ديوان عقل العويط “4 آب 2020″… حين يكون الشعر صعوداً من الجحيم وتخليداً للذاكرة

Views: 863

د. زهيدة درويش جبور

 

“في بلاد العالم يحفظون الخراب في موقعه ليشهد وقت الشهادة وليحرس الذاكرة” هذه كلمات أراد عقل العويط من خلالها أن يعطينا مفتاحاً لقراءة ديوانه الجديد حيث يسعى الى تخليد جريمة العصر التي كانت بيروت وميناؤها مسرحاً لها. وفي ذلك ما يبرر عزوفه عن ابتداع عنوان لديوانه مكتفياً للتعريف عنه –والعنوان كما نعلم هو المدخل للكشف عن هوية كل كتاب- بالإشارة إلى تاريخ بعينه أصبح منعطفاً في خط الزمن اللبناني  الرتيب: 4 آب 2020، يوم وقوع الحدث- الكارثة في مدينةٍ منهكةٍ، زمنها انتظار والحياة فيها تكاد تكون موقوفة.

الديوان عبارة عن قصيدة واحدة تمتد على مدى 70 صفحة وتتطور بنيتها كما السمفونية وفق حركات خمس يتداخل فيها النثر بالشعر والواقعية بالسريالية والوصف بالغنائية والموت بالحياة واليأس بالأمل والعنف بالحنان والعتب بالغضب. وتماماً كما السمفونية، تٌستهل القصيدة بفاتحة مطلعها يحدّد بدقة زمن الحدث: “الثلاثاء الرابع من آب الساعة السادسة وسبع دقائق”، فهذه ساعة ليست كالساعات، هي ساعة معلّقة بين الما قبل والما بعد، ساعة فصل، يقف فيها الشاعر كشاهدٍ في محكمة ليروي فظاعة ما حدث في رواية-ملحمة شعرية غنية بمشاهد الخراب والموت والعنف الذي يذكّر بجهنم كما رسمها الألماني جيروم بوش نهاية القرن الخامس عشر، وليسمي القتلة بأسمائهم ويفضح طمس الحقائق، ويضع روايته أمانةً في أعناقنا فنتسلمها “كما يتسلم الأحرار الحرية” (ص.67) لنشهد للحقيقة ونعلن القيامة من الموت، قيامة مدينة وشعب يستحق الحياة: “يمكنك يا مدينتي أن تستعيني بموتك المعلن نفسه مؤرخاً في 4 آب 2020، وممهوراً بتوقيته الدقيق، الساعة السادسة وسبع دقائق مساء، لتعثري على ما يبرر استفاقة الحياة” (ص.68).

الشاعر عقل العويط

 

علاقة تكاملية

 ثمة علاقة تكاملية بين فاتحة الديوان وخاتمته حيث يلوذ الرائي-الراوي بصمته بعد أن سرد روايته منتظراً الفجر الذي لا بد سيشرق، والحقيقة التي لا بدّ ستسطع: “على سبيل الرواية/ يقف الرائي ليرى/ فيرى،/ بأي حقيقة تحبل الحقيقة،/ حين يد القاتل تمعن في القتل،/ ويد القتيل/ لا تمعن في توضيب الجريمة” (ص.71). بهذه الأبيات يختم عقل العويط قصيدته-الديوان مشرّعاً الأبواب للأمل، رافضاً اليأس مهما اشتدت حلكة الظلمة. وهو وإن رفع قناع الراوي-الشاهد ليكشف عن مكامن ذاته الداخلية وما يعتمر في وجدانه من مشاعر الخيبة والحزن والمرارة فتعانق مأساته الخاصة، مأساة المدينة، إلا أنه يدرك أنه منتصر حتماً بالشعر، ملاذه ومصدر قدرته على الصمود.

ثمة علاقة تماهٍ بين الشاعر والمدينة التي كانت قبل الجريمة مستسلمة لموتها البطيء؛ مثلها هو يجر أيامه ويعيش الحياة التي فقدت رونقها فصارت أشبه بالموت: “لم أُجد يوماً/ السباحة/ في ضفة الحياة التي هنا/ من أجل عيش هذه الحياة،/ كما ينبغي للمرء السعيد أن يعيش”(ص.9). وكما المدينة تنزف حين الكارثة من جراح الضحايا، كذلك الشاعر-الشاهد حين ينفطر القلب المروّع لفظاعة المشهد: ” قلبي/ الذي لا يتحمل شرايينه/ المتدفقة على الرصيف” (ص. 16). هكذا يصير الشعر كتابة بالدم، وتتفجر القصيدة كالينبوع فارضةً نفسها على الشاعر كما لو أنها عن غير قصد، يمليها هول الكارثة فتتدفق الصور والكلمات كالسيل الجارف ويتسارع الإيقاع كما النَفَس المتقطع حين اللهاث أو كما عصف الهواء حين يأخذ في طريقه كل شيء، أو كما تتتالى الصور متسارعة حين العين أو عدسة المصور تجول في مشهد الخراب الهائل حدّ اللامعقول في محاولةٍ للاستيعاب، أو “التدجين”. يتجلى ذلك في مقاطع نثرية كثيرة استطاع الشاعر أن يرقى بها الى مستوى الشعر سواء من خلال كثافة الصور التي تسمو بالواقع ليبلغ اللامألوف أو من خلال بثّ الموسيقى في اللغة متوسلاً الجمل القصيرة المتصلة بعضها ببعض بواو العطف كما بالتكرار المقصود: “وبيوتك أجساد سابقة، وأعمار تلفت. وأشلاء ونظرات وأجنة مجهضة. وجدران تنحني لالتقاط ما فاتها من تأوهات. وتأوهات في عدم تتصاعد” (10)، “وطفل هو ربيب خياله اللاهث، يعثر عليه نائماً في حضن ملاكٍ ملطخٍ بالبياض. وأخت بنظرة خرقاء، تبحث عنه في فيلم افتراضي. وفيلم افتراضي توقفت شاشته عن البث يفتش عن طفلٍ ضائع في رهبة السماء” (ص.11). “وبيوتك قتلاك. وقتلاك سحلاً يسحلون…. وسحلاً يسحلون، وبلا شفقة، على طريقة أفلام العنف الماجن، وهيستيريا القتلة التسلسليين… وقتلاك سحلاً يسحلون، وفي الشوارع تحت السماء المعلقة يبقون… وقتلاك، لا أباء لهم، ولا أرحام. وقتلاك، لن يولدوا في سلالةٍ، ولا هوية لهم”(ص.37). لا يصعب على الناقد الأدبي أن يرتب هذه الجمل على الصفحة لتتخذ شكل قصيدة التفعيلة، كما لا يصعب على ناقد موسيقي أن يكشف عن المنحى التصاعدي لإيقاع هذه الجمل ترجمةً لتفاقم العنف في المشهد وما يوّلده من شعور بالفجيعة والغضب، إلى أن يهدأ الصخب تعلنه أداة النفي “لن”، لكأن فسحة من الصمت تمهّد لتبدل المناخ المسيطر فيفسح العنف مكانه للحنان، والغضب للنشيج: “وقتلاك، لن تُدرج سجلات بأسمائهم في دوائر النفوس. فاجمعي أشلاءهم بحنو النواعير وشجر الحور الباكي، لئلا يبقوا عرضةً لفساد الشمس وشقاق العقل. واجمعيهم كأقمطةٍ في مهد، ومسديهم، وهدهديهم، ليغفوا (…) وغني لهم ما لم يُغنّى ويُكتب، مثلما تَكتب النسائم أشعاراً، ومثلما هي تُغتّي، لمرح الصبايا في الحقول والجرود…..” (ص.38). لكأن الموت ضرب من النوم، والقتلى نيام لا بدّ أن يقوموا من ثباتهم كما يقوم الموتى بالمسيح. ثمة فرح قيامي ينبث في قلب المأساة؛ فالمدينة لن تموت رغم القتل والخراب والدمار المسيطر الذي برع الشاعر في تصويره بدقة متتبعاً تفاصيل المشهد، من جهة، ومعملاً خياله التحويلي في الواقع ليبلغ به حدّ الغرابة، من جهة أخرى، فتكتسب اللغة جماليتها الشعرية، وتسمو الواقعية إلى ذروة الإبداع.

د. زهيدة درويش جبور

 

مشهديات ملوّنة بظلمة حالكة

تتتالى المشهديات عبر الصفحات مرسومة بالفحم الأسود ملوّنة بظلمة حالكة لا يخترقها سوى الأحمر القاني النازف من أجساد القتلى، وأشلاء الضحايا، موسومةً بالصمت القاتل لا يخرقه سوى أنين الجرحى، وأبواق سيارات الإسعاف، ومواء هررة مذعورين، وضجيج جدرانٍ تتهاوى، وشظايا زجاج يتشظى في الهواء فيتآخى مع “عصافير مروّعة” و”نوارس بكماء”. “الهواء المكحل بالفحم” يقطع أنفاس المدينة التي أنكرت وجهها ونفت نفسها فتحوّلت إلى قبرٍ لم يعد يتسع لموتاه. المكان ضيّق حدّ الإختناق حين الأرض تلتصق بسماء واطئة، لامبالية: “أي إرهاب جعل سماء متفشفة تنزل من نشاف عروقها لتجثم على روحك وتمنع الهواء؟” (ص.45). يسجل الشاهد ماتقع عليه العين في الخارج حيث السفن المحروقة والأشرعة المخلعة “ليظل الميناء/ مسترسلاً في اشتعاله المؤجل البطيء” (ص. 21) كما داخل جدران بيته الذي لم ينج من آثار الكارثة: “اللوحات نزلت عن الجدران، والكتب فرّت من مكتبتها وخلعت ثيابها” (ص.15)، ويفسح لليومي مكانه في السرد مشيراً إلى “الكهرباء المقطوعة”، وإلى “الحر”، (ص.17) و “ضجيج المكيّف الصفيق” (ص.45). لكن اليومي يصبح  كما عند أبولينير، وبودلير نافذة على الخارق. ذلك أن الشاهد الذي رأى هو أيضاً شاعر وإذ ينظر الى الواقع بعين البصيرة يخرجه من حيز المألوف الى اللامألوف والمدهش، كما في هذه الصور:”الياسمينة المشلّعة/ لأنها فضلّت/ تمضية المساء على الشرفة”،   “الفندق/ الذي غادر كراسيه/ لئلا يقدم القهوة بفناجين متألمة”(ص.15)،”الأوراق/ التي قفزت من نوافذ الجريدة/ لتنام في مقبرة” (ص.16) وقد تسنى له ذلك من خلال توسل التورية وتجاور المتناقضات وقلب المعادلات فإذا الواقعية تنحو باتجاه سريالية مدهشة: “جرح يطير ليحط على كرسي مخلوع، وكرسي مخلوع لن يعثر على ظل في شارع ليستريح”، “بائع يذرف روحاً من تلقائه، بسبب الإبريق الذي يندلق منه المساء” (ص.11) “أفئدة وشرايين وتطريز شبابيك” (ص.10). يتخلخل المنطق لتتماهى اللغة مع الجنون والعنف اللامعقول المسيطر: “ما الذي يرتج في اللاوعي الجمعي/ فيستدرج خللاً ليس في الحسبان. (…) ما الذي يجعل طفلاً/ يرتد عن ثدي أمه الحليبي/ ليلعق تراباً مضرجاً بالزجاج؟/ ما الذي ينفَّر رغيفاً من أن يؤكل” (ص.27)، ” أفترض أن اختلالاً ما خرّب صلة المكان بالزمان، وجعل فكرة الصحراء تنوب عن فكرة الينبوع” (ص.45).

“تدجين” اللامعقول

أمام هول ما رأى وما لم ير يلوذ الشاعر-الشاهد بليل غرفته محاولاً أن يعثر في صمت الزمن المريض على ما يمكّنه من “تدجين” اللامعقول و”التقاط ما تطاير من خيوط الجريمة” (ص.18) ليعلن بصراحة وجرأة إدانة الحكام: “فاسد هو ملح الطغاة. هواؤنا فاسد. وفاسدة هي القصور وسراقها. لن أعتكف ولن أحجم. يداي لا تنامان. عيناي أيضاً” (ص.51) وتواطؤ المحكومين الساكتين على الظلم المستسلمين لأقدارهم كالخراف حتى صاروا يعيشون الحياة ضرباً من ضروب الموت. هكذا يمكن للشاعر أن يقول: “في الموتى/ الذين لا يزالون يبحثون/ عن مفقوديهم بين الأنقاض” (ص.17). يمتشق عقل العويط سيف لغته ليعلن الثورة ضد الحكام، مطلقاً دعواتٍ متكررة لـ “الثأر الأبيض الجميل” (ص.53)، بانتظار أن تعلَّق المشانق لتتدلى منها الرؤوس المتخمة بالقتل في زمنٍ لا بدّ آتٍ: ” أأرى أم أسمع شفاهاً بكماء بنكهة الحساب الأعمى؟! أأشهد أم أتوهم انتقاماً يزعزع هدوء ميتٍ مسجى على سريره المضرَّج بحلكة الدماء؟! إني أرى. إني أرى” (ص.46). هي الرؤيا الشعرية التي تستشرف المستقبل الذي لا بدّ أن يكون زمن القيامة. قيامة شعبٍ من غفوته، ومدينةٍ من قلب الدمار: “عبثاً يهرب القتلة من كوابيسهم. عبثاً يهربون من مصائرهم المرسومة على جدران الشوارع وفي هتافات الأحرار(…) آنذاك سيقرع الباب بقوة، من لا يٌغلق باب في وجهه، ومن لا يُردّ له صاع، ومن لا تكسر له شكيمة، ولا ينحني له ثأر … آنذاك، لن يبقى جرذ في وكره وإن وراء قصور الموت وفحم الركام” (ص.51-53). لكن هذا الغضب المتفجر كالشلال لا يلبث أن يفسح المجال للحنان حين يحتضن الشاعر مدينته الجريحة يهدهدها، يبلسم جراحها، يعاتبها على غفلتها، ويغنّي لها نافخاً في رئتيها الهواء لتعود من جديد وتنبض بالحياة. حينها تكتسب اللغة طابع الغنائية ويصبح النثر كما القصيدة نشيد  حبٍ وحياة. فبيروت هي الأنثى التي لا تشبه غيرها من النساء، هي الفريدة، وهي الحبيبة، والسندريلا (ص.54)، والمجدلية،  وهي الأم والإبنة والطفلة المدللة، وهي عشيقة البحر، وسفينة الزبد، وهي المصلوبة، والمفقودة، والمنفية التي تتمرد على المنفى وتستعيد وجهها الضائع عنواناً للحرية ومنارةً للأحرار: “لن أسميك أرملةً. لن أسمي بحرك عشيق الأرملة القتيلة. لقد كنت حقاً زورق البحر. والآن، أنت الزورق الذي كان، لكنه سيكون” (61).

 

حنان فائض

كلما تطورت القصيدة-الديوان لتبلغ نهاياتها كلما انتصرت لغة الأمل على الألم، والثورة على الخنوع، والثأر على الهزيمة، والحب على الكراهية. وإن كان صحيحاً أن القصيدة هي رثاء لبيروت وتسجيل للفاجعة تخليداً لها بلغة الشعر غير أنها تخلو من البكاء والتفجع إذ أن العويط يرفض استسهال التعبير عن الألم، وهو ما لا يليق بفظاعة الحدث، بل أراد كالرواقيين أن يتحمل الألم دون أنين وأن يحوّل الجرح إلى بركان، والقسوة إلى حنانٍ فائض يحتضن المدينة المقتولة. وهو لم يتردد في أن يبعث إشارات للقارىء ينثرها عبر الصفحات ليصّوب القراءة وينفي عن قصيدته الطابع البكائي الحزين: “لا ينبغي لأحد، أن يبوح بمشاعره/ لئلا تبهت لوعة المشاعر” (ص.21)، “ليس ممتعاً ولا مناسباً،/ توقيت هذا الرثاء./ أيصحّ أن يرثى / مكان/ ما لم يلتئم بأشلائه؟!”(ً.23). فالوقت ليس للبكاء بل لـ “انتفاضة أعجوبة” (ص.58) تسترد المدينة والوطن من القتلة والسماسرة. ولعل الشاعر أراد من خلال استعارته أحياناً بعض الصور والتعابير الإنجيلية كصورة المسيح وهو يمشي على الماء، أو صورة الشبك المملوء بالصيد الغفير، أن يشرّع الباب للرجاء وأن يؤكد الإيمان بالأعجوبة الآتية.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *