة للخطوط الألمانية، ويجلس على يميني مسافر شاب قال لي اثر محاورة معه بانكليزية لي تعكزّ ولاعُكاز  لأعمى بأنه يعمل بتونس وهو في طريقه إلى أميريكا عن طريق مونيخ فتحدثنا عن الصحافة والكتابة وقال إن له من عائلته من يهوى الكتابة ويمارسها، لكن وان كنت أحس مع الأميريكي أني في بهو سجن اللغة فانني صرت مع المضيفة الألمانية في مقصورتها أو أكاد، وقد تملكتني لكنة اللسان لمّا سألتني المضيفة الشابة عمّ أختار من وجبات السفر والحال أني الحداثي فلا قبلي ولا بعدي أخشى أكل لحم الخنزير ولما أفكر في الميتة ؟ هذا وبالرغم من أني أطش قليلا بالانكليزية وهي تطش كثيرا بالألمانية  فقد أطمأن قلبي للأكل التركي كما أفهم من كلامها وكأن كلمة” التركي” تعني عندها أكلا حلالا ؟وتستمرالطائرة في التحليق فوق جبال من السحاب يغدو فيها صوت المحركات شبيها بأصوات المسافرين وأظنها كما يظنها أحمد المسافرين وهو عجوز من عمري- ولم يكن في عمرة مثلي ولا في حج غير ممنون- أن الطائرة توقفت في كبد السماء فيسأل المضيفة عما أصاب الطائرة فتبتسم وكأنها فهمت حيرته بأن موعد الهبوط قريبا، يسألني أبن البلد فلا أجيب.

 

ونحن في طريقنا إلى عمرة مباركة أقضيها ورفيقة دربي في سجون ما قبل الفيريس- وقد لاتدري بما يجول في خاطري، كنت أسمع في مطار مونيخ ونحن خارجان من دهاليز المدارج المتحركة في مطار مونيخ بشق الأنفس يزيدها عناء صعوبة التخاطب مع المشرفين على نقاط العبور ،قلت أسمع لغطة آتية من جهة قاعة الاستقبال في المطار تبيّن أنها صادرة عن ابن عم لي عرفت في ما بعد أنه من الجنوب التونسي هو مثلي لم يحررني من كنية “الحاج” وهو لا يدري أني لم أحج ولو مرة واحدة في حياتي شأني في ذلك شأن أبي وجدي،فالرجل يريحني بأن خفف عني موازين حمل الأدباش وأثقلها بموازين حمل عبارة”الحاج”وهي تلاحقني وأنا أمشي في الأسواق في بلدي هي عبارة مسجلة لطالما صارت في الخضراء  من توابع أندادي ولا زوابع تعصف بها، وقد تذكرت بالمناسبة دعاء أمي بأن يجعل لي الرب رفيقا وقت الضيق فأخفف الوطء دون أجيب المعرّي عن مصير القبور من عهد عاد ؟؟،،،وكدت أن أسهو عما ينتظرني من مناسك حج في سجون عمرة ما قبل الفيريس…

من سجون الرّحلة البافارية

سجن اللغة

في مونيخ جنة الأرض وقبلة الشفاء وبلوغ الغرض علامات تنطق بالحياة ولا ييسمع زائرها الجاهل مثلي باللغة الألمانية سوى غمغمات فإذا أنا في سجن لغة الكلام وكيف يكون الكلام أو الحوار ولا أحد من المارة في زمن الكورونا يتوقف عن المسير أو يطمئن لغيره من المترجلين؟،فلا اثر  إذن للتواصل اللغوي بيني وبين الناس فلا الفرنسية تنقذني ولا الانكليزية بقادرة على فك لغز الصمت فإذا كان ذلك كذلك فكيف الحال بالنسبة إلى العربية أو الدارجة التونسية وقد لا أنطق بهما  إلا في صمتي أو مع من هو من أهل بيتي وأنا الحسين غير الذي يتبرّك باسمه من هم من سلالة علي وفاطمة الزهراء وان كان لي في مونيخ من صلبي ما يجعلني أرتاح للقاء الأكباد  فأحط الرحال محفوفا بأسرتي ومن شرفة البيت  أطل على حديقة تزهو أزهارها ببريق الشمس في الأضاحي فيشع نور من الثلج والزهر بعد نزول الغيث ،  فتتورّد السماء بتحليق الغربان وللطير وسائر الحيوان إلف بالإنسان..

( يتبع…)

***

(*) كاتب من تونس/ مونيخ/ مارس- أفريل2020

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *