لُغَتُنا وأحوالها في عصر “المَوجة الثالثة”

Views: 83

د. فادي سعيد دقناش*

ضجَّت مواقع التواصل الاجتماعيّ والنشرات الإخباريّة في الأمس القريب بِخَبَرٍ مفاده مُمانعة لاعب كرة القدم المغربي ياسين بونو التحدُّث باللّغة الأجنبيّة، في أثناء مؤتمره الصحافيّ في كأس أُمم إفريقيا 2022. “هذه مشكلتكم وليست مشكلتي!” عبارة أَطلقها اللّاعب المذكور على خلفيّةِ طَلَبِ الصحافيّين منه التحدُّث باللّغة الأجنبيّة، لأنَّهم لم يَفهموا تصريحه بالعربيّة “المحليّة” (على الرّغم من أنَّه يُتقن عدداً من اللّغات)، لتؤدّي بعدها إلى “عاصفة” في “الشارع” العربي وانقسامه بين مؤيّد لتصرّفه أو معارض له. وبالعودة إلى تفاصيل حديثه بالصوت والصورة نجد أنَّنا كعرب (أقلّه كمشرقيّين) لم نفهم منه كلمة واحدة، كونه كان يتكلّم بلغة عاميّة محليّة… ولو تكلَّم بالفرنسيّة أو الإنكليزيّة لكان ذلك أجدى لنا.

بالشكل، تُظهر هذه الحادثة تقصيراً من قِبل منظّمي المهرجان الكروي لعدم وجود مُترجمين لغويّين (من اللّغة العربيّة وإليها) مُتجاهلين بذلك – ولو سهواً – التنوّع الثقافي واللّغوي في القارّة الإفريقيّة. أمَّا في المضمون، فقد طُرحت العديد من الإشكاليّات المرتبطة باللّغة العربيّة (فصيحة ومحليّة) في عصر العولمة، وبالتالي تُحيلنا إلى مجموعة من التساؤلات المشروعة؛ فكيف لنا أن نتعامل مع لغتنا العربة في العصر الحالي؟ وما هو موقعها بالنسبة إلينا وإلى الآخرين؟ ولماذا هذا الانقسام الحادّ الذي وصل إلى حدود “الحرب الافتراضيّة” على مواقع التواصل الاجتماعي بين النّاطقين باللّغة نفسها؟

بعض الحقائق حول لُغتنا

يرى فيصل الحفيان (مدير معهد المخطوطات العربيّة – ألكسو) أنَّ للّغة العربيّة (الفصيحة) خصائص تجعلها تمتلك العديد من عناصر القوّة، وهي التقديس، الحفظ، الحضاريّة، الجغرافيّة، الثراء:

  • التقديس والحفظ، لأنَّها اللّغة التي نزل بها القرآن الكريم، وقد ظهرت أهميّتها وقدسيّتها بوضوح في العديد من آيات السور الكريمة.
  • الجغرافيّة، فهي تنتشر على مساحةٍ شاسعة من قارّات العالَم؛ وبلُغة الأرقام تُشير معظم الإحصائيّات إلى أنَّ اللّغة العربيّة تحتلّ مَوقعاً مُتقدّماً من حيث الانتشار، فهي تتأرجح بين المركز الرّابع والسادس عالَميّاً بعدد المتحدّثين بها (ما يُقارب 480 مليوناً من البشر في العالَم العربي والإسلامي) بحيث تأتي بعد الإنكليزيّة (الأولى) والصينيّة (الثانية) والهنديّة (الثالثة) والإسبانيّة والفرنسيّة، ما يعني أنَّها في موقع مُتقدّم مُقارنةً بلغاتٍ أخرى.
  • الحضاريّة، فهي لغة العِلم والفكر والتقدُّم قروناً عديدة، حيث استوعبت ثقافاتٍ وافدة أَثْرَتْ مُرَكَّباً ثقافيّاً جديداً هو الثقافة العربيّة الإسلاميّة، وشكَّلت “شبكة لغويّة تنطوي على قيَمٍ ثقافيّة وفنيّة واجتماعيّة” لشعوب المنطقة العربيّة.
  • الثراء، فعُلماء اللّغة صنَّفوها من ضمن أسرة اللّغات المُتصرّفة، وهي أثرى اللّغات وأرقى الأُسر اللّغويّة حوالي (12 مليون و300) مفردة و(80 ألف) جذر لغوي (الجذر نعني به أصل الكلمة أو الوحدة المعجميّة للكلمة) تضمَّنها “لسان العرب” لابن منظور، وهذا أحد أهمّ الأسباب التي أَسهَمت (ويُمكن أن تُسهم مستقبلاً) في نموّها، من دون أن نُهمل قدرتها على الاشتقاق والنحت والمجاز والقياس والتعريب والترجمة والاقتراض.

ولكن هل هذا التصنيف العددي المُتقدّم يعكس بالضرورة تأثير اللّغة العربيّة ودَورها كلغةِ معرفة وعِلم في عصرنا الرّاهن؟ وهل للانتشار الجغرافي الكبير للناطقين بها دَور في تطويعها وتحويلها إلى مجرَّد لهجاتٍ محليّة لتُصبح غير مفهومة في بيئاتٍ اجتماعيّة أخرى؟

تَوَقُّف إطار اللّغة العربيّة عن الدَّوران

لا شكّ بأنَّ الانتشار الجغرافي الواسع للناطقين بلغةٍ ما، لا يعكس بالضرورة سيادتها وسلطتها في فضاء المعرفة والثقافة على مستوى الكوكب. في الماضي، كانت اللّغةُ العربيّة لغةَ إنتاج الأفكار والمعارف، فكانت ترجمة كُتب الفلسفة اليونانيّة وغيرها من الكُتب الأعجميّة مرآةً تعكس وهْجَ الحضارة العربيّة، التي بلغت أوجّها في العصر العبّاسي، وكانت هذه اللّغة حينها عنصراً فاعلاً في إغناء الفضاء المعرفي والفكري، ولغة إنتاج وصناعة للمعرفة. وفي وقتٍ لاحق بدأت أوروبا (فرنسا وبريطانيا وألمانيا إيطاليا…) تأتي بالمخطوطات والكُتب بـ “عربيَّتها”، وتعمل على ترجمة الأعمال القيّمة منها والتعامل معها بروحيّة جديدة، ما مهَّد لأوروبا الدخولَ في عصر الحداثة؛ فكانت كُتب الجاحظ، ابن المقفّع، ابن سينا، ابن النّفيس، ابن الهيثم، ابن خلدون، ابن رشد، الخوارزمي…إلخ، تُترجَم إلى اللّغات الأجنبيّة مع اهتمامٍ شديد بالفلسفة، حيث اكتشفَ الأوروبيّون أنَّها تُشكِّل رافعةً حضاريّة، فحظيت بشكلٍ عامّ، تحديداً فلسفة ابن رشد، باهتمامٍ كبير أدَّى بعدها إلى ظهور مدرسة “الرشديّة اللّاتينيّة”.

ولكن أين نحن اليوم من لغتنا واقعيّاً؟ منذ قرون بدأ العرب بالتقهقر التدريجي نتيجة عوامل مختلفة، سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة، فحصل نوعٌ من الجمود والسكون المعرفي الذي انسحب على اللّغة العربيّة وخَلَقَ هوّة ثقافيّة – معرفيّة بين الأجيال الحاليّة وتُراثها الثقافي “القَيِّم”، وازدادت هذه الهوّة مع ثورة “الموجة الثالثة”، وهي الثورة المعرفيّة التكنولوجيّة الرقميّة التي لم تشهد البشريّة مثيلاً لها، فكانت المُواكَبة لهذا التطوّر المعرفي شبه غائبة من قِبَلِ العرب، ما انعكسَ قصوراً في رفْدِ المحتوى الرقميّ بمُصطلحاتٍ حديثة تواكب تدفُّق هذه “المعرفة الومضيّة” وفق تعبير الكاتب والنّاقد محمّد وردي.

الخروج من الدائرة المُغلقة

الصعوبات متنوّعة ومتشابكة، ويحتاج حلّها إلى ورشة عمل ضخمة، نذكر منها التالي:

– تجميد وتمجيد لغة الضادّ: تكمن أبرز المشكلات التي تعترض هذه اللّغة في هجْرِ التراث المكتوب بشكلٍ كلّيّ من جهة أو تمجيده (صوريّاً) من جهة أخرى؛ فبالنسبة إلى الأجيال الحاليّة، تحوَّل هذا التراث إلى مجرَّد “ديكور” جميل يَظهر على رفوف المكتبات بكُتبه ومُجلَّداته العربيّة المُنَمَّقة، من دون التجرّؤ على قراءة مضامينها والاستفادة منها، إذ إنَّ ثمَّة صعوبة في فهم نصوص كُتب التراث من دون العودة إلى المعاجم اللّغويّة؛ فاللّغة التي كَتب بها الأسلاف غير اللّغة التي نكتب بها الآن، وأسلوب صَوْغ الجُمَل تغيَّر كثيراً، إضافة إلى سقوط كلمات كثيرة مع مرور الزمن و/ أو تغيَّر معناها و/ أو حتّى لم نعُد نفهمها و/ أو لم نعُد نستعملها؛ [فالمرأة الجميلة اليوم كان يتمّ التعبير عنها من قِبل الكتّاب أو الشعراء الأقدمين بعباراتٍ مختلفة، لا يعرفها اليوم حتّى المُختصّون العاملون في فضاء اللّغة العربيّة نفسها (طَفْلَة = رخصة ناعمة رقيقة) (بهْكَنة = بضَّة ناعمة) (عَبَهْرَة = رقيقة البشرة ناصعة البياض) (خَوْد = شابّة ناعمة حسنة الخَلق) (بُلاخيّة = ممشوقة القدّ) (هِرْكَولَة = عظميّة الوركين) (فُنُق = منعَّمة مُترفة) (عُطْبول = فتيّة جميلة ممتلئة طويلة العنق)]، فلْنتخيَّل اليوم لو أنَّ عاشقاً نعتَ حبيبته بهذه الصفات، فكيف ستكون ردَّة فعلها؟!

– سيادة اللّغة المَحكيّة (العاميّة) على حساب اللّغة الفصيحة: إنَّ سيادة اللّغة العاميّة المحليّة ليست مشكلة اللّغة العربيّة فقط، فهي ظاهرة مُنتشرة في كثير من اللّغات العالميّة ومن بينها الإنكليزيّة؛ إذ إنّ تَطوُّر اللّغة المَحكيّة وانتشارها أمرٌ طبيعي مع زيادة التثاقُف والتفاعُل بين الشعوب، بخاصّة في عصر العولمة. لكنَّ الخطر الكبير الذي تعرَّضت له اللّغة العربيّة هو انتشار لغات عاميّة هجينة “عرب – استعماريّة”، لكون الواقع السياسي للمنطقة العربيّة جَعَلَها لقرونٍ طويلة كمُلحقات تدور في فضاء التبعيّة السياسيّة والثقافيّة، وكان للاستعمار الغربي الحديث التأثير الأكبر في الاغتراب بين اللّغة العاميّة واللّغة الفصيحة، ما أدّى إلى ظهور لغاتٍ مَحكيّة محليّة عبارة عن مزيج بين العربيّة والأجنبيّة وأحياناً القَبَليّة (كالأمازيغيّة)، وهذا أمر لا يزال سائداً حتّى يومنا هذا في العديد من أقطار العالَم العربي.

كما وأنَّ استخدام اللّهجات العاميّة على حساب اللّغة العربيّة الكلاسيكيّة – الفصيحة – في النّتاجات الفنيّة، هو أيضاً موضوع بحث؛ ونذكر في هذا المجال بأنَّ نسبة الفصحى في البثّ الفضائي هي 28% مقابل 72% بالعاميّة، من هنا الحاجة إلى زيادة البرامج والوقت المخصَّص لمحتوى اللّغة الفصحى على شاشات التلفزة المُقتصرة بمعظمها على البرامج الدينيّة والوثائقيّة والتعليميّة لتشمل أيضاً برامج الأطفال وغيرها.

– ضعف المحتوى الرقميّ على شبكة الإنترنت: لا يتجاوز معدَّل المحتوى الرقمي للّغة العربيّةالآن 1.1% مُقارنةً بالمحتوى الرقمي للّغة الإنكليزيّة 61.4%، وهو مؤشِّر خطير لِلُغةٍ تُصنَّف بين اللّغات الأكثر انتشاراً؛ من هنا لا بدَّ من امتلاك الأدوات الرقميّة المناسبة بغية رفد هذا العالَم الافتراضي (الذي أصبح بديلاً واقعيّاً في عالَم اليوم) بمحتوىً مُفيد ومُكثَّف وفاعِل يضع العربيّة في مكانها المناسب، مُقارنة برقعة انتشارها عدديّاً وجغرافيّاً، وخصوصاً أنَّ الشبكة “العنكبوتيّة” كان يستخدمها أكثر من 246 مليون مُستخدِم في العالَم العربي في العام 2021.

– إهمال في تحديث المناهج التعليميّة للُغتِنا: لا تزال المؤسّسات الرسميّة العربيّة عاجزة أو مُتجاهلة أو مُتساهلة بشؤون اللّغة “الأمّ” وشجونها؛ فتحديث المناهج التربويّة، وإن حصل، أتى على حساب اللّغة العربيّة (تقليص حِصصها وزيادة حِصص اللّغات الأخرى). كما أنَّ طرائق تدريس اللّغة لا تزال على تقليديَّتها – في معظم الأقطار – البعيدة عن طرائق التدريس الحديثة المتوائمة مع التطوّرات التكنولوجيّة التي تُسهّل للطلّاب في حال اعتمادها فهْمَ المصطلحات الخاصّة بها وبقواعدها.

– ضعف حركة الترجمة: من شروط الترجمة أن يكون المُترجِم أوّلاً مُلمّاً باللّغة الأصليّة والمنقولة بموضوع المحتوى المُترجَم ومادّته، وهذه المهارات غير متوافرة لدى العديد من المُترجمين العرب، بحيث يأتي المصطلح الوافد مُشوَّش المعنى لدى ترجمته إلى اللّغة العربيّة، ناهيك بندرة الترجمات للأبحاث والأطروحات العلميّة والاكتشافات الحديثة المُتسارعة الصادرة عن مجلّات ونشرات ودوريّات علميّة لمؤسّسات وجامعات ومراكز دراسات وتفكير.

– كثرة المعاجم اللّغويّة واختلاف مصطلحاتها: هذا الأمر يستدعي ضرورة توحيد المعاجم اللّغويّة العربيّة المختلفة التي تختلف بتفسير المصطلح نفسه من معجم إلى آخر.

ختاماً نقول إنّ اللّغة أداة لإنتاج المعرفة وهي موضوع لها، وهناك عدد من المبادرات التي اتّخذتها بعض الدول العربيّة لتعزيز دَور اللّغة ونشْرها من خلال إنشاء مراكز ترجمة ومجمّعات لغويّة وجوائز تدعم الإبداع الأدبيّ والترجمة، حيث تمّ إحصاء 33 جائزة في المنطقة، إضافة إلى رصد مبالغ سنويّة كبيرة لمكافأة الإبداع الأدبيّ، لكن هل تكفي هذه الجهود لنشر اللغة العربيّة وتعزير دورها الثقافي كعنصر فاعل وندّ وشريك في فضاء الحضارة الكونيّة؟

***

*باحث في علم الاجتماع من لبنان

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *