قراءة في كتاب “الوصول” لعبد القدوس 

Views: 1161

زينب اسماعيل 

“الوصول ” عتبةٌ نصيةٌ موفقة تُمثّل دالاً سيميائياً مثمراً ينفتح على متن النص بكل ماتعنيه مفردة الوصول من اكتمال وبلوغ وتحقيق الهدف الأسمى في مسير رحلة طويلة ممتعة ومشوقة وممتلئة بالحياة، وقد أتقن الكاتب عبد القدوس الأمين رحلة السرد المشوقة هذه، لينحت بريشته السرّدية هذا السحر المكتمل حلاوة  في شخصّية وسيرة حياة الشهيدة أم ياسر وزوجها السيد عباس الموسوي.

يأتي الكتاب على شكل لقطات مشهدية مكثفة ، يأخذ بعضًا من ملامح الجنس الروائي، ولمحةً من عالم القصة فيبدو كالخلطة الهجينة بين الأجناس الأدبية ،كأنّها اكتشافٌ جديد في عالم القص الأدبي وقد أضفى الكاتب عليه بعضًا من روحه ورؤيته الجمالية ، وقد وجدت نفسي أردّد مع كل فقرة سّردية بعضًا من قصيدة أنسي الحاج “الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع ..يدي ..يدك ويدك جامعة ..أنت البسيطة تبهرين الحكمة والعالم تحت نظرك سنابلٌ وشجرٌ وماء ” . فَمَن منكما يا عبد القدوس كان له السبق والحظوة في رسم ملامحها الجامعة والفاتنة ، أنت أم هو ؟؟!!.

يُشكّل الكتاب، برأي ، كنزًا في بُعده المعرفي والثقافي والديني ، وهو يُوثّق ويُدلّل على حياة امرأة مِثال، كانت تعيش بيننا في الزمن القريب ،”سهام ” الطفلة الملتصقة بالأرض والصبية المفعمة بالحياة، والصديقة التي تقدم العون لجميع أترابها ، وتاليًا الزوجة والحبيبة والعاشقة والثائرة ورفيقة الدرب والحب والمقاومة ، كلُّ هذه الأدوار اجتمعت  بفعالية في روح امرأة واحدة فكانت الشهيدة أم ياسر وكان الوصول .أما من الناحية الجمالية فالنص يُشكّل مخزوناً في الوفرة الدلالية العميقة والتي تُشكّل ارتباطًا وثيقًا بين متن النص وعتبته  بدءًا من الوحدة السّردية الأولى .

وقد أقف عاجزةً  صراحة ،عن تلقف كل هذه الوفرة الدلالية والمعرفية التي يختزنها النص ولا أدّعي أنه بمقدوري أن أحوزها في بضعة أسطر قليلة ، لكني سمحت لنفسي أن أشيرَ إلى بعض الإضاءات السريعة التي قد تُمهّد وتُؤسس لقراءة نقدية أخرى قد تكون أوفى للنص ببعديه المفهومي والجمالي .

 

يُهيمن على النص لغة شعرية عالية النبرة يُتقنها الكاتب بشغف يبرز ذلك من خلال استخدامه لتقنية الوصف الخارجي المتدرج للمكان حيث تجري أحداث الرواية ، وقد افتتح الكاتب العملية السرّدية كالتالي :” ساعات وتلك السيارة الصغيرة تسير مستسلمة للدروب والتضاريس ، تأخذها الدروب إلى علوٍ شاهق ثم تنزل في وديان ٍعظيمة الإنحدار ، والأرض لا تنفكّ تُغيّر أشكالها ، ترتدي مُدناً مأهولةً  ثم تنزعها لترتدي صمت البراري ..” . الحكاية تبدأ إذن من السيارة المفتوحة على مكان مُمتلئ بمحمولاتٍ وصفية طبيعية تُساعد النص على غزارة التأويل وتُسهم في بناء الشخصّية بناءًا متينًا قويًا مُتماسكًا يتخذ من مناظر الطبيعة الخلابة، هذا الدفء والسكينة والطمأنينة والثبات، لمواجهة كل التحدّيات الآتية ، هذه هي خلاصة تأثير المكان المفتوح ،على صياغة الشخصّية بحسب نظرية جماليات المكان ل غاستون باشلار.ويبدوأنّ بناء الشخصّية يسير صعودًا نحو الاكتمال كما يُبَيّنه الوصف وهو ما يتماهي مع عتبة النص “الوصول ” بببعده السيميائي .

أغلب أحداث الحكاية تجري في السيارة ،على الأقل ،في فصولها الأولى ،وهي تُدلّل على سير وحياة هذه الشخصّية الممتلئة بالحياة والثبات والجمال .

حتى تقنية  الاسترجاع في الذاكرة يستخدمها الكاتب ببراعة ، في الحقول أوفي فسحة الدار الواسعة فيقول :”كانت في الحقول تلهو ، ركضت إلى الدار حين سمعت بعودة عباس وخلفها تركض الضحكات والشوق المزدحم إليه يدفعها إلى المزيد من الركض وقد أضحى أكبر من سرعة قدميها حتى وصلت إلى مدخل الدار اقتحمته وفي فمها صرخة ” .أما إذا استدعى سياقُ الحدث السّردي أن يكون في الغُرف المغلقة فإنّ الكاتب سُرعان ما ينتبه أن يفتح تلك الغُرف على فُسحةٍ واسعةٍ من الأمل والتحدّي  الأمر الذي يُكسِبُ تلك الشخصّية مزيدًا من الجمال والكمال والصلابة ” أرض الدار كانت أفضل ما في المكان بجُدرانها العالية جدًا  المكشوفة على السماء ، وشمسها التي تلمع على أكثر من نصف الأرض ” . فالشمس التي تلمع هنا هي شمس الشخصّية وليس المكان ، هكذا يتماهى المكان مع هذه الشخصيّة فيزداد جمالاً ،”بلمساتها وبنشاطها الدؤوب أعادت تشكّيل كل شيء، تحاول أن تجعل المكان ينتمي إليها، أن تمسح غُربته .. حين عاد السيد وقف مدهوشًا بجمال ما يرى من تغيير، كأن يدًا ساحرةً لمست كلّ شيء .” يبدو واضحًا هيمنة هذه الشخصّية على ما عداها حتى الزوج والحبيب سرعان ما يقع أسير هذا السحر .

أما التراكيب اللغوية وإن كانت تُعتبر بمثابة الجزء الصغير في السياق العام للنص فقد بدت وكأنها تسير صعودًا في صياغة تلك الشخصّية وتفتح لها دروب الوصول :” مضى وقت طويل والباب مغلق ما يزال ، ثم انفتح الباب وخرجت سهام مبتسمة ، ابتسامة تعني الانتصار “.وفي السياق نفسه يقول الكاتب :” وماتت الكثير من الأسئلة حين قال بكل صدقه ، سأكون معك خطوة بخطوة ، اعتمدي عليَّ  فلن أُهملك أبدًا.. بكت ، بكلِّ طفولتها بكت وأحاطها السيد بكلِّ عطف الدنيا “.من خلال هذه الوحدة السّردية يتضح أنّ مُفردة الموت قد اتخذت دلالة الحياة المتجددة في ظل الزوج والحبيب ، هذا الحبيب الذي بدّد كل معالم الخوف والقلق لديها فبدا وكأنّه “رجل يستطّيع ملامسة شغاف القلب في كل أحواله”

لن تسعفني الكلمات  بَعدُ يا عبد القدوس وتبدو هِمّتي قاصرة عن بوح المزيد .

لقد قدمت لنا تحفة فنية نادرة فيها بعضٌ منك وإن كان القصد تخليد الذكرى لتلك القامة الساحرة فبدوت وكأنّك تتخفف من ظلك وتنفلت منك الكلمات انفلات السهول وانت تدُقّق ملامحها الجامعة بانسيابية مفرطة ولفرط خِفّتك خلّتك لا تأبه لقدميك الحافيتين تعبُّ الماء، فأمسكت بيدها صعودًا صوب السماء ولو استطعت أن تخرق الغيب فتأتي ببقيةٍ من حلاوتها لفعلت .

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

  1. الوصول سيرة امرأة استثنائية على يد كاتب زاهد استثنائي
    شكرا صديقتي زينب على هذه الاضاءة