بين المبدع والموظف!

Views: 45

د. بسام الخالد

قال المدير للموظف: لماذا يتكرّر تأخرك الصباحي عن عملك؟!

رد الموظف بهدوء: أبداً.. فأنا أبدأ عملي مع الآخرين تماماً وأنجز ما لديّ قبلهم!

قال المدير: كيف ذلك وتقارير رؤسائك تقول إنك تتأخر باستمرار؟!

قال الموظف: إذا كان المقصود هو التوقيع على سجل الدوام في موعده الصباحي فهذا صحيح.. أما إذا كان المقصود توقيت بدء العمل الفعلي فالأمر مختلف تماماً!

قال المدير: النظام هو النظام وقد حدد القانون ساعات العمل بدقة فهل ستفصّل القانون على مزاجك؟!

قال الموظف: سيدي المدير: أنتم تعلمون أن أي عمل إبداعي يقاس بقيمته ونوعيّته وهو مختلف عن العمل الإداري الذي يقاس حجم إنتاجه بالزمن فقط، فإذا كان العمل المطلوب يُنجَز في وقته المحدد وبجودة عالية فلا يوجد مشكلة، وطالما لا يوجد تقصير في حجم هذا العمل فما هو المسوِّغ لتقييد المرء بساعات محددة؟!

ردّ المدير بشيء من نفاد الصبر: قلت لك لمؤسستنا أنظمتها وقوانينها، وأنت تفلسف الأمور على طريقتك!

قال الموظف: سيّدي.. أنا لا أفلسف الأمور وإنما أضع الأمور في إطارها الواقعي.. أليست مؤسستنا تُعنى بالعمل الإبداعي.. إذن فلنناقش الأمر من وجهة النظر العملية.

قال المدير: كيف؟

ردّ الموظف: أنت تعلم سيدي المدير – بصفتك تمارس جانباً من جوانب العمل الإبداعي – أن أي عمل فكري يحتاج لصفاء الذهن ويحتاج إلى مزيد من الاطلاع والقراءة وتثقيف الذات، وفي ظل الظروف المعيشية القاهرة التي يعيشها أصحاب الدخل المحدود، ومنهم المشتغلون في الأعمال الإبداعية، كالمؤلفين والكتّاب والشعراء والفنانين التشكيليين والمخرجين والمصوّرين،  فإن فترات تثقيف الذات لا يمكن استغلالها إلاّ بعد تأمين حاجيات الحياة اليومية الضاغطة من طعام ولباس وطبابة وتعليم الأطفال وقضايا كثيرة أخرى، وهذه المستلزمات تستهلك معظم ما تبقى من اليوم بعد ساعات الدوام.. فإذا كان المرء حريصاً على تثقيف ذاته وتجديد عطائه لا بد له من استغلال جزء من ساعات الليل ليقرأ ويشاهد الأخبار ويكتب.. وأحياناً ينسى نفسه أمام موضوع يقوم بإنجازه فيضطر للتأخر أحياناً عن الدوام الرسمي، لكنه يكون قد حضّر أفكاره أو أنجز أعماله المقررة لليوم الذي تأخر فيه، وما هي إلا ساعة حتى يكون قدّم حجم هذا العمل بأكثر مما هو مطلوب.

قال المدير: هل تقصد أن نترك الحبل على الغارب لجميع الموظفين بحجّة حجم العمل ونوعيته ونقول للنظام وداعاً؟!

سيدي المدير: ألا ترون معي أن كلمة «موظف» تنفي كل المؤهلات الأخرى للإنسان؟!.. فبهذه الكلمة يكون التعريف للموظف هو الذي وُظِّف لأداء عمل محدد ومرسوم سلفاً، لكنه لا ينطبق على أصحاب المهن الإبداعية الأخرى بدءاً من النجّار وانتهاء بالشاعر!

قاطعه المدير بنزق: ألا يعمل النجّارون والفنانون والصحافيون والكتاب والشعراء في مؤسسات الدولة؟

قال الموظف: نعم يعملون.. لكن حتى بين هؤلاء فوارق في الأداء ونوعية العمل.. فمنهم من يقوم بعمله على أكمل وجه،  وفي ساعات أقل من ساعات الدوام المقرّرة، ليتيح لنفسه وقتاً للتأمل، ومنهم من يحرص على أن يكون توقيعه هو الأول على سجل الدوام وشعاره هو: «غيّب شموس واقبض فلوس».. وهذا ما يفسّر سّر البطالة المقنّعة في مؤسساتنا الحكومية!

رمقَ المدير الموظف بنظرة ذات مغزى وطوى تقرير التأخُّر وقال له: اذهب إلى عملك.. والتزم بساعات الدوام المحددة! (Ativan)

خرج الموظف من غرفة المدير وهو يعلم أن المدير يمارس عكس قناعاته!

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *