الإعضال البنيويّ اللبنانيّ والاعتراض الفكريّ على الفِدِراليّة الثقافيّة والوصاية الأمميّة (الجزء الثاني)

Views: 813

أ.د. مشير عون

 

  1. تعريف الفِدراليّة الثقافيّة في مضمونها الفكريّ السياسيّ العامّ

من بعد أن قرأ الأصدقاء الجزء الأوّل من المقال، تمنَّوا عليّ أن أتوسّع في استجلاء معنى المفهوم. الفِدراليّة الثقافيّة التي أنادي بها نظامٌ سياسيٌّ تعدّديٌّ يصون وحدة الأراضي اللبنانيّة، ولكنّه يستحدث عليها متّحداتٍ ثقافيّةٍ يلتئم فيها جميعُ الذين يتشاركون في التصوّر الإنسانيّ الفكريّ الأشمل. وهو تصوّرٌ ينبثق من التأويلات التي يسوقها أعضاءُ الجماعة اللبنانيّة في أنتروبولوجيا شرعة حقوق الإنسان. في اعتقادي أنّ مصدر الاختلاف في تأويل الحقائق الأنتروبولوجيّة الأساسيّة يكمن في التحسّس الوجدانيّ الخاصّ الذي يضمّ في سلكٍ واحد أعضاءَ كلِّ جماعة لبنانيّة على حدة. ذلك بأنّ الجماعات اللبنانيّة، وقد تبلورت هويّتُها الطائفيّة على تعاقب الأيّام، غدت اليوم تتصوّر تصوّرًا متباينَ المضامين والتعابيرِ الإنسانَ والكونَ والحياةَ والوجودَ والتاريخَ والمبادئَ والمثُلَ وقيَمَ المساواة والحرّيّة والكرامة والعدل والانتماء والاختلاف. ولم يقف التباينُ عند حدود الاختلاف الفكريّ الحرّ، بل أصبح لكلّ جماعة ميلٌ غالبٌ إلى تجسيد خصائص التحسّس الوجدانيّ في المبادئ الدستوريّة، وفي الصوغ التشريعيّ والأحكام القانونيّة،وفي المجال العموميّ، وفي تدبّر الفعل السياسيّ الأشمل.

من جرّاء مثل هذا التباين، استحال التوافق على معيّةٍ لبنانيّةٍ سليمةٍ تنتهج انتهاجًا سلميًّا سبُلَ المعايشة الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة. أخطرُ الخلافات طفقت تستظهر على الحياة اللبنانيّة في حقول تداول السلطة، والولاءات الخارجيّة، وقانون الانتخاب، وتوزيع الثروات، والتوظيف الإداريّ، والاستئثار بالمجال العموميّ، وتشنّج الوعي التاريخيّ والوطنيّ والتربويّ. لذلك أقترح أن يكون لكلّ متّحدٍ استقلالٌ ثقافيٌّ يتيح له التعبير عن خصائص تحسّسه الوجدانيّ. ولا بدّ للاستقلال الثقافيّ من بنية قانونيّة تحميه وتصونه وتعزّز إمكانات تطوّره. لذلك تستوجب الفِدراليّةُ الثقافيّةُ اللبنانيّةُ أن يجتمع اللبنانيّون بحسب انتماءاتهم الوجدانيّة الخاصّة، وأن يستصدروا التشريعات التي تلائم هذه الانتماءات، ولكن شرط الحفاظ على روابط الدولة المركزيّة التي تضطلع بمسؤوليّات ثلاث: العلاقات الخارجيّة، والدفاع عن الأرض اللبنانيّة، وإدارة الموارد الطبيعيّة المشتركة والشؤون الاقتصاديّة الوطنيّة. ولكلّ قطاع من القطاعات المركزيّة الثلاثة هذه وظيفةٌ أساسيّةٌ لا تعارض الاستقلالَ الثقافيّ في كلّ متّحد.

في هذا السياق، ينبغي قول الحقيقة في شأن الوزارات الثلاث المركزيّة هذه. لن يكون لهذه المتّحدات، ولم يكن للبنان أصلًا منذ استقلاله، من سياسة خارجيّة بمعزل عن الإجماع العربيّ والرعاية الدوليّة. ولن يكون لهذه المتّحدات، ولم يكن للبنان أصلًا منذ استقلاله، من سياسة دفاعيّة ناجحة سوى تلك التي تصونها مشيئةُ الأمم المتّحدة. ولن يكون لهذه المتّحدات، ولم يكن للبنان أصلًا منذ استقلاله، ثباتٌ في اقتصاده بمعزل عن التفاعل النشاطيّ الابتكاريّ مع العالم العربيّ والعالم الغربيّ. وعليه، تقتصر وظائفُ الوزارات المركزيّة الثلاث على صون خصائص الفكرة اللبنانيّة في مستلزماتها الوطنيّة العامّة. وليس على اللبنانيّين أن يختلفوا في قرارات هذه الوزارات، إذ إنّ مجال التأويل السياسيّ ضيّقٌ، تحسمه بداهةُ الاقتصار على القضايا الإجماعيّة التي تحظى بالتأييد العربيّ والدوليّ. أمّا المتّحدات الناشئة، فتضطلع بجميع الوزارات الباقية في نطاق متّحدها الخاصّ.

بما أنّ التواصل الجغرافيّ غيرُ ممكن في المطلق في نطاق كلّ متّحد، فلا بدّ من أن يجري التفاوض الراقي في شأن المناطق المنفردة حتّى يُصار إلى تعزيز روابطها الثقافيّة مع المتّحد الثقافيّ الجغرافيّ الأوسع. من الحكمة، والحال هذه، أن يجري التنسيقُ بين هذه المتّحدات من أجل الفوز بأعظم قدر من التعاون السلميّ البنّاء.ومن ثمّ، ليس من المستحيل على أهل الخبرة الدستوريّة والقانونيّة أن يبتكروا صيَغًا تدبيريّة تصون الرابط الأصليّ بين الدولة المركزيّة، في حدودها الدنيا، والمتّحدات الثقافيّة المستقلّة، وتحفظ أصول المعاملات الإنسانيّة بين المتّحدات، وتتدبّر مسائل التشارك العادل في الموارد الطبيعيّة.

 

  1. الاعتراض الأوّل: تخلّف الطرح وعبثيّته

الاعتراض الأوّل يرسم أنّ الفِدراليّة مشروعٌ حوشيٌّ، تقسيميٌّ، متخلّفٌ، غريبٌ عن ثقافة الاجتماع اللبنانيّ والعربيّ. والحال أنّ الفِدراليّة، في منطق العلوم السياسيّة الحديثة، هي الشكل الحضاريّ الأرقى في إدارة التنوّع اللصيق بالمجتمعات الإنسانيّة المعاصرة. أمّا من ينكر التنوّع في الاجتماع اللبنانيّ، فلا يمكنني إلّا أن أفترض اعتصامه برؤيةٍ توحيديّة قاهرة تُلغي حقائق الوجدان الخاصّ بكلّ جماعة.

أعتقد أنّ اللبنانيّين، على غرار كلّ الكائنات البشريّة، يحملون في ذواتهم أحاسيسَ وتذوّقاتٍ واقتناعاتٍ وعقائدَ تستلزم منهم السلوك مسلكًا اجتماعيًّا وثقافيًّا مختلفًا. ولقد وصل التباين في الوجدان الجماعيّ الخاصّ إلى حدود الشعور بضرورة استدخال تعابير الخصوصيّات في صلب النظام السياسيّ. لذلك لا يمكن إنكارُ هذه الحقائق، والتصرّف تصرّفًا يوحي بالوحدة الظاهرة، في حين أنّ المطلب الأقصى يقضي بإقامة المدينة اللبنانيّة على أساس النظام الاجتماعيّ والثقافيّ والسياسيّ الذي يلائم اقتناعات الوجدان الجماعيّ القصوى.

من صلب هذا الاعتراض يسوّغ بعضُهم رفضَ التسمية، ويركنون بالأحرى إلى مقولة اللامركزيّة المتطوّرة القصوى. أظنّ أنّ المشكلة ليست في التسمية، بل في الوعي الثقافيّ الذي يصاحب تسمية الوقائع. في جميع الأحوال، غدت الحاجة اللبنانيّة كيانيّةً إلى ابتكار نظامٍ تنوّعيّ يراعي عمق الوجدان الجماعيّ في كلّ بيئة ثقافيّة على حدة. إذا كانت أرقى الأمم تعتمد هذا النظام أو ما يشبهه، وإذا كانت بعض الأوطان العربيّة، كالعراق مثلًا الذي ينتمي أغلبُ مواطنيه إلى الدِّين الإسلاميّ، تستصفي من النظام التنوّعيّ أسمى فضائله، فتستدخله في مبانيها الدستوريّة وأحكامها القانونيّة وترتيباتها الإداريّة، فما الذي يمنع الوطن اللبنانيّ، وهو مثالُ التنوّع في العالم العربيّ، من أن يحذو حذو هذه الأمم؟

 

  1. الاعتراض الثاني: سموّ الأخلاق ينقذ النظام الطائفيّ الراهن

يفترض الاعتراض الثاني رفعةَ الأخلاق سدًّا منيعًا في مواجهة الفِدراليّة، إذ يكفي أن نصون النظام اللبنانيّ الطائفيّ على حاله، شرط أن تستقيم أخلاقُ المسؤولين فيه، على نحو ما اتّسقت الأمور منذ نشأة لبنان الكبير حتّى منتصف السبعينيّات. لا بدّ هنا من التذكير بمعطوبيّة الكائن الإنسانيّ والواقع السياسيّ في جميع الأمم التي نضجت، فعمدت إلى حماية الضعف البشريّ بشرائعَ وقوانينَ وأحكام ومؤسّسات رقابيّة تعزّز النزاهة والتجرّد والشفّافية. أمّا في لبنان، فالمعطوبيّة البشريّة يلتصق بها خللٌ طائفيٌّ جسيمٌ، إذ بات يستحيل على القضاء محاسبة الفاسدين في الطوائف. ذلك بأنّ الفاسد ليس فاسدًا في نظر طائفته، بل فاسدٌ في نظر الطوائف الأخرى. ومن ثمّ، فإنّ المحاسبة لا تستقيم في لبنان إلّا إذا حاسبت كلُّ جماعة الأشرار المرتكبين فيها. وهذا، على سبيل المثال، إجراءٌ لا يصحّ إلّا في سياق المتّحدات الثقافيّة التي تدبّر شؤونها تدبيرًا ذاتيًّا. لا يستطيع النظامُ الطائفيُّ أن ينتدب جسمًا قضائيًّا منزّهًا عابرًا الطوائفَ، لأنّ التواطؤ الخبيث بين الدِّينيّات والسياسيّات يعطّل النزاهة القضائيّة. فالعصبيّة الطائفيّة اشتدّت اشتدادًا مرعبًا في سنوات الحرب وما بعد الحرب، حتّى أمسى الوجدان الطائفيّ أعلى من الوجدان الحقوقيّ. بذلك يستحيل إنشاء دولة الحقّ وقضاء النزاهة على امتداد البيئات اللبنانيّة المتنوّعة في دولة مركزيّة عاجزة بنيويًّا تستبيحها الطوائف أيّما استباحة، وتفرض عليها باسم مصلحة الطائفة كلَّ ألوان الانتهاك الإداريّ.

 

 

  1. الاعتراض الثالث: الاقتتال الداخليّ في كلّ متّحد ثقافيّ

ينبثق الاعتراض الثالث من تخوّف الكثيرين الذين يعتقدون أنّ الالتئام في بيئة ثقافيّة متجانسة يجرّ عليها ويلات الاقتتال الداخليّ، على نحو ما جرى أثناء الحرب اللبنانيّة. يقيني أنّ المتّحداث الثقافيّة اللبنانيّة التي يعتمدها النظامُ الفِدراليّ لن تسمح بالغلبة والاستقواء داخل أسوارها لأنّها تدرك أنّ أيَّ خللٍ داخليّ سيُفضي بها إلى الإفناء الذاتيّ. لذلك تقتضي الحكمة أن يتدبّر الناسُ شؤونهم بالتوعية الثقافيّة المستنيرة، والتشاور الدِّموقراطيّ السليم، والانتخابات الدوريّة الناظمة. أمّا إذا سأل سائلٌ لماذا لا يصحّ هذا التدبّر في صيغة النظام الطائفيّ اللبنانيّ الراهن، فجوابي أنّ غلبة التصارع الطائفيّ بين الجماعات يُعمي البصيرة، ويعطّل الحكم الصائب على الأمور، ويدفع بالناس إلى إيثار الجلّادين على الأصفياء.

وعلاوةً على ذلك، فإنّ المتّحدات ليست منعزلاتٍ مغلقة، بل بيئات ثقافيّة مفتوحة، تستقبل كلّ اللبنانيّين الوافدين إليها، والشرط الوحيد هو الائتمار بأحكام التدبير الخاصّة بها. وبما أنّ الناس في حركة تطوّر دائمة، فإنّ البيئة الأشدّ اجتهادًا في صون شرعة حقوق الإنسان هي التي تستقطب اللبنانيّين الراغبين في اختبار نمط الرقيّ الإنسانيّ في العيش الحرّ الكريم. فلا غرابة، من ثمّ، أن تسري العدوى رويدًا رويدًا حتّى تبلغ جميع البيئات الثقافيّة. وليس من الضرورة أن ينتقل الجميع إلى البيئة الأرقى دِموقراطيًّا، بل يمكن مناصرة الرقيّ دِموقراطيًّا في البيئة عينها.

ليس من دليل أسطع على سريان عدوى الرقيّ من إقبال شعوب الأمم المقهورة إلى الأوطان الغربيّة تستغيثها طلبًا للكرامة والمساواة والحرّيّة والازدهار الكيانيّ الذاتيّ الأشمل. والأمل أن تنحت البيئاتُ الثقافيّة اللبنانيّة هيئتَها السياسيّة على مثال الرقيّ الإنسانيّ الذي تختبره أممُ الأرض المتقدّمة. وكلّما تجانس النحتُ بين هذه البيئات، أي كلّما قويت شوكة البيئة الإنسيّة العَلمانيّة في الاجتماع اللبنانيّ، قربت المسافات، وسقطت الحواجز، والتأمت الإرادات. غير أنّ هذا الرجاء يظلّ مرسومًا في أفق بعيد، ولا يُعفي اللبنانيّين من الحفاظ على ذاتيّتهم في زمن التخلّف السائد. وهو زمنٌ ينبغي فيه الحفاظ على أمرَين أساسيَّين: ضمان وجود الجماعة المستضعفة، وتجنّب الاحتراب بين الجماعات المستقوية. وهذا، لعمري، مكسبٌ جليلٌ للمعيّة اللبنانيّة المنتظمة في الفِدراليّة الثقافيّة! أمّا إذا رحمنا الدهرُ اللبنانيّ والعربيّ، فسقطت التباينات الخطيرة بين الجماعات اللبنانيّة، واستوى الجميع في مقام التوافق الصادق على صدارة الخلفيّة الأنتروبولوجيّة التي تنبثق منها شرعة حقوق الإنسان في جميع مبادئها وأحكامها، فما من شيء يمنع المتّحدات اللبنانيّة حيئنذ من تعزيز مسرى الاتّحاد.

 

  1. الاعتراض الرابع: فرضيّة غياب الدولة تُعطّلُ فِدراليّة المتّحدات

يعترض آخرون على الفِدراليّة الثقافيّة التي تفترض وجود دولةٍ مركزيّة قويّة. والحال أنّ الدولة اللبنانيّة في غيبوبة مرَضيّة مزمنة. من الواضح أنّ المعترضين يتناسَون أنّ سقوط الدولة ليس سببُه تصارع أمراء الطوائف فحسب، بل التنازع الفكريّ السياسيّ في مسألة الدولة. في المتّحداث الثقافيّة، يمكن البحث في إنشاء مؤسّسات الدولة المصغّرة إنشاءً يلائم المسلّمات الأنتروبولوجيّة التي يستند إليها الإحساسُ الوجدانيّ في كلّ جماعة. أمّا الدولة المركزيّة، فليس في لبنان حاجة إليها، إذ إنّ التباينات بلغت حدّها الأقصى. يكفينا من الدولة المركزيّة هذه الوزارات الثلاث وحسب.

ذلك بأنّ لبنان، في اختباره الوحدويّ القديم، ما كان له في هذه الوزارات من أثرٍ تغييريّ في المنطقة وفي العالم. ولن يكون له، في اختباره الفِدراليّ الثقافيّ، من أثرٍ بارز. يقيني أنّ الإشعاع اللبنانيّ لا تُفصح عنه الخارجيّة والدفاع، بل الثقافة والتنوّع والابتكار الأدبيّ والفنّيّ. إذا أقنع اللبنانيّون المجتمع الدوليّ والأمم المتّحدة بضرورة صون تنوّعه في صورة الفِدراليّة الثقافيّة، تضاءلت رقعة الصلاحيات التي تنطوي عليها الوزارات الثلاث المذكورة.من جرّاء الانقباض الطبيعيّ هذا، تتقلّص وظيفة الدولة المركزيّة لتصبح موضعًا تنسيقيًّا أساسيًّا في تفاعل المتّحدات الثقافيّة الحرّة.

فلا الدولة اللبنانيّة المركزيّة القديمة المعتلّة استطاعت أن تحمي لبنان واللبنانيّين. ولا التحالف الإقليميّ الإيديولوجيّ الأحاديّ يستطيع اليوم أن ينهض بهذه المهمّة الكأداء. ولا الدولة المنقبضةالمنبثقة من مشيئة المتّحدات تستطيع أن تصون لبنان واللبنانيّين من أيّ عدوان. وحدها الطبيعة السلميّة التي تحملها الفِدراليّة الثقافيّة يمكنها، بمؤازرة القرار الدوليّ، أن تجعل لبنان أرضَ السلام. فطبيعة التنوّع اللبنانيّ والفرادة اللبنانيّة تستوجبان أن يستند اللبنانيّون إلى الوعي الحقوقيّ الأمميّ الراقي من أجل صون المعيّة اللبنانيّة وتعزيزها.

وعلاوةً على ذلك، فإنّ ما عجز اللبنانيّون عن بنائه في مستوى الدولة المركزيّة، يستطيعون إنجازه في مستوى المتّحدات، إذ إنّ القرار أسلم، والمعالجة أفعل، والمحاسبة أدقّ، والرقابة أيسر، والمحاكمة أنظف، والقضاء أعدل. في الإدارة اللبنانيّة المعتلّة هذه، يعجز اللبنانيّون أن ينهضوا، وأن ينتفضوا، وأن يثوروا، وأن يطالبوا، وأن يغيّروا، وأن يجدّدوا، وأن يبتكروا. ذلك بأنّ كلّ طائفة تستنجد أمراءَها المستبدّين من أجل معاكسة مخطّطات الإدارة الحكيمة الرشيدة الصالحة. ولا يقنعني أحدٌ بأنّ المقاصد الفرديّة الصالحة في هذا المرفق أو ذاك تستطيع أن تنقذ الإدارة من براثن التصارع الطائفيّ اللبنانيّ المستفحل.

 

  1. الاعترض الخامس: الدولة المدنيّة هي الخلاص

يعترض آخرون اعتراضًا ملتبسًا حين ينادون بالدولة المدنيّة خلاصًا للاجتماع اللبنانيّ. ولكن أسأل اليوم: ما معنى “المدنيّ” في لبنان؟ ليست المدنيّة صفةً في الدولة، بل نعتٌ لصيقٌ بالاجتماع الإنسانيّ. الدولة جهازٌ سياسيٌّ لا تصحّ فيه خاصّيّةُ المدنيّة. ومن ثمّ، فالمطلوب هو العَلمانيّة التي تميّز المجال العموميّ من المجال الخاصّ. وكنتُ قد جاهرت، وما زلتُ، بالعَلمانيّة الهنيّة التي تؤاتي الحسَّ الإيمانيّ الساميّ المشرقيّ العربيّ اللبنانيّ، فتعزّز مقام الإيمان في وجدان الفرد الحرّ. غير أنّ العَلمانيّة الهنيّة لا ترضى إلّا بإلغاء المحاكم الدِّينيّة، وتقليص الهيمنة الدِّينيّة الإكليرُسيّة والمشيخيّة، وفرض الزواج العَلمانيّ الواحد وجميع أحكامه. في إثر هذا كلّه، أي من بعد أن تُلغى الطائفيّة من النفوس، ويغدو اللبنانيّون يتصرّفون في المجال العموميّ تصرّفَ المواطنين المتساوين في الحقوق والواجبات، يُعدَّل الدستور اللبنانيّ، وتُلغى الطائفيّة السياسيّة، وتُجرى الانتخابات على أساس القانون الوطنيّ العصريّ الواحد.

ولكن أين نحن في لبنان من التحوّل الأنتروبولوجيّ الجليل هذا؟ أوَما حان وقت المصارحة الصادقة النزيهة؟ هل تستطيع الذهنيّة اللبنانيّة المسلمة أن تقبل بالعَلمانيّة الهنيّة التي أنادي بها؟ وما الذي يضمن تحوّل الدولة المدنيّة إلى دولة شيعيّة أو دولة سنّيّة؟ وما الذي يحمي المسلمين العَلمانيّين من غلواء طوائفهم؟ وعلامَ يقوم الوعي العَلمانيّ اللبنانيّ، إذا ثبت أنّ الوجدان الجماعيّ ما فتئ خاضعًا لتصوّرات المبايعة الدِّينيّة التي تتخطّى الأوطان والحدود والمجتمعات؟ وأيّ اختبار لقوميّة عربيّة أعتقت نفسها إعتاقًا صريحًا من عناصر التصوّر الدِّينيّ الإيديولوجيّ؟ جميع الأسئلة هذه يصوغها العقلُ المسيحيّ العَلمانيّ الراغب في استثارة التفكير النقديّ الصريح لدى الشريك المسلم.

أوّل شرط من شروط العَلمانيّة أن يتصوّر اللبنانيّون الإنسانَ كائنًا تاريخيًّا فائزًا بكامل إنسانيّته في ذاتيّته الحرّة، بمعزل عن جميع الارتباطات التي يعقدها، من بعد أن يختار بحرّيّة مسالكَ التذوّق الفكريّ والروحيّ التي تناسب مسرى نضجه الكيانيّ. ومن الشروط الأخرى أن يحرّر اللبنانيّون المجال العموميّ من هيمنة المجال الدِّينيّ الخاصّ، وأن يبنوا الدستور والقوانين والتشريع على أسس شرعة حقوق الإنسان العالميّة، وأن يعتصموا بالقانون العَلمانيّ وبجهاز الدولة ومؤسّساتها مرجعيّةً نهائيّةً في بتّ مسائل المعيّة داخل المدينة الإنسانيّة الواحدة. غير أنّي لا أرى اللبنانيّين مُقبِلين على التحوّل الجذريّ الخطير هذا في العقود العشرة الآتية علينا في المئويّة الثانية!

العَلمانيّة الهنيّة سبيلُها الفِدراليّة الثقافيّة. لذلك ما زلتُ أقول بالعَلمانيّة الهنيّة، وأقترحها نظامًا أنتروبولوجيًّا في المتّحدات اللبنانيّة الثقافيّة التي تستحسنها بحرّيّة. يقيني أنّ المسيحيّين يَقبلون طوعًا بالعَلمانيّة الهنيّة، في حين أنّ المسلمين ينبغي أن يجتهدوا اجتهادًا عظيمًا حتّى يتذوّقوا فضائل هذه العَلمانيّة. وليسوا اليوم على قابليّة صريحة لاعتماد العَلمانيّة الهنيّة هذه. إذا أراد العَلمانيّون أن يحيوا حياةً حرّة كريمة، وينحتوا الاجتماع اللبنانيّ على صورة الرقيّ العَلمانيّ الإنسيّ، كان عليهم أن يصونوا الفِدراليّة، ويعزّزوا إمكانات العَلمانيّة في كلّ متّحد ثقافيّ، وفي يقينهم أنّ المتّحد الثقافيّ المسيحيّ الهوى منخرطٌ في العَلمانيّة انخراطًا رضيًّا. وليعلموا أنّ تواطؤهم مع الأنظمة الإسلاميّة أو القوميّة العابرة الحدود لن يجرّ عليهم سوى التشتّت والذوبان والإلغاء.

 

  1. الاعتراض السادس: إهمال الحقائق الطبيعيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة

من الاعتراضات أيضًا أنّ الفِدراليّة الثقافيّة المتجسّدة في المتّحدات المتجانسة المستقلّة يستحيل إحياؤها من جرّاء صغر الرقعة الجغرافيّة اللبنانيّة، وتواصل بنى الموارد الطبيعيّة، وتشابك المعطيات البيئيّة. زد على ذلك أنّ الوشائج الاجتماعيّة المنسوجة بين اللبنانيّين تصعّب عليهم التباعد في متّحدات ثقافيّة متمايزة. جوابي أنّ الأرض كلّها متّصلة من شرقها إلى غربها، ومن جنوبها إلى شمالها. حين يقسو الدهر على جماعة ملتئمة التئامًا عسيرًا، ينبغي التفطّن الواقعيّ إلى عواقب الإصرار المرَضي على المعيّة المعتلّة.

فلو أراد الناس أن يراعوا جميع الحقائق الطبيعيّة والجغرافيّة، لما نشأت الأمم في حدودها الراهنة، ولما نشط النقاش في إعادة رسم بعض الحدود التي تناسب الهويّات الجماعيّة الخاصّة، في الغرب وفي الشرق. بعضهم يعاين التحامًا طبيعيًّا بين سورية ولبنان وفلسطين والأردن، وبعضهم الآخر يعاين تمايزاتٍ وانفصالاتٍ ومناطقيّاتٍ وكياناتٍ قائمة بحدّ ذاتها. التصوّر الإيديولوجيّ هو الغالب في مثل هذه المعاينة. هل الحدود الجغرافيّة هي التي ترسم وحدها هويّة الكيان السياسيّ، أم إنّ الائتلاف الوجدانيّ الجماعيّ هو العنصر الغالب؟ ما الذي يصون بلجيكا بين فرنسا وهولندا وألمانيا؟ وما الذي يجمع الولايات المتّحدة الأمِريكيّة؟ ولماذا تخلّت روسيا عن الأقاليم التي التحقت بالاتّحاد السوفياتيّ القديم؟ وهل يجوز إكراه جميع الأقاليم التي استقلّت بعد عناء مرير، وضمّها بالقوّة إلى السلطنة العثمانيّة حتّى يومنا الحاضر؟ ما من حقائق مطلقة في مسائل إثبات الحدود، بحيث إن الأرض كلّها يمكن أن تتحوّل إلى قرية كونيّة واحدة. بيد أنّ المنطق يملي على الناس، في اشتداد الأزمات العنفيّة الإلغائيّة، أن يتشاركوا في تحسّساتهم الوجدانيّة الأعمق في نطاق متّحد إنسانيّ ثقافيّ واحد، بمعزل عن خصائصه الجغرافيّة.

 

  1. زمنُ القول الجريء والاختيار المصيريّ

أكتفي بهذه الاعتراضات، وفي يقيني أنّ المشكّكين المتطرّفين في فضائل الفِدراليّة الثقافيّة لن يراعوا صوابيّة هذه الإيضاحات، مهما اجتهدتُ في تجويد مبانيها وأدلّتها. بيد أنّ الواقع اللبنانيّ أصبح لا يُطاق، يضع الجميع أمام احتمالَين: إمّا ترقيع الشروخات البنيويّة، والرضوخ للتعفّن المستشري، والإرجاء المرَضي حتّى ينهار كلّ البنيان، فيقضي الدهرُ أمرًا  كان اللبنانيّون في أصل بلائه؛ وإمّا التجرّؤ على ابتكار حلول استثنائيّة تهدّئ الغليان، وتنجّي الناس من الاقتتال، وتمنح الجميع فرصة التفكير الرصين داخل المتّحدات المتسالمة، في غير وجل أو تشنّج أو استرهاب. منذ زمن الحرب اللبنانيّة، تتعاقب المؤتمرات الوطنيّة الإصلاحيّة في لبنان والعواصم العربيّة والأُروبّيّة، وتتكاثر اقتراحات الإنهاض المستندة إلى رؤى القوى السياسيّة. أمّا النتيجة، فالإيغال المسرف في الانهيار الوطنيّ والسياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ والبيئيّ حتّى بلغنا الانحلال الإخلاقيّ والانحطاط الإنسانيّ في الاجتماع اللبنانيّ. فماذا ينتظر اللبنانيّون؟ المعجزات؟ ليس في السياسة من خوارق غيبيّة، بل جلُّ الأمر، في أفضل القرائن، تسوياتٌ عاقلةٌ تبتكرها العقولُ المستقيمة الواقعيّة.

لن يقبل اللبنانيّون أن يهان بعضُهم على أيدي بعضهم الآخر. لقد أمست كلُّ جماعة ترفض التسويات العاقلة والترتيبات الظرفيّة العابرة. ويبدو أنّ الرهط السياسيّ اللبنانيّ في جميع الطوائف قد استأسد واستبدّ، بحيث بات من المستحيل اقتلاعُه اقتلاعًا سلميًّا. وعليه، من الضرورة الخلاصيّة أن تعمد كلُّ جماعة إلى حسم أمرها بذاتها. فإمّا أن تبايع مبايعة العبيد الحاكمَ المستبدَّ الذي يستهوي غريزتها الطائفيّة، وإمّا أن تصطفي بالانتخاب الدِّموقراطيّ الحرّ الحاكم المستنير الذي يخاطب وعيها الإنسانيّ، ويرتقي بها إلى مصافّ الأمم الحضاريّة. ولكنّه، في ظلّ الانقسام الطائفيّ الحادّ، ليس لنا سبيلٌ قويمٌ إلى انتخاب دِموقراطيّ هادئٍ، سليمٍ، راقٍ، مسؤولٍ، تغييريّ.

آن الأوان إذًا للانعتاق من ذهنيّة الوحدويّات الانصهاريّة القاتلة. فليتجرّأ الجميع على خوض المباحثات البنّاءة هذه، لئلّا يجرفنا التيّار جميعًا، وتدوسنا عجلاتُ التاريخ، ونُرمى على قارعة الحياة. أظنّ أنّ كثيرين من اللبنانيّين يوافقونني الرأي في ضرورة صون التنوّع المغني. غير أنّهم يختلفون في ابتكار الصيغة الأنسب. فهاءنذا أقترح فِدراليّة المتّحداث الثقافيّة المتسالمة حلًّا حبّيًّا من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من المعيّة اللبنانيّة. كلُّ تصوّر آخر يَسقط إمّا في مكابرات الاستعلاء، وإمّا في مهاترات الإنكار. وحدها الواقعيّة الرشيدة ترتضي التشاور الهنيّ في السبيل الخلاصيّ هذا.

من السهل أن ينعت الناسُ هذا الاقتراح بالمشتهى النظريّ الجميل الذي يخالف التاريخ الواقعيّ المرير. بيد أنّ كلّ واقع اختبره الناسُ كان، في زمنٍ من الأزمنة، مشتهًى نظريًّا بهيًّا، ما لبثت تواطؤاتُ المشيئات الصالحة أن أسعفته، فاستوى واقعًا قابلًا الحياة والاستمرار. فما الذي يمنعنا من تحويل المشتهَى النظريّ هذا إلى واقع لبنانيّ جديد يزدان بجميع أصناف الفضائل الإنسانيّة الخلاصيّة؟

يحزنني أن يرضى اللبنانيّون باهتراء أرضهم وطبيعتهم وبيئتهم وحياتهم ووجودهم ومستقبلهم، وهم يعاينون زعماء الطوائف المستبدّين يتناحرون من على منابر الإعلام الرخيص. أفلا يجدر بنا أن نحرم هؤلاء السياسيّين من نشوة الاستبداد، فنضع مسألة تجديد النظام السياسيّ اللبنانيّ بين أيدي النخبة الفكريّة النجيبة الصافية المتجرّدة؟

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *