قعر المرآة

Views: 450

د. قصي الحسين

( أستاذ في الجامعة اللبنانية)

  لا يستبين لبنان وجهه منذ أربعة أعوام، منذ أول العهد، إلا في مرآة مقعرة، ينكشف فيها، وتظهر فيه، خطوط الطول وخطوط العرض. وتبرز التضاريس وتسبر اللجج والأغوار والأعماق.

 أية مرآة أخرى، لا تحيط علما بأحوال لبنان. وحدها المرآة المقعرة، يمكن لها أن تشي بكل ما فيه من عقد إجتماعية. ومن عقد طائفية. ومن عقد سياسية. ومن عقد إقتصادية. ومن عقد عربية وإقليمية ودولية.

 في قعر المرآة، يظهر وجه لبنان الحقيقي، لأنه غائر في الزمان. لأنه غائر في المكان.

 في قعر المرآة،  يتقوقع لبنان على نفسه، في صورة الفينيقي الأول. يركب البحر ويحمل الحرف والدمقس والأرجوان. ويجوب العالم في التجارات.  يشرع ويجدف ويبحر إلى المجاهيل، ويصل قبل كولومبوس، إلى بلاد الأميركان.

 هذة القوقعة القديمة، هي وجه لبنان الحقيقي. تراه منذ التاريخ الإغريقي، يحافظ عليها. يريد معاملة خاصة من الفاتحين. يقنعهم أن كل شعوب الأرض، مدينة له. وأن له في عنقها دين عظيم، من العلم والحضارة والتمدين.

  تراه في قعر المرآة، يقدم نفسه لليونان وللرومان وللمصريين وللفرس، على أنه ذو شأن عظيم. يطالبهم بمعاملة مميزة عن سائر شعوب الإقليم. يطالبهم أن تكون له دولة ضمن دولتهم. وأن تكون له حصانته. وأن تكون له إمتيازاته.

  لبنان، منذ أيام الفينيقيين، ما قدم نفسه، أسطولا يهاجم الموانئ. ولا قدم نفسه جيشا زاحفا.  فتأخر أمام الزحوف في البحر والبر. وفاوضهم مثل مدرس لا مثل جندي. فاوضهم مثل تاجر، لا مثل فاتح. فكسب ودهم، وفتح لهم أذرعه، فشادوا على أرضه المنشآت العمرانية والمعاهد الرياضية، والأكاديميات الثقافية والعلمية، بالإضافة إلى المحاكم  والألوية والقلاع والحصون.

  وفي العهود العربية، ظل لبنان على صورته القديمة، لا يغير فيها إلا ما يجده صالحا للبذل والنصح والتعلم والعلم. إلا ما يجده  صالحا لتوثيق العرى، في كل جهد وفي كل رأي. وفي كل حق. وفي كل علم.

  لبنان في قعر المرآة، ما تغيرت عليه الأحوال في شيء. ظل رهين تاريخه القديم. لا ينقطع عمن حوله. ولا يذوب بينهم. يهلل للقادمين إليه، على أنه مثقف. على أنه عالم. على أنه من رجال العصر. على أنه يتأقلم مع كل مصر.

 في قعر المرآة، يحتفظ لبنان، بتاريخه القديم، منذ أول العهد. معلم وقيم وسيد. يشارك من حوله في الهم والغم. ويندفع أمامهم، يذود عنهم. كأن قضيتهم قضيته. ويجعل من نفسه محاربا، ولو  كان لايصلح للحرب. ولو كان، بلا عدة ولاعديد. ولو كان بلا مال ولا رجال ولا نفوذ في الإقليم، ولا خارج الإقليم.

في قعر المرآة لا ترى لبنان، منذ رحل عنه طائر الفينيق، إلا رجلا محترقا تتأكله النيران. يحاول أن ينبعث من رماده من جديد.

  رجل مأزوم بالحروب، تحدق فيه كل يوم. تأتيه مثل الرياح ،من قريب، ومن بعيد. غادر صورة الفينيقي، مثل الديك، الذي أبطل مشيته، وقرر أن يمشي مثل الحجل. فخسر الأولى، ولم يحسن الثانية.

 تراه، يجر أهله من حرب إلى حرب. ثم يجلس مأزوما مهزوما، متعثرا، يندب الحظ. 

 لبنان في قعر المرآة، هذة الأيام. لم يعد يحسن التجارات ولا العلوم التي ميزته، منذ إنمحت فينيقيا. وما عاد يصلح في الحروب.

 لبنان في قعر المرآة اليوم، رجل مثخن الجراح. منزوع الريش والرياش، مدقع في فقره، لا يدري كيف  يكمل طريقه، بين شعوب الإقليم، ولا يدري كيف يعيش.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *