سجلوا عندكم

“صحافة النسيان” لرياض الريس وما تبقّى منها في الذاكرة

Views: 678

سليمان بختي

هذا الكتاب “صحافة النسيان” للصحافي الراحل رياض نجيب الريس صدر قبل وفاته بقليل ووزع بعد رحيله، وهو الكتاب رقم 38، في سيرة كتبه التي بدأها منذ العام 1962 وحتى 2020. بما يعني أن رياض الريس لبث يكتب حتى آخر أيام حياته. يكتب عن القضايا التي صرف عليها أعز الصرف في حياته. أي قضايا الخليج وسوريا ولبنان والقوميين والشعراء والمثقفين والمسلمين وحتى المصرفيين. وهو يعرف أن كل محاولة شجاعة للكاتب أو المثقف إنما هي تحية للحياة. ويعرف أيضاً أن الدنيا دولاب. وإن طرفي الحبل في الحياة هما الذاكرة والنسيان. وكأن الكتابة هي إعادة اعتبار للذاكرة ليس إلا.

يختار رياض الريس من قضايا النسيان موضوعاً ويشبعه دراسة واحاطة بالمعلومات والرأي ولأجل الذاكرة والعبرة. ولا عجب أن يستمر رياض الريس في الكتابة حتى الرمق والسطر الأخير. فهو مثل الجنود القدامى الذين اعتبرهم ماك آرثر “لا يموتون أبداً، إنما يتلاشون”. ولذلك يرصد ما أهملته الصحافة والقرار أي صحافة النسيان. يختار من أرشيفه عن ناس عرفهم وقضايا سياسية وثقافية عاصرها وعاينها. فهو كان في عدن مراسلاً للنهار بين 1966 و1967 غطى خلالها مراحل الاستعمار والسعي للاستقلال.

 

يذكر كتاب رياض الريس بوضع العالم العربي ككل “ماضي لا يريد أن يمضي ومستقبل لا يريد أن يولد”. يحاول تذكير لما نسيه اليمنيون والخليجيون وباقي العرب من ماضي استهلك التضحيات والخسائر والاخطاء التي تتكرر بما يزيد الفقر والبؤس والتشرذم. ويسأل: لماذا كان اليمن سعيداً والخليج تعباً والعرب مهزومين وثقافتنا مستعارة وضحلة.

وفي تحليله لواقع مجلس التعاون الخليجي يرى الريس أن الهواجس الأمنية استحالت إلى كوابيس. وإذا غاب البطل العربي فالخليج ليس مسؤولاً عن الشرذمة العربية وان المسؤولية تقع على أهل الشرق فهم أصحاب القضية. وأصل المشكلة انه ليس لدينا فكر وقاد وهناك تضييق في الحريات. وان التمزق الداخلي يتم بسلاح الاستقلال الوطني وليس بجيوش الاحتلال الأجنبي.

 

ثمة تعريف موثق للصحافي يطرحه رياض الريس إذ يشبهه بالفلاح الذي يحمل مذراة يذري بها قمح التاريخ. في موضوع العلاقات اللبنانية السورية يبحث الريس في أسباب قلق السوري ومبررات خوف اللبناني ويسرد بعض الحكايات الصغيرة التي هي جزء من تاريخ أهمله التاريخ. وكذلك يفعل في موضوع أثير على نفسه وهو المؤتمر القومي العربي وشؤونه وشجونه. كأن الريس يصفي حساباته مع مواضيع شغلته ويوجه سهام نقده لغياب الديموقراطية في الأحزاب القومية العربية قاطبة. أما عن الشعراء فهو يركن إلى صورة الشاعر القومي الذي عبر عن أسئلة الزمن المخنوق في عصر الشماتة العربية والسقوط والتشرذم والذل العربي. ومحيياً ذكرى الشاعر القروي رشيد سليم الخوري الذي كان ذاكرة الأمة وضميرها وحادي قوافل أبطالها ومغني ايامها المضنية ويختم: “لكن… ما أروع شعرك وأصعب إرثك”.

 

وفي فصل ما نسيه المثقفون بتوقف الريس عند رواية جورج أورويل 1984 وأهمية روايته في تشكيل وعي العصر السياسي الراهن.

وتحت عنوان “ما نسيه المسلمون” فمن خلال مقابلة الآغا خان حول الإسلام والاسماعيلية نعرف من خلال الاجوبة كيفية الوصول إلى اسلام مستنير وامام عصري. وينهي رياض الريس كتابه المميز في “ما نسيه المصرفيون” وكيف حاول مقابلة المصرفي يوسف بيدس (أزمة بنك أنترا) في سويسرا عام 1967 ولم يستطع. ولكنه أنجز أيضاً نصاً مميزاً يصلح لشريط سينمائي “Thriller” عن كيفية اعتقاله ومقطعاً عن الشهد على الشهود الذين رووا القصة كل من زاويته.

 

أخيراً، كتاب “صحافة النسيان” لرياض نجيب الريس هو كشف مميز من مختارات لأهم المواضيع التي عالجها في رحلته الصحافية، كتاب بمثابة وصيّة أخيرة  لصحافي مميز عاش زمن الصحافة اللبنانية والعربية وشهد نهاياتها. شهادة تستفزّ الذاكرة في زمن تهافت الهوية وتمزق التاريخ وتصدّع القيَم.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *