جديد أمين معلوف: “إخوتنا غير المُتَوقَّعين”

Views: 393

د. رفيف رضا صيداوي*

 

من جزيرة “أنطاكيا” الصغيرة جدّاً الواقعة في أرخبيل “لي شيرون” في المُحيط الأطلسيّ، ينقل لنا الراوي المدعوّ “ألكسندر” يوميّاته/ مُشاهداته في حركة ذهاب وإياب بين تلك الجزيرة التي اختارها لتأمّلاته من جهة، وأحداث العالَم الذي آثر الابتعاد عنه للغاية عينها من جهة أخرى، أي من أجل التأمّل والمزيد من التأمّل. فرواية “إخوتنا غير المُتوقَّعين Nos frères inattendus”، الصادرة أواخر العام الماضي عن دار “غراسّيه” الفرنسيّة، تنقل لنا أوجاع الراوي صاحب اليوميّات والتي لا تعدو كونها أوجاعنا نحن، بل أوجاع العالَم الرّاهن بأسره.

بخلاف غالبيّة رواياته السابقة، لم يَستعِر الروائي أمين معلوف التاريخ، بالمعنى التأريخيّ للكلمة، ولم يوظِّف خبرته كمؤرِّخ للإضاءة على أحداث الماضي أو الحاضر أو المُستقبل. لقد آثر، من خلال اليوميّات، إيلاء السرد لراوٍ جَمَعَ يوميّاته في دفاتر أربعة تشمل قراءاته لما يدور في الجزيرة والعالَم من أحداث يطَّلعُ عليها، ليس عبر الإذاعة ووسائل التواصل الاجتماعي فحسب، بل من خلال صديقه الذي يشغل منصبَ مُستشارٍ لدى رئاسة الجمهوريّة الأميركيّة المدعوّ “مورو”.

ينقل الراوي انطباعاته وتأمّلاته وتحرّكاته على مدى شهرٍ كامل، امتدّت أحداثُه ووقائعُه من التاسع من تشرين الثاني (نوفمبر) إلى التاسع من كانون الأوّل (ديسمبر) (توزَّعت على 29 يوماً بداعي عدم الكتابة يوم الجمعة في 3 ديسمبر) من دون تركيزٍ على تاريخه الشخصيّ أو تاريخ شخصيّته، بحسب ما تقتضيه السيرة الذاتيّة، ومن دون استرجاع ذكريات كثيرة بعيدة أو متوسّطة أو قريبة المدى، بحسب ما تقضي بذلك المذكّرات، لكن من دون أن تخلو هذه اليوميّات أيضاً من معلومات أو من بعض الذكريات التي هي بمثابة مفاتيح ضروريّة تسمح بالتعرُّف إلى الراوي وخلفيّته الاجتماعيّة، كمثقّف ورسّام في العقد الخامس من العمر يتواصل مع عدد من الصحف والمجلّات لنشْر رسومه التي تحظى بشعبيّة لا بأس بها، فضلاً عن شخصيّاتٍ أساسيّة أخرى، ولاسيّما شخصيّة أيف سانت جيل، الروائيّة الثلاثينيّة التي تسكن في الجزيرة نفسها في عزلة اختارتها، بسبب يأسها من عالَم اليوم وناسه والتي يُفسِّر عنوانُ روايُتها (“لم يعُد المستقبل يُقيم على هذا العنوان L’avenir n’habite plus à cette adresse”)، التي أصدرتها، وهي في الرابعة والعشرين من عمرها، ولاقت صدىً كبيراً آنذاك، بعض خصالها وسماتها وظروفها الشخصيّة (خصامها مع عائلتها ورفاقها، شربها الكثير من الخمر، مزاجها غير الودود، غضبها السريع، عنَّة الكتابة التي أصابتها، مظهرها الذي يجعلها تبدو في سنّ الخمسين…)، هي التي “تُعتبر حامِلَةَ شعلةِ جيلٍ جُرِّدَ من كلّ مُثله العليا، وبات محروماً حتّى من ذاك السبب المُذهل للعيش، ألا وهو انتظار السعادات المُقبلة” (ص23).

في سياق هذا البناء الفنّي الكلاسيكي (بداية – عقدة – حلّ)، تركّزت اليوميّات على الآنيّ والرّاهن، الذي تعزَّز بتواريخ تُركت من دون تحديد السنة (بين بداية تشرين الثاني/ نوفمبر وبداية كانون الأول/ ديسمبر فحسب) وبأحداثها المُتناظِرة مع أحداث عالَم اليوم. فقد افتتح معلوف روايته بمشهد انقطاع الكهرباء وتوقُّف البثّ الإذاعي في منزل الراوي، فضلاً عن سائر وسائل الاتّصال الإعلامي، ما دفعه إلى الظنّ بأنّ الحرب النوويّة التي كادت تدفع إليها صراعاتُ الدول الكبرى على النفوذ والأحداثُ العالَميّة التي احتدمت قبل أيّام، بعد تفجيرٍ إرهابيّ نوويّ وقَع قرب واشنطن، قد اندلعَت. ثمّ إنّ حضور معلوف خلف المؤلِّف الراوي، كاتِب اليوميّات، لم يُحجَب عن القارئ، لكأنّنا أمام صوت معلوف ورؤيته للعالم الذي نجح، على الرّغم من عدم احتجابه، وعلى الرّغم من كلاسيكيّة نصّه، أي على الرّغم من بُعده عن الكتابة الجديدة التي وصفها رولان بارت بـ “الكتابة الصامتة” التي “تضع نفسها في وسط الصراخ والأحكام من دون أن تُشارك أيّاً منهما”، والقائمة بالتحديد من غيابهما، بالسموّ بلعبة التخييل إلى ما هو فوق “الواقع”. تطلّعات معلوف وأفكاره وأحاسيسه تَرْجَمَها تخييلاً مُستنداً إلى شخصيّات روائيّة غير سكونيّة، وإلى مكان روائي (جزيرة) ينغلق وينفتح على فضاءات أخرى، تتقاذف ساكنَه الرئيس (ألكسندر) حركةُ مدٍّ وجزرٍ بين أمراض العالَم الرّاهن المُستعصية من جهة، والأمل بالخلاص من جهة ثانية، وإن كان هذا الأمل أشبه باليوتوبيا التي لا تجعل من “إخوتنا غير المُتوقَّعين” رواية يوتوبيّة أو رواية يوتوبيا.

تقاطُع الفكريّ والروائيّ

معلوف الذي آمن في كِتابه “اختلال العالَم Le dérèglement du monde” أنّ “هناك علامات كثيرة تحمل على الظنّ بأنّ اختلال العالَم وصل إلى طَورٍ مُتقدّم، وبأنّ الحؤول دون التقهقر سيكون أمراً عسيراً”؛ ثمّ رأيناه يُحذِّر ممّا تواجِهُهُ الإنسانيّةُ في مرحلة تطوّرها الرّاهنة من أخطارٍ جديدة لا مثيل لها في التاريخ على حدّ تعبيره “وتتطلَّب حلولاً شاملة مُبتكَرة”، وإلّا “لن يكون بالإمكان أن نُحافظ على شيء من كلّ ما صَنع عظمة حضارتنا وجمالها”… معلوف نفسه يُترجم أفكاره فنّياً هذه المرّة في روايته باختلاق عالَمٍ آخر موازٍ لعالَمنا، ربّما قد يستمدّ خلاصَه من حقبةٍ تاريخيّة سمّاها المؤرّخون “المعجزة الإغريقيّة”، بسبب ازدهار الفكر البشري فيها آنذاك في مَيادين المسرح والفلسفة والطبّ والتاريخ والنَّحت والهندسة والديمقراطيّة خلال عدد قليل من السنوات على يد عددٍ قليل من البشر، في إطار وفرة إبداعيّة لم نَشهد لها مثيلاً، لا في القرون التي سبقتها، ولا في تلك التي لحقتها، والتي كان علينا انتظار ألفَيْ سنة كي نشهد نهضةً مُماثلة لها (ص85). فوُظِّف شخوصُ الرواية من ذوي الأسماء الإغريقيّة مثل: أغاممنون وديموستين والطبيب بوزانياس، الذين تمّ تعيينهم في الرواية وتسميتهم على أنّهم “أصدقاء أمبيدوكل” (أو أمبيدوكليس) Empédocle (الفيلسوف اليوناني الذي عاش في النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد)، ليكونوا صلةَ وصلٍ بين تلك الحضارة العريقة وبين عالَم الرواية. حتّى أنّ ديموستين غدا المُمثِّلَ والناطقَ الرسميَّ باسم هؤلاء الإخوة غير المرئيّين، وَرَثَة تلك الحضارة الإغريقيّة العظيمة الذين فرضوا أنفسَهم لتصويب الخَلل الذي يعتري حضارتنا وللحؤول دون خراب العالَم وحربه النوويّة التي أوشكت أن تقع وتبيد مُدناً بأكملها عن بكرة أبيها لولا تدخّلهم.

روايةٌ من طبقتَيْن

بين عالَمَيْن: عالَم الـ “هُم” وعالَم “النحن”، ارتسمَ الجانبُ الخرافيّ لرواية معلوف الذي أَطلق لنفسه عنان التخييل الحرّ خارج قيود التفكير العقلاني، وبمَشاعر الروائيّين والشعراء وعواطفهم وتوقهم إلى وحدة إنسانيّة جامِعة يتغلَّب فيها الحبّ على الكراهيّة، والخير على الشرّ، والجمال على القبح. لكنّ جموح الخيال أو التخييل هذا، المُتناظر مع حكايةٍ خرافيّة آمن بها هؤلاء “الإخوة غير المُتوقَّعين” وكلُّ مَن وَرث قيَمهم، والتي رواها أغاممنون، لم يُفض إلى جعل الرواية خرافيّة بالكامل. الحكاية الخرافيّة تلك تقول إنّه حين أَوشكت شعلةُ المُعجزة الإغريقيّة على الانطفاء، سارعت حفنةٌ جريئةٌ من الأشخاص، ممن حَدَسَوا أنّ حضارتهم على شفير الغرق إلى حفْظ مُثُلها العليا، فتركوا أمكنتهم ولم يحملوا معهم سوى مَضامين أرواحهم (ص86). لكنّ مُشاهدات الراوي ألكسندر، وبوصفه راوياً متأمّلِاً مُتبصِّراً أو بصيراً، يُسجّلُ أحداثَ الحاضر وينقلها بالأمانة التي تتطلّبها كِتابة اليوميّات، شكَّلت البنية التحتيّة للرواية وجعلتها رواية ذات طبقتَين: الأولى ذات جذر عقلانيّ (تسلسل منطقي/ تحليل موضوعي/ توالي تعيين العلّة والمعلول أو السبب والنتيجة…إلخ). والثانية ذات جذر خرافيّ (حضور الكائنات ذات الأصول الإغريقيّة وغير المرئيّة لتخليص العالَم/ المُستشفيات العائمة التي يمتلكها ورثة الإغريق هؤلاء، حيث يصنعون فيها المعجزات بفعل المستوى العِلمي والطبّي المتطوّر جدّاً الذي بلغوه، وقدرتهم بالتالي على شفاء سائر الأمراض والأوجاع والعجز والشيخوخة والأعطاب…). لكأنّنا بهاتيْن الطبقتَيْن أمام خطابٍ روائي يقول إنّه ليس بالعِلم والتطوّر التكنولوجي وحدُهما يحيا الإنسان وتحيا حضارة ما، بل بروح هذه الحضارة وقيَمها. دلالات القول الروائيّ للخطاب المؤسَّس على الطبقة العقلانيّة للرواية تُشير إلى إنّ الحلّ لن يكون إلّا بأعجوبة، وإلى أنّ زمن الأعاجيب والأساطير قد ولّى، ما يعني أنْ لا وجود لحلٍّ قريب. في حين تُشير دلالات القول الروائي للخطاب المؤسَّس على طبقة الخرافيّ إلى تلك العلاقة المركَّبة بين العقلي والخرافي، أو بين العِلم والأسطورة، مهما تقدَّمنا علميّاً ومعرفيّاً: أنا أفكّر إذا أنا قادر على تفكيك الواقع بكلّ تعقيداته وتقاطُعاته واجتراح الحلول له. لكنّ فظاعة الواقع واستحالة إصلاحه أو مُداواته، تجعل من الأعجوبة التي تنكرها عقلانيّتي، الحلَّ الوحيدَ المُمكن في الظروف الرّاهنة.

بطبقتَيْ الرواية هاتَيْن إذن، المتأرجحتَيْن بين العقلاني والخرافي، وتعارُضهما وتضافرهما فنّياً، أَنتج أمين معلوف خطاباً مُعْقلَناً، جاءت أبرز خلاصاته بناءً على تكثُّف الأحداث بين يومَيْ الجمعة 26 تشرين الثاني/ نوفمبر والأحد 5 كانون الأول/ ديسمبر، ولاسيّما بعد كلّ ما أظهره “أصدقاء أمبيدوكل” من تفوّقٍ عِلميّ وتكنولوجيّ وطبيّ:

“بما أنّنا أصبحنا من الآن فصاعداً قادرين على التغلُّب على المرض، وعلى درء الشيخوخة، وصدّ الموت – وهذا كلّه من دون إنفاق سنتيمٍ واحدٍ، وإنّما بفضل ما يُمكن أن نسمّيه هديّة من السماء… أو من البحر! -، لا يعود لأيّ شيء في حياة البشر القيمةُ نفسُها التي كان يحظى بها من قبل؛ لا المال، ولا الوقت، ولا العمل، ولا التسلسلات أو التراتبيّات الاجتماعيّة، ولا علاقات القوى أو ميزانها” (ص306).

هكذا يَنفتح الخطابُ الروائيّ على أملٍ بالخلاص يعتمد على أن يُغيِّر الناسُ، أفراداً وجماعاتٍ ومللاً ونِحلاً وشعوباً وأُمماً ودولاً وإمبراطوريّاتٍ…إلخ، ما في أنفسهم. وترتسمُ المعالِمُ الإنسانيّة المُحمَّلة بالقيَم التي حملتها روايات معلوف السابقة كلّها دونما استثناء. ولعلّ في الخطاب الذي تتوجّه فيه “الملكة إلكترا”، مُمثِّلة “أصدقاء أمبيدوكل” (أي “الهُم”) إلى الشعب الأميركي (أي شعب “النحن”) تجسيداً لهذا الأمل. ففي هذا الخطاب تمدّ الملكةُ يد العون لـ “النحن”، وتُقنعهم بما سبق وأن اقتنعوا به “هُم” (أي “أصدقاء أمبيدوكل”) منذ زمن، وهو أنّ العدوّ الرئيس للبشر يتمثَّل بالموت، وبالموت وحده، ” لا القوى المُتنافِسة ولا الشعوب الأخرى، ولا الأعراق الأخرى. ولا نحن (أي أصدقاء أمبيدوكل). الموتُ فحسب؛ إنّه العدوّ الوحيد الذي يستحقّ أن يُحارب وأن يُطارَد وأن يُقهَر. فهل أنتم جاهزون لإعادة ترتيب أولويّاتكم، ولفتْح صفحةٍ جديدة معنا وفي ما بينكم”؟ (ص326).

***

(*) مؤسّسة الفكر العربيّ

(*) نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *