من الذي خذلني؟ 

Views: 315

د. غادة السمروط

 

    أرى النّهارَ في زاويتِهِ يغوصُ في الضّباب، كلُّ شيءٍ إلى امّحاء، لذا رحتُ ألوذُ بالقلم.

    العالمُ ينفجرُ بالصّمت، والشّمسُ من فوقِ ذلك الحجاب، بلهاءُ، وقفَتْ شاحبةً في منعطفٍ من السّماء، وراحَتْ تنظرُ إلى خطوطٍ منحنيةٍ سطّرَتْها يدُ طفلٍ يلهو.

    بدا القمرُ في قبّةِ المساءِ بكاملِ استدارتِه، يخلطُ عصارةَ الكلماتِ مع حزنِ الليالي الحالمة.   

    وأنا أنتظرُ كلمةً في متاهةِ غابةٍ يجري الماءُ في أغصانِها، والوقتُ يجري فيه…       

    لم تكنِ الكتابةُ سهلةً؛ السّماءُ في زرقةٍ مسائيّة، والغيومُ تركضُ من أفقٍ إلى آخر. رحتُ أرسمُ على الورقةِ نصًّا بلونٍ أحمرَ، وكان النّسيانُ في الذّاكرةِ مثلَ قطعةِ خبزٍ صغيرة. كانتِ الوحدةُ رفيقتي في هذه المتاهة، وكان الفراغُ سعيًا يحرّكُ كلَّ ما يملؤني. كلُّ شيءٍ يستعدّ للّيل، والظّلُّ رقدَ في ناحيةٍ من الشّجرة، يرقبُ العصارةَ فيها، وأذنُه تدَوِّنُ همسًا متواصلًا يأتي من الحفيف.

   بدأتِ الكلماتُ تستقلّ مكانًا على السّطور، وراحتْ أمام هذا المشهدِ تخشى الاستعارةَ والمجاز. هي تهربُ من الألوان والصّور، وتهوى الحركاتِ في سكونِها، والمعاني في غموضِها، ولم تكنْ تخشى أشجارَ الهواءِ وثرثرتَها، ولا تسعى لفهمِ الأشياء. كانتْ فقط تنوي أن تتكلّمَ على الليل، لتقولَ إنّها تُضيءُ في العتمة، وإنّ زيتَها لا يعكّرُ صفْوَهُ ظلامٌ.

    طالَ بيَ الوقتُ، وأنا أنتظرُ نصًّا يستقيمُ على الصّفحة، لكنّ الكلماتِ أخذَتْها الغيرةُ والسّخريةُ والكبرياء: تخاصمَتْ وتنافرَتْ وتشابكَتْ، وسقطَتْ عن السّطور. سال زيتُها وغصّتِ الورقةُ بالظلمة، ورحتُ أتساءلُ: من الّذي خذلَني: القلمُ، الكلماتُ، أم ذاتي الّتي لم تفهمْ قراءةَ ما يتدفّقُ في الكلماتِ من معانٍ ؟

    لا شكّ في أنّ من خذلني هو أنا ! أنا الّتي نسيتُ أن أملأَ قلمي زيتًا، لكي يُضيءَ مصباحَ الكلمات !! 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *