القدس في رحلة الشّيخ عبد الغنيّ النّابلسيّ الموسومة بـ “الحضرة الأنسيّة في الرّحلة القدسيّة”

Views: 658

أ.د. محمد العويسات

 

هذه دراسة بعنوان “القدس في رحلة الشيخ عبد الغني النابلسي” الموسومة بـ “الحضرة الأنسيّة في الرحلة القدسيّة”، التي قام بها لفلسطين في مطلع القرن الحادي عشر الهجري الموافق لأواخر القرن السابع عشر الميلادي، والتي استغرقت خمسة وأربعين يومًا، ابتدأها من دمشق متوجّها إلى بيت المقدس، ومنها إلى الخليل، وتستهدف الدراسة توثيق صورة عمرانّية حضاريّة للقدس في زمن الدولة العثمانيّة.

ويجهد النابلسي أيضا في إثبات حقيقة أنّ لقدم الرسول أثر في الصخرة ويأتي بأقوال علماء كثر، ويستدلّ بآثر لأقدام أنبياء سبقوا رسولنا الكريم كأثر قدم إبراهيم عليه السلام عند الكعبة، وقدم أيوب في قرية بحوران، وقدم آدم في سرنديب بالهند، ثم يتعرض النابلسيّ لرأي ابن تيمية وابن القيم الذي ينقضان فيه وجود أثر قدم للرسول عليه السلام في الصخرة ويخوض في جدال يتراوح بين علم الحديث والفقه والأصول، (ينظر: الحضرة،1990: 124ـ134)

وبعد كلّ هذا وبعد الحديث عمّن بنى قبّة الصخرة والسبب في بنائها، يسترسل النابلسي في وصف القبّة وأبوابها وصحن الصّخرة وما فيها من قباب ومعالم عمرانيّة، فعلى سبيل المثال يقول: ” ثمّ توجّهنا إلى جهة قبّة السلسلة وهي قبالة الباب الشرقيّ الذي لجامع الصخرة … وهي قبّة ظريفة مكشوفة من جميع جوانبها بمنزلة الخيمة المثمّنة مرتفعة على أعمدة الرّخام، وفي وسطها سلسلة مدلاّة، وعدّة أعمدتها سبعة عشر عامودًا غير عامودي المحراب، وبين العمود والعمود نحو ذراعين” ( النابلسي،1990 :136)، ومنه وصف المِزولة، يقول: ” وفي صحن جامع الصخرة من جهة الغرب قبالة قبّة الطّومار مِزولة مبنيّة بالأحجار وفيها بلاطة كبيرة منصوب عليها لوح من الحديد يُعرف بظلّه مقدار الماضي والباقي من ساعات النّهار، يسمّيه بعض المزوّرين هناك لسان الكذّاب، ويأتون بالنساء والجهّال إليه، ويقولون هذا لسان الكذّاب، وفي حائط قبّة الطّومار عامود من الرّخام ملفوف يسمونه بطن المرابي، وعامود آخر بالقرب منه ملفوف أيضاً يسمّونه عاقق والديه، وذلك مشهور بين النساء والجهّال ولا أصل له بحال” (انابلسي،1990: 138-139).

11ـ ويصف الكأس الذي يقع بين قبّة الصخرة والمسجد القبليّ، ويذكر مصدر مائه الذي يجلب من برك سليمان في الجنوب الغربي من بيت لحم بالقرب من قرية الخضر، يقول: ” وهو كأس من الرّخام كبير، سعة باطنه مقدار لخمسة أذرع موضوع شكل النّوفرة في وسط البحرة الكبيرة المستديرة الجوانب على شكل الكأس الذي في وسطها، والماء يخرج منه ويسقط في البحرة، ثمّ يسيل في بالوعات حوله، ويجريإلى صهريج كبير في أرض المسجد طوله نحو الأربعين ذراعاً وعرضه كذلك، وله أربعة أفواه مبنيّة بالأحجار، يستخرج منه الماء بالدّلاء على شكل البئر، وهذا الماء يجري إلى الكأس المذكور من خارج المدينة على مقدار مرحلة في طريق الذاهب إلى بلاد الخليل من برك ثلاثة كبارهناك، مبنيّة بالكلس والحجر، وعندها قلعة مبنيّة بالأحجار المتينة ، يجلس بها أناس يحرسون هذه البرك من العدو، والماء يجري في تلك البرك في سواقي مغطّاة بالأحجار، لا ينقطع في الليل والنهار” (النابلسي،1990: 140).

12ـ وصف المسجد القبليّ، فيصف أبوابه، وأعمدته، وقبّته، ومحرابه، ودكّة المؤذنين، يصف كلّ ذلك نثرًا وشعراً، يقول: “… فعدّة ما فيه من أعمدة خمسة وأربعون عموداً، منها ثلاثة وثلاثون من الرّخام ومنها اثنا عشر مبنيّة من الأحجار،وجميع هذه الأعمدة تحت الجملون، وعمود ثالث عشر مبنيّ عند الباب الشرقيّ تجاه محراب زكريا، وعدّة ما فيه من السّواري أربعون سارية ، وسقفة في غاية العلو والارتفاع، فالسّقف ممّا يلي القبلة من جهة المشرق والمغرب مسقوف بالخشب، وممّا يلي القبلة من جهة الشمال ثلاثة قِيس مسقوفة، الأوسط منها هو الجملون وهو أعلاها، واثنان إلى جانب الجملون من المشرق والمغرب، ودونه بقيّة القِيس وهي أربعة: اثنان من جهة الشرق واثنان من جهة الغرب معقود ذلك بالشّيد والحجر، وعلى القبّة والجملون والسّقف الخشب رصاص من ظاهرها… ومقابل المنبر والمحراب دكّة المؤذنين على عمد من رخام وهي في غاية الحسن” (النابلسيّ، 1990: 142ـ143) وقد نظم في وصف المسجد الأقصى قصيدة من أربعة عشر بيتًا تفيض بالمعاني الصوفيّة، مطلعها:

“إلى المسجد الأقصى بي الله قد أسرى/وفكّ بإطلاقي من القيد عن أسرى”

ومن المعاني والمعتقدات الصوفيّة في هذه القصيدة قوله:

“وجئت فصادفت العناية والهدى/وقرّبني باعاً وقرّبته شبرا”

ويسترسل الشاعر في وصف محراب داود في السّور القبليّ ومهد عيسى، وأبواب المسجد من الجهة الشرقية، ويحيك حول هذه الأمكنة حكايات وروايات لا سند لها وهي أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة.

13ـ زار الشيخ النابلسيّ الكثير من الزوايا والتكايا في القدس ووصفها ووصف مشايخها ومجالسهم فيها، ولعلّ أهمّها وصفًا التكيّة المولويّة، يقول واصفاً: ” ثمّ توجّهنا إلى جهة التكيّة المولويّة ذات الحضرة العليّة والسّدة السّنيّة حتى وصلنا إليها مع الإخوان وأقبلنا على هاتيك الأرجاء الحسان وصعدنا في الدّرج وشممنا عَرف ذاك الأرج، فدخلنا إلى الطبقة الأولى فإذا هي ساحة واسعة جوانبها مرفوعة شاسعة، وصعدنا في الدّرج الثاني إلى ساحة أخرى أصغر من الأولى، ولها في البهجة والإشراق اليد الطّولى، حتى صعدنا في الدّرج الثالث إلى ساحة أيضاً أصغر منهما، وقد كدنا في العلو أن نشارف السّما، وجميع ذلك مبنيّ بالأحجار، والعقود المتينة من الصخور الكبار، فدخلنا إلى ديوان واسع الأطراف مفروش بالدّفوف المنحوتة اللطاف وحوله الرّواقات المصنوعة للجلوس، والسّدة العالية التي تُرفع إليها الرؤوس، وهناك الفستقيّة الصغيرة من الرّخام الأبيض المنحوت، وقد جرى فيها الماءالمجموع للجريان كسبائك اللؤلؤ والياقوت، وجميع ذلك الديوان مسقوف بالقبو المعقود من الأحجار، نزهة للأبصار، وحوله شبابيك مطلّة على جميع البلاد القدسيّة وهاتيك الجهات الأنسيّة”( النابلسي، 1990: 240-241)

13ـ ويأتي النابلسيّ على ذكر مدارس القدس في رحلته منها: المدرسة الجراحيّة بظاهر القدس، والتي استقبل عندها أول دخوله القدس، وذكر ما قال فيها الحنبليّ: “وهي بظاهر القدس الشريف من جهة الشمال لها وقف ووظائف مرتّبة، نسبتها لواقفها الأمير حسام الدين الحسين بن شرف الدين عيسى الجراحيّ أحد أمراء صلاح الدين” (النابلسي،1990: 96)، المدرسة السّلطانيّة التي نزل فيها طوال رحلته واتخذها ملتقى بأعيان القدس آنذاك ومشايخها من المتصوفة، وكان قد وصفها وصفًا عمرانيًّا جميلاً، ومنها مدارس مرّ على ذكرها دون أن تنال من الوصف ما نالته المدرسة السلطانيّة، ويبدو أنّها كانت مدارس للعامّة، ولم تكن خاصّة بالصوفيّة، وهي المدرسة الصلاحيّة في طريق عودته من الطور إلى المسجد الأقصى، يقول:

” ثمّ دخلنا إلى المدينة من باب الأسباط فمررنا على المدرسة الصلاحيّة لنتبرك بها ونشهد آثار العلماء الذين أقاموا بها الدروس سابقًا من علماء الإسلام، فدخلناها فوجدناها مدرسة عظيمة، آثار أبنيتها قديمة، وكأنّها كانت سابقًا كنيسة، فإنّ واجهة بابها يؤذن بذلك، وكذلك في داخلها الأعمدة والسّقوف النّفيسة، ويقال إنّ فيها قبر حنّة أمّ مريم عليهما السلام، وقد وقفنا على هذا القبر المذكور في داخل المدرسة المذكورة في مكان مكشوف فضاؤه، ظاهر لألاؤه وضياؤه، ينزل إليه بدرج من الحجر، والعامّة يقولون إنّه قبر هيلانة أمّ قسطنطين التي بنت الكنيسة الجسمانيّة التي فيها قبر مريم (النابلسي، 1990: 204)، ومنها المدرسة القرقشنديّة وهي قبالة هذه البركة، لصيقة باب المسجد وفيها قبر الشيخ القرقشندي رحمه الله، (النابلسي،1990: 205) ومنها المدرسة القادريّة، يقول: ” فدخلناها فوجدناها عظيمة البناء واسعة الفناء مشتملة على أشجار الورد، ولها الرونق والبهاء بين المدارس كالعلم الفرد، واجتمعنا فيها بمن هو كلمة فيها… وهو الشيخ موسى المغربيّ” (النابلسي،1990: 207)، ومنها المدرسة البسطاميّة، يقول: ” فقمنا وذهبنا مع الجماعة لزيارة الشيخ البسطاميّ في المدرسة البسطاميّة” (النابلسيّ، 1990: 235) وبذكر هذه المدارس يعطينا صورة عن الحالة العلميّة في القدس. ويصف النابلسي مجالس العلم التي عقدها في المدرسة السّلطانيّة، ويعدّد فيها شيوخ الصوفيّه وأعيان القدس الذين حضروها ويترجم لهم في إيجاز، ويورد قصيدة أنشأها في مدحهم، مطلعها:

“إنّ الأكارم أهل بيت المقدس/أهل المحامد في المقام الأقدس”

ويستعرض قصيدة مطولة لأحد مشايخ الصوفيّة في مدح أهل القدس، ثم يعارضها بقصيدة على الوزن والقافية أنفسهما، مطلعها: (ينظرالنابلسي،1990: 156-160)

“يا أهل بيت المقدس/طبتم لطيب المغرس”

ويبدو أنّ مجالس العلم في تلك المدرسة يغلب عليها المناقشات الصوفيّة، ومن ذلك قوله: وأرسل إلينا في هذا اليوم (أي اليوم السابع عشر من الرحلة) مفخرة العلماء والمدرسين وخلاصة أرباب الكمال في الدين السيد عبد الرحيم أفندي المفتي هذين البيتين من نظمه وطلب منّا الجواب عن ذلك، وهما قوله: (النابلسيّ، 1990: 161)

النّاس حاروا في الضّمير وحجبه/من يرفع الأستار عنه يكشفُ/الـعين للــعين اتّـحادًا صـادقًا/قـل لي وما هو منه لا يتكيّفُ.

فأجبناه على البديهة بهذه الأبيات:

“لا حيرة في الحقّ عند ذوي الهدى/بل عندهم منه الهداية تعـرفُ/قوم أزال حجابه عن قلبهم/وبهـم يسـمّى بل بهم يوصفُ/لا زال فيهم نور ظلمة كونهم/أين الظلام وشمسه لا تكسـف/والعين تلك العين واحدة كما/كانت قديمًا عند من هو منصف/والنّاس حاروا بالعقول لأنّهم/راموا التّكيف وهو ليس يُكيّف/فلو احتموا بحماه عن أفكارهم/ وبه اهتدوا لا بالعقول لأتحفوا/لكن إذا رام المهيمن رتبة/للمــرء قام بها فمن ذا يحرف/فهو المكلّف بالأوامر للحجى/وبحضـرةالقـيوم ذاك مكلّـف”.

وهكذا نرى أنّ القصيدة تدور على الفكرة الصوفيّة (وحدة الوجود)، وأنّ معرفة الله لا تكون بالعقول بل هي إلهام يختص به أناس دون آخرين .

ولا تخلو الجلسات العلميّة منمناقشة بعض الظواهر الاجتماعيّة وبيان الحكم الشّرعيّ فيها، ومنها على سبيل مناقشة مسألة الدخان وبيان الحكم الشّرعيّ فيه وكان ذلك في المدرسة القادريّة مع الشيخ موسى المغربيّ، يقول: ” وقد جرى بيننا وبين الشيخ موسى حفظه الله تعالى في مسألة إباحة الدّخان ما كاد أن يُخرج من تلك النّار الدّخان، ثمّ ورد عليه ماء التسليم، ومزاجه من تسنيم ” (النابلسي،1990: 235).

14ـ وصف تكيّة خاصكي سلطان، يقول: ” ثمّ مررنا على تكيّة الخاصكيّة المشهورة في تلك الدّيار القدسيّة فوجدناها مملؤة بأنواع الخيرات وأجناس المبرات، طاحونها دائرة وهي على نقطتها دائرة، وأنواع مخازنها عامرة، حتى وقفنا على بيت الرّجاء، ورأينا الخيل تديرها. ((النابلسي،1990: 186)

15ـ ويقوم النابلسي في رحلته بزيارة التُّرب ومقامات الصالحين، فيأتي على ذكر عدد منها، ويترجم لبعضهم، منها: تربة الشيخ علاء الدين بصير، وقنطرة الخضر، وغيرها، وكان على عادة المتصوّفة يقرؤون عند هذه المقامات رسائل مشايخهم في المدائح النبويّة والتوسّلات، ويكثرونمن الدّعاء في حضرتها، (ينظر النابلسي،1990: 172ـ 173)، يقول في زيارة له لقبر الشيخ محمد بن أحمد القرمي: “وله كرامات ظاهرة والدّعاء عند قبره مستجاب ” ينظر النابلسي،1990 : 182)

16ـ وصف حمّام الشّفا في القدس نثرًا وشعراً: ومن الشعر يقول: ( النابلسي، 1990: 174)

وحمّام دخلناه عشاءً/على لمعات أنوار الشموع/به القدس الشريف على سواه/له فخر الأصول على الفروع/هواء فيه ذو حرّ لطيف/كأنفاس تردّد في النزوع/مجاريه تقهقه فيه ضحكاً/على الأجسام تبكي على الدموع/يمدّ من السماء بماء غيث/فلم يحتج إلى ماء النبوع/ لهذا تنظر البركات فيه/وإن دخلتْه وافدة الجموع/صفا ووفا وراقلطفاً/وأشرقت الأهلة بالطلوع/وكان به السرور لنا جميعاً/وزالتلهفة الكبد الولوع/يحقّق ماؤه قلب المصلّي/ليهنى بالسجودوبالركوع/به مدّتأنابيبٌإلينا/من البلور كالبرق اللموع/وفاض الماء عذباً فيه حتى/حسبناأنه لبن الضروع/وشاهدنا نعيماً في جحيم/بهولذاذةبينالضّلوع/يكاد عن الغذا يغني البرايا/ويلهي الناس عن عطش وجوع”.

(يتبع)

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *