الحجّ إلى مُونيخ(6) عُمْرة في سُجُون ماقبْل الفيريس

Views: 129

 محمّد خريّف*

من سجون المعالم والأعلام

 

تحْضرني وأنا أتجوّل في مارينا بلاتز أشباح سجون لمعالم وأعلام منها أسماء نوفاليس “أدولف هتلر ” و”اينشتاين” و”قيته” و”ماركس” و”لينين” ف”نيتشه” و”داروين”  و”كانت” و”هيدقير” وغيرهم.

والسّجون تفتح على الهواء الطلق فلا سقوف لها ولا حيطان والمتحف الكبير يغلق وقتيا ولا يسجن خيال من يجول مثلي خارجه وعلى مقربة من عتباته حيث كنت أسير في ممشى الحديقة المقابلة لذلك المتحف  لا تسجن معالم الكنائس والمتاجر خيالا في مارينا بلاتز، و للمتاجر واجهات تغري لتحرم ناظريها القلائل في زمن الكورونا ولا تشي إلا ببعض أسرارها ومنها أنّ بعضها يفتح العادة وخارج أيّام الحجر أو تخصّص بعض أجنحته و-العهدة لمن يرافقني في فسحتي لسوّاح من بلاد الخليج دون غيرهم  فتصير مارينا بلاتز قبلتهم وقبلة المسلمين الكعبة الشريفة.

FK Hiemer Friedrich Hölderlin-Pastel 1792

 

والأماكن هنا الآن لا قدسيّة لبعضها دون البعض ولا دنس لبعضها الآخر دون البعض وقد تصير متاجرمارينا بلاتز كعبة أهل العمامة ولاعمامة لحجر يقذفه صبية الهمذاني في المقامة المضيرية، وحجر المتاجر من الماس والجواهر وألوان العطورات والحلي الزائف والصادق- الهواتف المحمولة وكل بريق  يهون فيه البترو دولار ولعلّ الهوَس بموضة آخر صيحة وبتقليعات الاشهار لعلب الشكلاطة تتحلّب له الشفاه وتتلمظ فلا تحترق له إلا فلذات أكباد الواقفين في عرفات ومهنة التّجارة شريفة  تشرّع لأهل الابتكار في مصانع السيارات في مونيخ بأن يهيّئوا لحجيجهم من  أمراء العرب ولا أثر لناقة وجمل إلا في العقول  ولا عقل يعقل بني أنف الناقة من الإقبال على سوق السيارات الألمانيّة فتصنع لهم سيارات ضخمة تصمم على المقاس البدويّ اللائق بشيوخ القبائل.  ونماذج من هذه السيارات الشبيهة بسفينة الصّحراء ولانوح والانموذج معروض في قاعة قرب أولمبيا بارك والسيارة تلك تناسب ذوق الشيخ الخليجيّ في نزواته وكيفية جلوسه ووقاره.

 وقد يخترق الخيال سجن الموجود فيبلغ أويتجاوز تخوم المنشود فيتصور ما يأتيه بعضهم من عشق الهوس عشق هندسة المعمار في ألمانيا عامة وفي بافاريا مونيخ على وجه الخصوص فيدفعه  شره الولع بنقلها إلى بلاد الخليج و لا ندري إلى حدّ الآن أكان الخليج فارسيّا أم عربيّا؟ ولعل الشغف بمحاكاة الغرب سجيّة طبع بل تطبّع يجسّده نقل هندسة المعمار من الغرب الى الشرق- وهو شبيه بنزوة شغف المغلوب بالغالب  على حدّ عبارة ابن خلدون ،هذا  وقد يستورد أصحاب المال والنفوذ من ذوي الجاه والسلطان في الخليج المهندسين والبنائين وحتي  المقاولين وهم المدفوعون بدافع الإعجاب والانبهار فيقفزون قفزات حرق المسافات بهلوانية بدويّة  من أجل التّماهي أو التباهي الكاذب بصدقه بما قلدوا  حضارة الغرب سواء أكان ذلك في بافاريا أو في غيرها.

وأذكر ولا أكاد أنقطع عن الضحك ملء شدقيّ  ماكان  لبايات تونس ومنهم أحمد باشا باي في عهد الأمان ولا أمان من ولوع بتقليد ملوك فرنسا وقصّة قصر فرساي وقد بني شبيهه في المحمّدية في  أحواز الحاضرة المحمية أو المسجونة بخرافة أبوابها، زمن الخلافة العثمانية وشتان بين القصر والعصر ،وأكاد أن أغفل   عن أسماء الأيام وأنا الغارق منز زمان بوعنبة في الضحك الباكي من سخافة عقلي المُعاق بالمثل والمباديء واليوم يوم جمعة وتاريخه 10 أفريل 2020 والشارع الطّويل في مارينا بلاتز يمتدّ  من تمثال “زيقي زمّر”** إلى الساحة التاريخيّة وراء قصر الحكومة الذي يكاد أن يخلوَ كسائر حدائقه من المارّة الزائرين.

وكانت لي فرصة أن أجول وحدي حيثُ شئت  فأصوّب ناظري إلى عراء المكان ولاسيّما وسط المدينة الفارغ والعبارة  لبارط ، قد أشبهه في حجّته إلى فانتزم العلامة في  اليابان في كتابة إمبراطورية العلامات وقد يتملكني شعور البهجة الحزين وأنا في بلد لا أسمع فيه لأول مرّة  خطبة جمعة ولا آذان يدعو  إلى صلاة- والخطبة قد تطول وتهيمن على أجواء بيتي  فيرعبني من الخطيب وعد ووعيد وهمزة ولمزة، وها أنا ذا أضرب أخماسي في أسداسي  إلى أن تتحرّك فيّ نزوات الشعراء ولا يتبعهم غاوون مذ  وقفت في وجوم المحراب تقوم فيه قامة  تمثال اسمه منسوب إلى كاتب يشبهني  في البليّة  حيتّ تخيّلته من خلال وقفته المتواضعة  أنّ زمّر ولد باب الله يمشي مع سائر في أسواق مونيخ  وهوواحد من سكانها يتأبّط صحيفة  في يمناه  وهو(حسب ويكيبيديا) الصحفي المتعاون  مع صحيفة محليّة ولم تخل حياته من أفراح وأتراح وهو الذي شارك في الحرب العالمية  الثانية بفرنسا ,وأصيب كما يصاب الجنود وسجن كما يسجن الإنسان في خضم الحياة وتقلباتها  وللرجل مدوّنة قصصية هامّة منها مجموعته الشهيرة ” لا احد يبكي ورائي “.

هذا وكانت جل آثار زمّر توحي بحبّه وتعلقه بمونيخ وهو المبدع المحلي بامتياز  ذات الصيت العالميّ وباب العالمية المحلّية هو الكاتب  ما بعد حداثيّ، لذا أكرمته  بلدية مونيخ بإقامة تمثال له في مدخل مارينا بلاتز.  فقلت هكذا تكرّم المدن كتابها المحليين قبل الوافدين وتلك علامة من علامات الحداثة وما بعدها في مونيخ  حيث لا تحتاج مونيخ إلى استيراد تماثيل لكتاب ذاع صيتهم فتهمل المبدعين من أهلها كما يحصل عندنا؟ ولا فائدة في العزاء والتعزّي بعبارة “القوم سبقونا”،   ولعلّ المقارنة لاتصحّ ولا تكون، والتمثال قريب من الكنيسة والكنيس وأنا الباحث السائل عن سرّ ولادة الفنون و الفلسفة في ألمانيا عموما وفي مونيخ بالذات والوقوف على هضاب مونيخ غير الوقوف على جبال عرفات ولاعرفة في البال غيرشعاب الطبيعة ووهاد الإلهام وكتب لهيلدرين وغيره قد تطل ولاتغيب من واجهة مكتبة مجاورة للتمثال او في غيرهامن مكتبات المتاجر ولا هيمنة لثقافة على ثقافة ولا فائدة في التكرار المملّ  وهكذا يظل الدين كالأدب والفلسفة والفنون الجميلة تمجرّد تعبيرات ثقافية مختلفة باختلاف أمزجة الإنسان وملكات التعبير عنده ولا تفاضل بينها…

(يتبع …)  

***

*كاتب من تونس – مونيخ –مارس/ افريل 2000

**(23 أوت 1914  Sigi Siegfried Sommer  – مونيخ 25 جانفي  1996)

(Xanax)

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *