رحلة المسبار

Views: 1237

د. جورج طراد

يخطىء مَنْ يعتقد أن رحلة مسبار الأمل الإماراتي قد بدأت قبل سبع سنوات حين بوشِرَ التحضير لها، أو قبل سبعة أشهر عندما انطلقت إلى الفضاء الخارجي باتجاه الكوكب الأحمر لتصبح دولة الإمارات العربية المتحدة خامس دولة في العالم تصل إلى المريخ. فالرحلة الفعلية للمسبار لم تبدأ قبل سبعة أشهر أو سبع سنوات، إنما بدأت فعليّا قبل سبعة عقود!

ففي أواسط سبعينيات القرن العشرين تسلّم الحكْم في إمارة أبوظبي رجل رؤيوي مستقبلي هو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، آمن بأن الثروة الحقيقيّة هي الإنسان ، وهو القائل: “إن أكبر استثمار للمال هو استثماره في خلق أجيال من المتعلمين والمثقفين”، وباشر العمل لتنفيذ ذلك على أرض الواقع، فإذا بالمدارس والجامعات المتطورة تغطي أرض دولة الإمارات ، لاسيما بعد قيام دولة الأتحاد، لتصبح البلاد منارة علم وثقافة في زمن قياسي.

الشيخ محمد بن راشد والشيخ محمد بن زايد

 

      والمفارقة التي تتعلّق مباشرة بموضوعنا، أن الشيخ زايد في سبعينيات القرن الماضي وجّه الدعوة لعدد من رواد الفضاء الأميركيين واستضافهم في أبوظبي، وراح يصغي إليهم ويستوضحهم طبيعة الفضاء الخارجي وظروف التوجه إليه في مركبات فضائيّة تتطلّب جهدا علميا خارقا وإمكانيات ماديّة هائلة.

  هكذا نمت النبتة الأولى التي غرستها رؤيويّة الشيخ زايد وراحت فكرتها تتفاعل في عقول أبنائه واخوانه حكام الإمارات الذين أرسى معهم في العام 1971 دولة الأمارات العربية المتحدة. وقد دأب أبناؤه من بعده، وفي طليعتهم الشيخ خليفة والشيخ محمد بن زايد، على متابعة المسيرة من خلال تشجيع العلم ومواكبة التكنولوجيات الموغلة في التطوّر والحداثة. وكذلك فعل نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ، المعروف بحرصه على العلم وبتشجيعه للعلماء ولكل المميّزين في شتّى الحقول، حتى باتتْ دبي واحة للعلماء والمميزين يقصدونها ىمن كلّ أنحاء العالم.

الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان

 

  وبفعل هذه الجهود المتكاملة بدأت ثمار التكنولوجيا تنضج في تربة إلإمارات العربية المتحدة، من خلال الجامعات المتقدّمة ومراكز الأبحاث المتطورة. وقد شهدتُ شخصيأ نماذج عن هذا التقدم الهائل، من خلال ما تابعتُ من جهود كان يبذلها الرجل الذي تسلم حقيبة التعليم العالي والبحث العلمي في الحكومة، أعني به الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان. فقد لاحظتُ، في أكثر من مناسبة حرصه على مواكبة كل تطور علمي في العالم ونقله إلى جامعات الإمارات، لاسيما إلى كليات التقنية العليا التي كان يريد لها أن تكون درّة التاج في الأبحاث العلمية المتطورة.

  وأذكر في هذا المجال كيف كان الشيخ نهيان بن مبارك، بدعم وتشجيع من قيادة البلاد، يحرص على أن يواصل المميّزون من طلاب وطالبات كليات التقنيّة العليا أبحاثهم العلمية واضعا في تصرفهم كل الإمكانيات العلمية والمادية المتاحة. كذلك الأمر، وللدلالة على مواكبة الشيخ نهيان بن مبارك للتطورات العلمية الحديثة أذكرُ أنه كان من الأوائل الذين تحدثوا عن “النانو تكنولوجيا” واستخداماتها في مجال الطب. كذلك، ومن بين إنجازاته الكثيرة، هو أشرف على عقد مؤتمر علمي حاشد جمع كبار الأخصّائيين من كل العالم، يتمحور حول التعليم عن بعد، يوم لم يكن معظم وزراء التعليم العرب قد سمعوا بمثل هذا المصطلح الحديث.

د. جورج طراد

 

  هكذا فإن أرضيّة التكنولوجيا الحديثة والمتطورة كانت مهيّأة في دولة الإمارات العربية المتحدة على مدى العقود الماضية. ومعروف أنه في مجالات العلوم الحديثة خصوصا، لا شيء يأتي من فراغ. بل أن الظروف عندما تتوافر، وتبقى مؤاتية على مدى سنوات طويلة بفضل قيادة واعية وواعدة، فإن توقّع النتائج الإيجابية المذهلة، يصبح واردا في كل ساعة. وأعتقد أن ما جرى بالنسبة إلى مسبار الأمل الإماراتي يجسّد هذه المعادلة على أكمل وجه، ذلك أن النبتة عندما تخرج إلى الضوء لا تخرج فجأة، إنما تكون قد قطعت أشواطا من التحضير تحت الأرض!

  لذا فإن رحلة المسبار لم تنطلق قبل سبعة أشهر إلا ظاهريّا، ولم تبدأ قبل سبع سنوات إلا في الشكل. إنما كانت فعليا تتمخّض في باطن اللاوعي الوطني بعد أن زرع الشيخ زايد بذرتها قبل سبعة عقود!

رحلة “مسبار الأمل” إلى المريخ

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *