أمين الريحاني… فيلسوف الفريكة

Views: 480

وفيق غريزي

لقد كان الأدب في علاقته مع الواقع يعاني مشكلة التعبير عنه، وفي الوقت نفسه مشكلة الفعالية فيه، ويندفع من خلال هذه المعاناة في تطوره متجاوزا حدود الاهتمام باللفظة، وباسلوب الاداء الانفعالي، الى معالجة قضايا الانسان والوطن بما يتناسب واساليب التعبير وفنونه.

وفي ظل هذه الاجواء اطل على العالم امين الريحاني، من بلدة الفريكة، عام ١٨٧٦، ولقد وعى، وفي وقت مبكر، وعلى وجه رصين وعميق، ذلك الاتصال الوثيق – الحيوي بين الاقطار العربية، وهو الترابط المصيري، ولهذا كان الرسول الأمين بين هذه الاقطار- انفتح على الحضارة العربية وثقافتها. كما غاص في بحر الحضارة الشرقية وثقافاتها، ومن ذلك كله اخذ الموقف المتبصر، فكان بحق رسول الشرق الى الغرب…

عاشق القومية العربية

وصل الريحاني الى الولايات المتحدة الاميركية وهو في اشد ما يكون استياء من اوضاع بلاده التي كانت وما تزال مسرحا للتنابذ العنصري، اطاره الجهل، فتولدت لديه وفي ذهنه فكرة اصلاح جذري لا تحققه إلا بثورة جارفة تشمل الروح والعقل والمادة على غرار الثورة الفرنسية، التي اخذت تسكره مبادئها.

وكانت الحال في لبنان قريبة الشبه، عهدذاك بالحال التي كانت عليها فرنسا عام ١٧٨٩، فأوحى اليه طموحه ان يلعب دورا حاسما يقضي على الرجعية والخمول لتنشأ على انقاضهما حضارة يفيض فيها دم حار. وباستجابته لنداء العروبة، لم يفعل من دون دواع شخصية فقط، ولكن تلبية لداعية أعم لولا نزوله واقران له عند امرها لحرمت العربية اكاليل عدة من الغار.

اواخر العام١٨٩٨، عاد الريحاني الى لبنان وسكن الشاوية الملاصقة للفريكة، عند جدته “ام فارس”، ثم التحق بمدرسة مار يوسف في قرنة شهوان يعلم اللغة الانكليزية ويتعلم العربية على العلامة الخوري بطرس البستاني، الذي ساعده عشقه المكين لهذه اللغة الرقيقة حتى الشفافية، الغنية كما المحيط المحيط، الفسيحة كما السماء الأبية، كما الفارس، ذات الرنين الطرب، كما الناي، ذات القوام الأهيف مضيئة مراهقة، وذات الاغوار العميقة كصدر مطوي على حب قديم. ساعده عشقه على استعادة وعيه بذاته، والتعرف مجددا الى وطنه وامته والتشرف بالانتماء اليها.

صلة أمين الريحاني بالعربية هي من الشفافية بحيث يمكن فهمها ضمن عقدة النقص الرائعة التي تمتع بها، عقدة الاحساس الدائم بالجهل والقصور، وسعيه المستمر لتنمية مداركه روحا وعقلا.

منذ مئة عام ونيف، ابحر الريحاني من شواطىء تمثال الحرية باتجاه الشرق، لم يكن يدري يوم ذاك ان تلك الرحلة العكسية ستقود البوصلة الى صراطها المستقيم، لم يكن يدري أنّ نجم الطريق سيكون دليله من جديد نحو قشرة الذات القديمة هذه المرة، نحو الأنا المكابرة المتخفية حينا والمكتشفة ذاتها كل حين، هي عودة امين الريحاني الى امين الريحاني، كما يقول أمين البرت الريحاني.

أما ثقافة الريحاني التي اهلته ليتبوأ المكانة التي وصل اليها، وساعدته على تحقيق طموحاته الوطنية والقومية والانسانية، فقد كانت شاملة ومتنوعة وغزيرة، انطلقت من الفكر المقدس الى الابطال عند افلاطون وهيغل ونيتشه وكارليل والفاشستية، وغرف من الفكر الديموقراطي، من لوك الى جيفرسون وروسو ومن الثورتين الاميركية والفرنسية، ومن الفكر الاشتراكي المثالي والجدلي المادي (سان سيمون/كارل ماركس)، من هذه الحقول قطف الريحاني كل زهرة تزين صدر الكرامة البشرية.

 قال فيه الأمير فيصل بن فهد بن عبد العزيز آل سعود: ” كان الريحاني فيلسوفا واسع الاطلاع غزير الثقافة، عالما بتاريخ الأمم وسياساتها، وكل الحضارات، وفنانا رصدت ريشته اعماق الشخصيات التي التقى بها، وأديبًا، جمال اسلوبه يزيده سحرًا تصويره الفوتوغرافي لما يكتب عنه، وشاعرًا كان له قصب السبق بتأسيس قصيدة النثر في الادب العربي “…

الريحاني ونزعته الشمولية

من الحق أن نعترف ان للريحاني الفضل في زرع التأمل الفلسفي المعمق، وروح الاستنارة والمحبة والتحرر من التعصب، والدعوة الى روح الوحدة الوطنية واليقظة العربية، وروح التوق الى المجتمع الفاضل، في نفوس الكثير من العرب.

 خدم الريحاني حرية الفكر في لبنان، وآمن بالعلم، وحنى رأسه للعقل، وبشر به، ودعا الى الاهتداء باحكامه، ولعل من مظاهر بعد الشاو الذي بلغه الأمين في رحاب العقل، تلك القرابة الروحية التي شدته الى فيلسوف المعرة ابوالعلاء المعري، وجعلته يثق بان العقل على خلاف الاهواء، لا تنضج ثماره وتحل منافعه الا في الهدوء والاستكانة، على غرار “المطر المنتج الهنيء” وفق قول المحامي وجدي شبلي الملاط، يحشد أمين الريحاني في شخصيته الفذة، فنونا من الابداع وقيما جمالية، وفكرية، ترفعه الى مستوى الطليعة الاخيار الذين مثلوا الاشعاع العربي بأصفى بهائه وعطائه. لقد كان الأمين صاحب رؤية بصيرة، ونظرة بعيدة، ورأي حر، وفكر استشرافي، لا يتحول عن قناعاته امام المغريات، ويملك المقدرة على مواجهة التحديات، وهو صاحب قضية ناضل في سبيلها بقلمه، وبعمله، وجهده وفكره وفي صداقاته لضياع القرار، وبتقدير كل الذين عرفوه…

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *