عن شاعر الكورة الخضراء بلسان ابنته/ ميراي عبدالله شحاده: هذا الفارس العائد من غبار الأمس

Views: 225

ميشلين مبارك

في زمن التفكك، يُطل علينا الوفاء. في زمن أسود، ينبعث مجددا فارس الشعر، الذي حمل لقب شاعر الكورة الخضراء. عبدالله شحاده.

بمناسبة اصدار مجموعته الشعرية الكاملة في حلّة أنيقة وغنية وبمناسبة الترخيص الرسمي الذي حصل عليه منتدى شاعر الكورة الخضراء، كان لمجلة “الشاطئ” هذا الحوار مع مُؤسِسة المنتدى ومُطلقة هذه المجموعة، ابنة الشاعر المهندسة ميراي عبدالله شحاده.

بداية نبارك لك، وللمجتمع الثقافي اللبناني والعربي بشكل عام التأسيس والاصدار المُشّرف لهذه المجموعة.

المهندسة ميراي عبدالله شحادة

 

هل يمكن لو سمحت، وباختصار أنّ تعرفي الجيل الجديد عن عبدالله شحاده؟ ومن ثم كيف تكونت لك فكرة إصدار هذه المجموعة وعملت على تحقيق الفكرة في هذا الزمن الصعب؟

عبد الله إيليا شحاده المعروف والملقّب بشاعر الكورة الخضراء(1910-1985) أبصر النّور في بلدة كوسبا –الكورة، شماليّ لبنان. تلقّى علومه الأولى في في المدرسة الوطنيّة  علم – داريّا (المعروفة بالعلميّة) وأتمّ المرحلة الثّانويّة في كلّيّة التّربية والتّعليم، طرابلس. ثمّ التحق بجامعة القدّيس يوسف في بيروت، ونال دبلوم دراسات شرقيّة في تاريخ الأدب العربيّ الكلاسيكيّ وفي أركان المجتمع العربيّ  وتاريخ الشّرق الأدنى وحضارته وفي فقه اللّغة العربيّة.

حاز شهادة دكتوراه وشهادة بروفسور في الآداب العربيّة من جامعة سانت أندروز الكنسيّة المسكونيّة في بريطانيا. كان مديرًا لعدد من المدارس في مختلف المناطق اللّبنانيّة (المزرعة بيروت، بشري، البترون، أميون). نال العديد من الشّهادات والأوسمة والميداليّات تقديرًا لعطاءاته.

وكان من أبرز مؤسّسي و أعضاء “الرابطة الأدبية الشّماليّة”. أحيا العديد من الاحتفالات الأدبيّة والاجتماعيّة، ونشر عددًا من قصائده في جرائد ومجلّات مختلفة نذكر منها: “المستقبل” و”الرّقيب” و”صدى الشّمال” و”الأفكار” وغيرها الكثير.

إنّ فكرة إصدار هذه المجموعة هي حلمُ  بركانيّ كان قد استوطن خيالي منذ الصغر وأزهر أحلاماً ورديّة لا تحصى لم أعد أقوى على حملها في داخلي؛ وكي أستطيع أن أجسّدها يوماً وأستولد مجددا من غياهب الزمن هذا الرجل، أبي، الذي انسابت الكلمات ومعاجم اللغة لملكة إبداعه طيّعة ليّنة، “قرّرت أن أطير”؛ أنا الّتي خسرته وأنا في ربيع طفولتي وهو في كهولة حياته لأنّه قرّر الزواج وبناء عائلة في عمر متأخّر جدّاً. 

شرعت العمل على تحقيق هذه الفكرة في العام 2016: كنت قد اعتقدت أنّني في بضعة أشهر سأتمكّن من إنجاز هذا العمل. فبعد أن جمعت أمامي كلّ كتب ومخطوطات الوالد المنشورة وغير المنشورة، ذهلت لهذا الكمّ من العطاءات الفكريّة والأدبيّة والتربويّة فاستعنت بالأديبة ابتسام غنيمه وطاقاتها العلمية في كيفية جمع وتوثيق وطبع هكذا أعمال. وحتّى لا أخطئ  في تجسيد هذا العمل في أبهى حلّة تليق بعبدالله شحاده، قررت خوض مغامرة طبع بعض من مذكراتي وومضاتي الشعريّة في ديوان متواضع يكون لي بمثابة خبرة أتعلّم منها وأتعرّف على كيفية الطبع والنشر واختيار نوع الورق والغلاف… فكان ديواني الأوّل: “يوم قرّرت أن أطير”. وها أنا اليوم، في 2020، بعد عمل مضنٍ وجميل، أحمل بين يديّ المجموعة الكاملة لشاعر الكورة الخضراء.

للمجموعة خمسة أجزاء إضافة الى التمهيد.

في التمهيد، من الملاحظ بأنّ هناك مجموعة عوامل إضافة الى مجموعة أشخاص ساهمت في إنجاز هذا العمل، وفي حصاد لحياة الشاعر من مذكرات، وصور ومراجع كثيرة، نرى بأنه كان دائم النشاط الثقافي والاجتماعي والسياسي في حقبة كان لبنان فيها يبحث عن هويته، كيف أغنت كل هذه الصفات هوية عبدالله شحاده؟

 لقد قمت بإعداد المجموعة بالتعاون مع الأديبة المثقّفة ابتسام غنيمه التي قرأتْ كلّ آثار عبد الله شحاده بنسخها المخطوطة والمنشورة في حياة صاحبها، وساهمت في ضبط كثير من النّصوص وتحقيقها. فكتبت لها في مطلع التمهبد:

” الى التي رَوَت ظمأ أحلامي \ وكانت السّبيلَ لأرض الميعاد!

أسلمتُها أبي راقدًا في كَومة وَرَق\ فجعلَت منها له شهادةَ ميلاد!

وأضاءت اليومَ معي شموعَ الأعياد…”

في مقدّمتها، دعته ب”فارس الكلمة”. سألته مَن يكون وهي تخال المتنبّي عاد مادحًا أسياد القرن العشرين، أو عمر بن أبي ربيعة جاء من العالم الآخر ليقوم بمغامرة عاطفيّة… وفي زحمة الأسماء هدر صوته قائلًا: “أنا ملتحف الأرز، القائل وقد كان له من العمر ثلاثة عشر عامًا: “أرزَنا دُم في هَناءٍ مستمرْ/ للمعالي تستنرْ كلُّ البشرْ/ ناشرًا راياتِ فخرٍ للورى/ فوقَ طَودٍ مُلْقِيًا فيه العِبَرْ…”

“هذا الفارس العائد من غبار الأمس الغابر، لا يمكن إلّا أن يعود عريساً في حلّة تليق بأمجاده وعرس كلماته فكان كتاب التّمهيد مزوّداً بخطّة العمل التّي اتبعناها في تجميع وترتيب هذه المجموعة ويتضمن إضافة للدراسة القيّمة الوافية الّتي أعدّتها ابتسام غنيمه:

فهارس منوّعة مفيدة شملتْ الفهرس العامّ والكامل للمجموعات الخمس مع فهرس التّمهيد و فهرسًا مفصَّلًا للقصائد شملتْ كلّ أبيات القصيدة على حدة، مع مطلعها وقافيتها ورويّها وعدد أبياتها وأرقام صفحات مواضعها… وفهرسًا خاصًّا بالأعلام. وأذكر وقوفها عند السّيرة الذّاتيّة بكلّ ما تضمّنته من مراحل وأحداث وإنجازات ومواقف وجوانب عديدة لا حصر لها، تحصَّلتْ لديها من متون قصائده ومقالاته، محيلة إلى مسارحها في بطون القصائد، أو ممّا جمعته من محيطه الاجتماعيّ.

ومن أرشيف العائلة، أغنيت المجموعة بفهرس للصّور الخاصّة والمتنوّعة للحضور، وبمعرض منوّع للأوسمة والدّروع التّقديريّة، ولشهاداته العليا، ولهويّته الشّخصيّة، وكتبه ومقالاته المنشورة له أو عنه، في جرائد زمانه ومجلّاته. ونماذج مخطوطة لما كان يخطّه قلمه المرهف، ولبعض مضامين النّدوات والمهرجانات التي أقيمت له تكريمًا أو تأبينًا.

كان جهداً لا يستهان به، علّني أفي أبي ولو قليلاً من عطاءاته !

موسوعة الشاعر عبدالله شحادة

 

في تسليط الضوء على قيمة الشاعر الأدبية، يعتمد البناء الشعري عنده على الشعر الكلاسيكي العمودي مع أنه عايش مرحلة الشعر الحرّ في لبنان والعالم العربي، برأيك هل كان متأثراً بأحد الشعراء؟

عايش عبد الله شحاده مرحلة الشّعر الحرّ في لبنان والعالم العربيّ، لذلك نجد في شعره بعض محاولات هذا النّوع الشّعريّ؛ لكنّ تأثّره في البناء الموسيقيّ يبدو أكثر وضوحًا بأبي شبكة، ولاسيّما في ديوانه “أغاني الرّجاء”، حيث تكثر القصائد التي ينتقل فيها من البحر إلى مجزوئه فالتّفعيلة، أو يمزج بين بحرين أو أكثر . غير أنّ شاعر   الكورة الخضراء وجد ذاته الشّعريّة في الشّعر الكلاسيكيّ العموديّ الذي يصبغ أبياته بشكل خاصّ، فجاء بالمعاني البكر على وتيرة شعريّة مسبوكة في قوالب البحور الخليليّة، المُوَقَّعَة على أوتار صناعة موفّقة شكلًا ومضمونًا في الموسيقى الشّعريّة وفي القوافي الموحّدة. أترك للنقّاد المختصّين تحليل ودراسة شعره وماهية المدارس المختلفة التّي تأثّر بها خلال رحلته الأدبيّة.

الحقيقة وفي درس كل مجموعة شعرية على حدى، تتجلّى صفات الشاعر، فنقرأ ما بين الاشطر والقوافي شخصية أبيّة لرجل يعشق لبنان، يتغنّى بالأرز، يغني الامومة ويتغزل بالمرأة، يرثي الأصدقاء، ينادي بالعدالة الاجتماعية، يلاقيكِ بقصيدة يوم ميلادك (أنتِ ابنته البكر).

الجدير بالذكر بانّ النقاد توقفوا كثيرا عند النصوص الأدبية أيضا في مجموعة “ليالي القاووش”

في كل هذا وذاك، ما هو سبب وما هي نتيجة ابداع الشاعر عبدالله شحاده؟

لقد أراد شاعر الكورة الخضراء، من خلال كتاباته، أن ينتشر ذكره فوّاحًا وأن ينال مجدًا لا يزول: “كلّ مجد دون اليراعة وهم” . ووجد في الشّعر سبيلًا إلى تحقيق الخلود والتّحرّر من عبوديّة الحياة وقيادتها الإنسان في مسيرة جبريّة تبدأ بالمهد وتنتهي باللّحد  لأنّه “يبقى، وتحيا روح شاعره”. كان هو هذا الشّاعر الحقيقيّ، كما يقول أبو شبكة، “هو تاريخ عصره ملحّنًا” ، فإنّ شاعر الكورة الخضراء خطّ تاريخ لبنان في كتاباته، فاستقلّ المراكب الفينيقيّة حاملًا الحرف والبرفير والأرجوان إلى الغرب، وكاد لا يترك محطّة من بلاده فينيقيا “بكر تاريخ الفكر والعمل”  إلّا ومرّ بها، من صيدون وصور وقرطاجة ومآثر قدموس، إلى صنّاعها وتجّارها، مفاخرًا بما يميّز الحضارة الفينيقيّة عن غيرها من الحضارات.

فكان هذا في ناظري إبداعا لا يفوقه إبداع.

أمّا ليالي القاووش، وصفها د.مصطفى الحلوة (رئيس الاتّحاد الفلسفيّ العربيّ): “هذه “اللّيالي” عبارةٌ عن مشهديّات من سيرة ذاتيّة، بل تجربةٌ مُرّةٌ، عاشها عبد الله شحاده، وراء قضبان السّجن، طوال خمسة عشر يومًا، جرّاء وشاية لئيمةٍ، من قِبل جهة سياسيّة، تُناصبه العداء”…

“هي مجموعةٌ من المطالعات، ما رصدناه في “اللّيالي”، تتّسم بجرأتها بل بناريّتها، لتغدُوَ بمنزلة “مانيفست” (Manifeste)، يتكشّف عبره عبد الله شحاده الإنسان، وعبد الله شحاده المنتصر لقيم الحقّ والخير والجمال، وعبد الله شحاده المتصدّي لمفاسد الحكم السّياسيّ البوليسيّ، الذي لا يقيم وزنًا ولا اعتبارًا للإنسان.”

ولأنّ هذه القصّة تجسّد واقعاً أليماً ما زلنا نعاني منه من سنة 1962 حتى اليوم، قرّرت  طبعها ونشرها في كتاب خاص سيصدر قريباً من منشورات منتدى شاعر الكورة الخضراء، وقدّم له د.مصطفى الحلوة مستهلّاً كلمته: من “ليالي قاووش” عبد الله شحاده 1962 إلى “ليالي قاووش” اللّبنانيّين 2020

في مدخل وخاتمة كل مجموعة من مجموعات الشاعر، وضعتِ مقطعا من قصيدته:

“أبي قلمي، أمي دواتي، ونسبتي

                                    فريضٌ به نلتُ المنى والمعاليا

فما الوحي الاّ فيض روحي ونثرها

                                    وما الشّعر الاّ “الرسم” فانظر خياليا

ستدفنني أيدي المنون بتربتي

                        ويبعثني شعري فأحيّا اللّياليا”.

الآن، ها هو قد بُعث عبدالله شحاده من جديد بعد خمسة وثلاثين عاما على وفاته.

الشاعر عبدالله شحادة

 

هل تخبرينا عن صدى هذه المجموعة؟ وما الاعمال الأخرى التي ينوي المنتدى إقامتها في المستقبل؟

 في الأمس، كان حلمي أن أخُطَّ سطراً  واحداً في قافلة الأمجاد فأكتبُ فيه ولو ومضةً يتيمةً عن أمجاد أبي، و أضيءُ له شمعةً في بيادر زمنه العتيق فتُقذَفُ من براكين ماضيه حممه الشعريّة والأدبيّة كطوفان الموج العائد إلى الشطآن محمّلاً بآلاء الزمرّد والجومان.

وها قد أينعت دوالي الحلم وأضحى السطر سطورا تكتنز بأسرار عبدالله فحملني نبيذها المعتّق إلى ضفاف سرمديّة أخرى، إلى تأسيس منتدى خاص بشاعر الكورة الخضراء الذي في كلّ إصدار سيصدح يوماً باسمه، أكون قد أضفت حبّة بخور في مسبحة الصلاة لروحه أذكره فيها وأكرّمه على طريقتي…

أصداء المجموعة كانت مدوّية؛ فبعد إصدار المجموعة الكاملة في حفل خاص ضمن معرض الكتاب في الرابطة الثّقافيّة في طرابلس خلال حفل تكريميّ ضمّ جهابذة الأدب والشّعر، تُحضّر حاليا دراسات معمّمقة ونقد بنّاء عن فكر وقيم عبدالله شحاده: من بينهم رسالتي ماستير وكتاب “جردة حساب في مجموعة الكاملة لشاعر الكورة الخضراء” للعلّامة الدكتور ياسين الأيّوبي وكتاب آخر يضمّ كلّ الكلمات التكريميّة التي قيلت في والدي بعد الإصدار حتّى الآن. كما أنّني، وعلى خطى والدي، سأعمل على نشر الكتب التي ستحمل اسم “منتدى شاعر الكورة الخضراء الثّقافي”. بذلك أحيي ذكره مع كل ولادة كتاب جديد. نشير أننا سنحتفل في الأيّام المقبلة بكتاب لد.جان توما “…والعمر شراع مسافر” وهو الإصدارات الأولى للمنتدى. (https://www.drpaulsonline.com/)

أذكّر بأحد أهداف هذا المنتدى، بالإضافة إلى إصدار ونشر الدّراسات والأبحاث الأدبيّة والنقديّة التّي تسلّط الضوء على نتاج شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده، هو تشجيع الإبداعات في اللّغة العربيّة في جميع المجالات وخاصّة الإبداع الشّبابي في الأدب والشّعر والرواية والمساهمة في تفعيل التّراث الثّقافي.

أحلامي كبيرة جدا في المنتدى وتورف أكثر وأكثر كلّما رصَّعتها ذكرى من جواهر أبي؛ الإتكّال على الله وهو ولي التوفيق والسّداد.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *