لونا قصير في “غرفة مغلقة”

Views: 840

الدكتور جورج شبلي

 

إنّ الصِّلةَ التي تجمعُ بين الرّوايةِ والنّاسِ هي الوُلوجُ الى خزائنِ النّفوس، لمَشهَدةِ التّجاربِ والمسلكيّاتِ وشؤونِ الحياة، أَلواحاً تتراءى فيها الشخصيّاتُ والأَحداثُ، وتُكَوِّنُ مستَودَعاً يفيضُ بِما يدورُ في المجتمعِ من أسبابٍ ودَخائلَ، حتى قيلَ إنّ الروايةَ مُشَرِّحةٌ بدونِ دَمّ.

عندما تَتَفلَّتُ من مَأنوسِ العقلِ للتحليقِ في بُروقِ الأحاسيس، يُمكنُ، ساعتَذاك، أن تُطَوِّعَ المُدهِش. فعلى إيقاعِ الوجدانِ تُحبُّ الحياةُ أن تُكَنّى، عارِمةَ الحرارة، حَنيناً الى المُضيءِ بالحلم. وبالرّغمِ من عصورِ الظّلمِ، والذّنوب، والرّديءِ من تَلطيخِ الفرح، لا تريدُ الحياةُ أن تُحَوِّلَ نفسَها أَشَدَّ الأمكنةِ بُؤساً، حتى لو دفعَت ثمنَ صوتِها العالي، وتمرُّدِها، تمزُّقاً ووجعاً، وجرحَ قلب.

لونا قصير، في روايتِها “غرفة مظلمة”، عالجتِ المجتمعَ من أقصاهُ الى أقصاه، وكانت سخيّةً في احتضانِ الوقائعِ، فلم تتفلَّتْ مقوّماتُها من عَدَسَةِ قلمِها. لكنّها، وبعيداً عن العشوائيّة، لم تضعْ للمجرياتِ مقياساً ضابطاً، ولا للأحداثِ حواجزَ، لتُقرَأَ هذه الأَحداثُ بانتباهٍ يَقِظٍ، في حلوِها ومُرِّها، في لحظاتِ المواجهةِ بينَ الموتِ فوقَ الأرضِ أو الموتِ تحتَها.

 

لم تشأْ لونا، في سردِها الشيِّق، أن تجعلَنا ننسى قَحطَ الأرض، فتلمَّسَت تجاعيدَ الزّمن، وضجيجَ العالَم، وقهرَ البراءةِ، وعَتمَ الأيام، ودخلَت في خفاياها لتفتتِحَ حَرَماً مُزِجَ، فيه، الأليفُ بالغريب، والواضحُ بالضبابيّ، والمُضيءُ بالحلم، في مهمَّةٍ تَجاوزيّةٍ أرادَت أن تُثبِتَ أنْ لا عظمةَ للإنسانِ إلّا بعدَ طُولِ أَلَم، وكأنّها تؤكّدُ على أنّ المَصيرَ يُشبِهُ الجَنائِنِيَّ الذي يَسقي الوردةَ باليمين، ليَقصِفَها بالشَّمال.

لكنّ لونا لم تُوَطِّنْ نفسَها في النّار، فلم تتركْ مجالاً للشرِّ أن ينفيَ الخير، وأن يرفضَ رَجَسُ الخطيئةِ التّوبةَ، وأن يتجاهلَ الضّوءَ زَمَنُ الليل، فنسجَت من القَبيحِ جَمالاً، ومن السَّقيمِ صحّةً، وإنْ لَمَّحَت، في خلفيّةِ الأحداثِ، الى مَقولةِ أنّ أَخبثَ الشَّجرِ هو ذاك الذي يُثمِرُ النّاس. ولعلَّ القَصدَ، في ذلك، حَضُّ الإنسانِ على التَسَلُّلِ الى ذاتِه ليُوَهِّجَ قِيَمَه السّامية.

لم تكن لونا، في السّردِ، صَنّاعةً، ولم يكن هاجسَها التَّزيينُ والتَّزويقُ، فالروايةُ مرصودةٌ على البساطةِ المُحَبَّبة في قوالبِها، حيثُ الإنتصارُ للسيّاقِ العَفويِّ الأنيقِ الذي يقودُ القارئَ الى الغَرَضِ من دونِ إشكالاتِ التّقعيدِ والتَّعقيد. لم تكافِح لونا في طلبِ العبارةِ القادرةِ على الوَثب، ولا في استجلابِ الصورةِ التي تُسبِكُ بلاغةً، فالكتابةُ، معها، ليسَت تخطيطاً عِلميّاً يديرُه مقبضٌ آليٌّ جافّ، إنّما هي طَبعٌ، وسلاسةُ سَقسَقة، لذا، نزلَت روايتُها مرتديةً ثوبَها الكاملَ، خيوطُهُ الحسُّ، والذَّوقُ، ومهارةُ الإسترسال، لتستقيمَ، بذلك، المُتعَة.  

إنّ ما خَلصَت إليه لونا، في عِبرةِ الرواية، أنّ القلبَ هو قِياسُ الحقيقة التي ليس فيها منطقةٌ رماديّة. وهذا موقفٌ، وإن تماهى مع سَيرِ الأحداثِ في تَطَوُّرِها، غيرَ أنّه يشكّلُ مَذهباً مَفادُه أنّ الإنسانَ وُجِدَ ليشعر. ولم تكن لونا، في ذلك، مُربَكَةً، أو مُلزَمَةً على إخفاءِ بُنودِ هذا المَذهبِ، فالعواطفُ ليست إنطوائيّةً، وليسَت دِيناً يُفسدُ الناس.

 

لم تكن لونا طوباويّةً في مقاربةِ أساسِ المشكلةِ في مجتمعِنا، إن في عَرضِ حقيقةِ التقاليدِ الموروثةِ التي لم تنقلِ الجماعةَ، مَدَنيّاً، الى الأفضل، وإنْ في المقارنةِ بين مسلكيّاتِ العقليّةِ الشّرقيةِ وتصرّفاتِ الغربيّين، بِما تنطوي عليه من تناقضٍ في مقاربةِ الحياةِ والمواقف. من هنا، كان لِطَرحِ لونا مجلسُ حظّ، في التعمّقِ بعاداتِ المشرقيّين، وبأَبعادِ سَيَرانِ اليوميّاتِ في الغرب، من دونِ أن تتدخَّلَ لفَرضِ انتخابٍ لصالِحِ طَرَفٍ منهما، تاركةً للقارئِ الوصولَ الى نكهةِ الإهتداءِ الى ما تَرغبه نفسُه، ويميلُ إليه اقتناعُه. فزاوجَت، في هذا، الموضوعيّةَ الكلاسيكيّةَ مع الديمقراطيّةِ في القراءة.

إنّ الوجدانيّةَ الطّاغيةَ على المَقاطِعِ، لم تُتَرجَم بانطواء، فنَزعتُها مُسرِفةٌ، جامِحَةٌ، وَقَّعَتِ الرّوايةَ بحِبرِها. لكنّ اللّافتَ، في سلوكِ الوجدانيّةِ، هو خشونةُ الألم، تتعاقَبُ وتتناسَلُ وكأنّها القُطبُ الذي ينضحُ تَأَوّهاً. لكنّ لونا لم تكن مبتدِئةً لكي تنحى الى القَصاصِ، في تَعاطي شخصيّاتِها مع الألم، فهي لم تقفْ في وجهِ دمعةٍ تَكُرُّ بدَفقٍ عارم، لكنّها لم تتردَّدْ في تَثميرِ هذه الدَّمعةِ لإِطفاءِ حريق، فكأنّ الدَّمعةَ، في خاطِرِها، عقدةٌ ومَخرَجٌ، مَعاً. فإشكاليّةُ أنّنا سنحزنُ الى آخرِ عمرِنا، لأنَّ قلبَنا انتُزِعَ منّا بِفَقدِ عزيز، هي قابلةٌ للمعالجة.

إنّ تَدخُّلَ لونا في رَسمِ لَطائفِ التَّصاويرِ النفسيّة، المَشحونةِ بالإيحاءِ والتّأثير، وصَّفها ناشِطةً سيكولوجيّةً تتعهّدُ حالاتِ النّفسِ، وتعالجُها بدقّةِ العَروف، وكأنّها خَزّافٌ يَنفثُ بِلُهاثِ روحِهِ في الأَواني الغاليةِ، ليزيدَها بَريقاً وحُضوراً. وهذا، إنْ دلَّ على شيء، فعلى أَخذِ لونا الإنسان، بمعالِمِ الإحساسِ الأنيق، وبرموزِ الخيرِ والرقّةِ وتَسامي العواطف. من هنا، بدَت لونا ابنةَ حضارتَين، الأولى كَشَفَها الضميرُ البشريُّ وهي إقامةُ وحدةٍ إنسانيّةٍ تنهضُ على المحبّةِ والتّلاقي، فنَمَت علاقةٌ بينها وبين لونا، والأخرى حضارةُ الكتابةِ في أحضانِ المعرفة، والتي اغتذَت لونا من لِبانِها، فرشحَت عنها نتاجاتٌ، من بينِها “غرفةٌ مغلَقَة”، أَسعدَها الحظُّ باستحقاقِ إسمِها.           

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *