الحلم والجنون ونقمة الاستلاب

Views: 15

أنطوان يزبك

 

اكتشف كل ما له علاقة بالأحلام،

وستكون قد اكتشفت كل شيء عن الجنون

                                 جون هوغلنغس جاكسون

 

في أعماق النفس البشرية صراعات كبرى، معارك داخلية بين الذات والذات، ومعارك مع الخارج، مع ما تأتي به معارك البقاء في أحلك الظروف وفي مآسي الوجود ونوازل التاريخ. والإنسان يكابد هذا الصراع من أجل إخراج كل العناصر الاستلابية اللاشعورية من لاوعيه إلى ساحة الوعي، والمقصود هنا بكلمة استلاب كل ما هو نفور، استبعاد، غربة، عزلة… أي كل سلبياتنا البشرية؛ مع كل ما نعرفه أو لا نعرفه عن الإنسان تبقى سلوكياتنا النفسية مرتعًا لرؤى لا نستطيع فك طلاسمها؛ وخاصة متى دخلنا في عوالم الأحلام المختلفة والكوابيس والهواجس والمخاوف: لدرجة أن ثمة تساؤلات كبرى حول حقيقة هذا العقل البشري الذي ما زلنا نتتبع الدراسات حوله، علنا نفقه ولو نزرًا يسيرًا من أحواله  وأسراره، لدرجة أن بعض العلماء زعموا أن النائم يدخل في علاقة مع العالم الآخر، أي عالم الأموات من خلال الحلم!!..

سيغموند فرويد

 

رحلة سيغموند فرويد الصغير

عندما كان فرويد صغيرًا، غادرت عائلته مدينة فرايبرغ متوجّهة نحو النمسا في عربة خيل، توقفت بعد ذلك لأشهر عديدة في مدينة لايبزغ ثم غادرتها لتتوجه نهائيًا إلى فيينا.

في الرحلة إلى فيينا استقلّت العائلة القطار، من لايبزغ إلى العاصمة فيينا، وفي خلال هذه الرحلة شاهد سيغموند الصغير في مدينة بريسلو، وللمرة الأولى أيضًا قناديل الغاز التي كانت تنير الدروب قبل المصابيح الكهربائية في ذلك الزمن. هذه القناديل جعلت فرويد يتذكّر مربيته المسيحية والتي كانت تواظب على حضور القداديس، وتخبر فرويد الصغير أن الأرواح الخاطئة تحترق في جهنم؛ فتخايل أن هذه المصابيح هي محرقة الأرواح المذنبة!!..

وهكذا نشأت مسألة تداخل الواقع مع الخيال وانحدرت أحلامنا من تلابيب السماء السابعة إلى غياهب الجحيم؛ إن في القصة ما هو طريف وفي الوقت عينه ثمة ما يدعونا إلى الخوف والقلق؛ ليس من الجحيم فحسب بل من ماهية عقولنا، وتركيبة الدينامية النفسية التي تتحكّم بنا وبسلوكنا…

كارل غوستاف يونغ

 

الحلم والمرض النفسي

ها هو فرويد قد شبّ وأخذ يدرس علم النفس، هو طبيب الأعصاب الذي آل على نفسه اكتشاف سبب العته والسفه والجنون عند البشر، فاكتشف اللاوعي الذي فيه كل أسباب العلل وكل العقد، خاصة إذا طرقنا أبواب الأحلام وأردنا أن نعرف ما فيها، وبذلك نفهم كل الإيحاءات وكل ما تكتنفه النفس البشرية من غموض، علل دفينة وأعراض نفسية مستعصية، حتى أنه درس الظواهر الهستيرية على أنواعها، ومركبات النقص وصولا إلى الشيزوفرينيا (فصام الشخصية) وهو أخطر الأمراض النفسية، إلى جانب الاكتئاب. لم يكن فرويد متفرّدًا في هذا الميدان فهناك عشرات غيره، من “شاركو” إلى “ادلر” و”كارل غوستاف يونغ” وغيرهم، ولكن من المستحب أن نذكر هنا طبيب الأعصاب البريطاني “جون هوغلنغس جاكسون” الذي ومع قلة خبرته في المجال النفسي، توصّل إلى نتيجة أن في عالم الأحلام تربض أسباب الجنون ومسبباته!

أجل لقد أيقن هذا الطبيب أن عالم الأحلام هو عالم خفي قد تكون له صلة بعوالم موازية ليس لنا طائل في النفاذ إليها وإدراك كنهها؛ على الأقل في الوقت الحالي، وقد يكون علماء في مكان ما من هذا العالم، قد حلوا لغز هذه الأحلام ولكنهم آثروا الصمت وعدم نشر خلاصة أبحاثهم، خشية إثارة الفتن والمشاكل على صعيد الدين والسياسة وما له علاقة بأمن المجتمعات.

إرنست همنغواي

 

في علاقة الأدب بالاستلاب والحلم

في رواية “الرجل العجوز والبحر” لإرنست همنغواي تدور أحداث الرواية في أكبر مشهدية عن العزلة والاستلاب، حيث من اول الرواية إلى آخرها يصارع الرجل العجوز السمكة العاصية والبحر والأمواج العاتية، ومن النقاد من رأى في هذه الرواية رمزًا لعدميّة الوجود واستمرار الصراع من أجل البقاء، الصياد العجوز يصارع لكي يكسب قوته، والسمكة تصارع من أجل البقاء في مواجهة شبكة الصياد وصنارته المدببة التي سوف تزهق روحها وتسيل دماءها؛ نعم هكذا هي الحياة بحدّ ذاتها غربة عن الحياة وعن البقاء؛ الشيء وضده، الكفاح والممانعة ولكن ما هو الحل؟!

يقول رولان بارت: “هناك وسيلة واحدة لكي تهرب من استلاب المجتمع الحاضر وهي الانسحاب نحو المستقبل”.

رائع الفكر البارتي الذي يجد دائمًا الأجوبة النافذة المسننة، ولكن تبقى الكيفية، في مسألة “الهروب” هذه، هل يمكن أن تكون في الحلم، في التمني أم في الواقع الحقيقي المتلازم مع كل عمل وكل قضية مع مصداقية تامة مع الذات الداخلية والشخصية الإنسانية؟!..

يوجين يونيسكو

 

بين المسرح والدين والفلسفة

كم سمعنا أن الحياة هي مسرحية دائمة في خواتيمها السعادة كما التعاسة بشكل أو بآخر، وكل شيء ينتهي عندما تسدل الستارة على الممثلين وفي اليوم التالي عرض جديد أو تجدّد الأحداث في قوالب مستحدثة أو ظروف أخرى، لكن كل هذا الاحتفال لا يمحو العزلة، الاستبعاد، الخوف والكآبة، لا يمحو الكوابيس الليلية والنهارية ولا يزيل كباش الموت والحياة، لا بل تستمرّ المعاناة وتتواصل النزاعات، حتى تقضي على اللاعبين وهم في ذروة المجد والانتصار، يكفي أن نقرأ سِيَر كبار الممثلين حتى ندرك تراجيدية حياتهم وسقوطهم المحزن وحياتهم المأساوية…

يقول شيخ المسرحيين وفيلسوفهم الأكبر “يوجين يونيسكو”:

ما من ديانة إلا وتجد فيها أن الحياة اليومية، لا تعدو كونها سجنًا، وما من فلسفة أو إيديولوجيا إلا وترى في الإنسان سوى كائن يعيش الاستلاب.

لقد اختصر يونيسكو الدين والفلسفة وكل المفاهيم والإيديولوجيات في لوحة واحدة من الاستلاب والعزلة حيث لا مفرّ من الانحدار الرهيب إلى عمق القبر المقفل، هذا إذا لم يغرق الإنسان في عذاب الجنون وقهر الانسحاق في مجتمع وحشي جائر يدمّر الإنسان، ويقصيه ويحاربه ولا يقدم له شيئًا سوى الألم والدموع!

نفهم الآن مدى حرص البعض على العيش في رفاهية المادة، او الانجرار وراء ملذات فانية ودأب الإنسان على إحراز بطولات وانتصارات من كل نوع، وجمع  ثروات وإقامة منشآت وبناء أمجاد، وعلى وجه الخصوص البحث عن المناصب والنفوذ في عالم  السياسة؛ لعلّ كلّ هذا السعي إلى التسلط في السياسة والحكم والجبروت والقوة، ليس سوى محاربة للجنون والانعزال والتخلف والاستلاب؛ لربما هذا يساعدنا في فهم ما قاله “أرثر ميللر” وبدا لنا عصيًا على الفهم:

“بدون الاستلاب لا يوجد سياسة”..!!..                                 

 

(Ultram)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *