نبيل أبو مراد: شُحرور الوادي

Views: 175

د. جان توما

نبيل أبو مراد، من كلّفَكَ أن ترميَ كلَّ هذا الإرثِ الجماليِّ العاميِّ أمامَنا، وتلغي الدروبَ، كأنّكَ أَزَحْتَ بهذا الغنى الإبداعيِّ حجرَ القبرِ لقيامةٍ مرجوّةٍ، وقدْ دَمَّلَ صليبُ البلدِ أكتافَنَا وأدماها. كيف طلع ببالك ترمينا ع البيادر ع التلج، بزمن الضيعة الحزيني. رديتنا لحدود الدني، الي صارت دارة ويا دارة دوري  فينا.

شو بدك تتخبرنا سنة ١٩٧٤ بمسرحيّة عن حياتنا انو” البلد كلها ضدك وعم بتآمروا عليك”؟ شو بدك تتقول لحياتنا:” بعطيك دوا بروق يهدي “وتقلك” يعني انعس ونام” ليش” ت يسبقني الزمن وارجع لاقي كل شي تغير واركض خيّل بلكي بلحق العمر الي هرب”، تهمتك سنة ١٩٧٤ انك مجنون، يا ريتك جننتنا وقتها معك ونصحى بس يظبط هالبلد”، ومنرجع ع كتابك، انت ما هديتني كتاب، انت هديتني وردة، فرجيتا لصحابي، خبّيتا بكتابي، زرعتا عالمخدّة، هديتك هاي مزهرية رح نداريها و نعتني فيها  لانو لبنان ونحنا فيها. وبعدين …

نبيل أبو مراد أًعَدْتَ الإيقاعَ إلى دَفِّ الشُحرور، منذ أنْ أَرَاكَ ابْنَهُ أشياءَهُ، ومنها الدَفُّ، لعلَّ الدَفَّ هو الأشياءُ كلًّها. ” فهو “الذي كان يخشخشُ فيه على المنبر”(ص 10). نقولُ معكَ الليلةَ يا شُحرور: ” قللي شو مخلاك طيّب/ صوتَك وفنونَك والدّفْ/ كلّ ما بايدك رَنّ وخشّ”( ص 100).

د. جان توما

 

جاءَ كتابُ نبيل أبو مراد ليؤكّدَ أنَّ كُتُبَ الشُحرورِ ووالدِهِ تُعَدُّ ” مرجِعًا ثمينًا خصوصًا في تقصّي تجربتِهِما الشعريةِ والمتفرّدةِ في زمانها” (ص11)، كما تميّزا بموسوعيّتِهما، لذا عَبَرَ نبيل أبو مراد حقلَ ألغامٍ في نقدِهِ الأدبيِّ  متأرجحًا بين المطبّاتِ كي لا تَعْثُرَ رِجْلُهُ بدفٍّ، فتنقّلَ كالأيّلَ طافرًا بين جلولَ مناهجَ التحليلَ الموضوعيَّ والأسلوبيَّ وصولًا إلى التأويليِّ، فالتأريخيِّ، فالاستقرائيِّ، والمقارنِ، ومنهجيّةٍ عمليّةٍ ومرنةٍ، فالمنهجِ النقديِّ (ص11-12).

من أكاديميّتِهِ البحثيّةِ هذه، طَرَحَ نبيل أبو مراد المسألةَ الأدبيّةَ، في التحوّلَ النقديَّ من الثنائيّ: المؤلِّفِ/ النصِّ إلى عَلاقةٍ ثُنائيّةٍ جديدةٍ هي النصُّ/ القارىءُ ليكرِّسَ ما أَنْتَجَهُ المنبرُ الزجليُّ من ثُنائيّةٍ جديدةٍ هي الزجلُ/ الحضورُ(ص 12)، متناولًا قضيةَ” العاميّةَ والفصيح”( ص19)، وناقلًا “ما نَبَّهَ الشُحرورُ إليه في مسألةِ الفصحى، في ما بعد، واعتبرَ أنَّ دخولَها إلى الزجلِ يسبّبُ بلبلةً في لسانِهَا وتركيبِهَا، (ص21)، رابطًا ما بين اللغةِ واللسانِ، إضافةً إلى سلامةِ الإيقاعِ والوزنِ: ” لسان الإنسان حصانو/ وقوة شِعرو ميزانو/ والبيكون شِعْرو مكسور/ انشالله بينقصّ لسانو” (ص 23)، فماذا يقولُ اليومَ، لو عادَ، عن تفصيحَ العامّيةِ؟!

هذا الإرثُ الذي حمّلَهُ الوالدُ خليل سمعان فرح الإفغاليّ الشُحروريّ لابنِهِ أسعد الخوري فغالي كان بساطَ ريحِ الشُحرور للعلوِّ الشعريِّ الزجليِّ، وبقي محلّقًا باجنحتِهِ غيرِ المتكسّرَةِ على الرَّغمِ من القولِ “عندما ارتسمَ والدُه كاهنًا: ماتَ الزجلُ (ص 28). لذا بدا واضحًا دورُ الوالدِ في تلمذتِهِ لابنِهِ، ولعلَّ الشُحرورَ كَرَجَ حجلًا في كرومِ الزجلِ، فما انتشى إلّا لَمّا أنشأ جوقتَه التي حملت لواءَ الزجلِ، فكانت عاميّةُ الشِعرِ العاميِّ، ارتجالًا وإنشادًا ونقرةَ دفٍّ، فصار الوادي بشُحرورِهِ جبلًا، وصار الشُحرورُ نسرًا يجوبُ أوزانَ الشِعرِ العاميِّ ويعملقُهُ.

أسَّسّ شُحرورُ الوادي جوقتَهُ عام 1928م، وفي مصادرَ أخرى 1925م، ويُرجِّحُ أبو مراد 1924م. همُّهُ كانَ إنشاءَ المنبرَ الزجليَّ، (ص 54)، يومَ لم تَكُنْ مُفْرَدَةُ “المِنصّةِ” التقنيّةُ واردةً، فزمنُهُ كان زمنَ أَنْسَنَةِ الكلمةِ المغناجةِ على الشفتينِ ونفرةِ الأصابعِ على الرِقِّ، لا على شاشة إلكترونيّة. لذا “كتب أمير الشعر الزجليّ رشيد نخلة، الذي بويع عام 1933م، صكّ خلافة الأمارة لشُحرور الوادي من بعدِه”ِ. (ص62).

من إمارة الوادي دعا الشُحرور إلى “التمسّكِ بالعاداتِ والتقاليدِ اللبنانيّةِ، فمن أُوْلَى أبياتِهِ: بالبلدان المعمورة / بِمحَلات المشهورة/ بِكْرَه رقص الشارلستون/ وبهوى مَشق الزعرورة/ (ص 57)، كما تميّزَ “بإطلالاتٍ على الشؤونِ المدنيّةِ والأخلاقيّةِ والسياسيّةِ، كما على مسائلِ العاطفةِ الإنسانيّةِ وما تعنيه من التآزرِ مع الآخَر، ومدِّ يدِ العونِ إلى المُعْوَزِ واطلالاتٍ على أمورِ الدينِ ووجوبِ احترامِ مبادئِهِ”(ص 76)، لذا شَغَلَهُ موضوعُ الوطنِ والوطنيّةِ والنقدِ الاجتماعيِّ (ص13)، من هنا نفهم ُوَجَعَهُ “لمّا سافرّ إلى البلقانِ بسببِ عَمَلِهِ في السكّةِ الحديديّةِ، ولمّا وصل إلى مدينةِ سالونيكَ سَمِعَ صوت والدِهِ بالفونوغرافِ يمثّلُ دورَ معنّى وقصيدٍ وقرّادي مع جوقةٍ “فَأَخَذْتُ أبكي من فَرَحي” (ص 80)، من هذا الجرحِ اللبنانيِّ نَدَهَ الشٌحرورُ وَغّنّتِ الشُحرورة :”واقفة ع البحر، بكّأني السفر”( ص 137)، فجاءَ “الزجلَ بابًا من أبوابِ الأملِ، ولبثِّ الرّجاءِ في روعِ الناسِ الذي قد يدفعُ بهم اليأسُ إلى هجرةِ وطنِهِم” (ص 103)

يُوضِّحُ نبيل أبو مراد في تحليلِهِ أنّ “قصيدةَ الشُحرورِ نوع ٌمن السردِ الإخباريِّ البسيطِ تَوَسَّلَهُ الشاعرُ لينقلَ تجربةً معيّنةً بقالبٍ خاصٍ من قوالبِ التعبيرِ وهو القصيدةُ- الحكايةُ بأسلوبٍ يجمعُ تشويقَ الحادِثَةَ إلى بساطةَ النَّظْمِ، إلى رشاقةِ التصويرِ وعفويةِ العبارة” (ص83)، وهي مشهديّةٌ صورٍ من جغرافيّةٍ الطبيعةٍ والوادي والرّيف، فهو يذكُرُ عينَ الديكَ، رتلَ الصبايا، جارةَ الفغالية، بساتينَ الوادي، شُورةَ الرّمانِ، جهةَ الشحّار( ص 97).

لقد أبرزَ نبيل أبو مراد “شُحرور الوادي شاعرًا ملتزمًا بقضايا الإنسانِ، شأنُهُ شأنَ كلِّ شعراءِ الزجلِ بأهميّةِ تقديمِ مفاهيمَ مثلِ الحريّةِ والسيادةِ والاستقلالِ وتعزيزِ الكرامةِ الوطنيّةِ، كما يؤكِّدُ على دورِ الأخلاقِ والنظامش والاتحادِ في ورشةِ تحصينِ الأوطانِ”.(ص116)، إضافةً إلى تناولِهِ موضوعاتِ الغزلِ والرثاءِ ونقدِ العاداتِ الغربيّةِ والدعوةِ إلى التآزرِ الاجتماعيِّ ونقدِ الوضعِ الاقتصاديِّ( ص263)، إذ كان رائيًّا للأحوالِ في عهدِهِ، والمستمرّةِ من 100 سنةٍ تقريبًا إلى اليوم، فانتقد أوائلَ الثلاثينيّاتَ قَطْعَ الكهرباِء وغلاءِ الأسعارِ(ص115)، فنراه يقولُ في الوضعِ الاقتصاديِّ يومَها:” بليونا فيها بالغِشّ/ وقادونا عالعمياني/ خدعونا ورضيونا بعِشْ/ وخربو بيوت العمراني/ قشّوا الذهب منا قَشّ/ وشحنوا البنك العثماني/ ملايين ورق ماش ومِش/ طلوع ونزول نزول وطلوع/ رفّ الوطواط غطّ وطار/ (ص 128).

إنّ قراءةَ كتابَ شُحرورَ الوادي (١) يُصْعِدُك إلى المنبرِ الزجليِّ الذي حَلَمَ بهِ وسعى إليهِ، إذ ثَبَّتَ أبو مراد الشُّحرورَ رائدا من رواد النهضةِ الأدبيّةِ إذ تراهُ اليومَ من جديدٍ، ماشي بالقاودميات، عم يلملم حبّات البلوط، بيدبّغ صابيعو بالتوت المرتاح ع حجارة البساتين، ما بزعّل طوب التين، بيسرق حبتين، بيغسلهم ع نبع العين مع عنقود العنب الحرزان، بيتطّلع بالضو، بالريح  الطالع من الوديان، بيغريهم من اللوز بحبة، ومن العنّاب بحبتين من الكرم إلي كان ، قبل ما ركبوا عربيات الوقف وهربوا بس… برّات النسيان.

***

* مداخلة في ندوة بانطلياس- المهرجان اللبناني للكتاب الـ٤١-مساء الأربعاء ٦ اذار ٢٠٢٤

١-عن دار النهار- ٢٠٢٣

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *