جورج شحاده… بصمات إبداعية على الشعر والمسرح العالميين

Views: 949

وفيق غريزي

اذا كانت جزيرة “موريس” اطلقت لنا مالكولم شزال، وجزيرة المارتنيك ايميه سيزير، فقد اطلع لبنان شاعرًا تسكنه عبقرية اصيلة، انه جورج شحادة.

بطاقة تعريف

ولد جورج شحادة في الاسكندرية – مصر، عام ١٩١٠، وجذوره العائلية مزروعة في الجبل اللبناني الذي اعطانا عددا من الكتًاب اللبنانيين الكبار الذين كتبوا باللغة الفرنسية امثال: خلاًط، تيًان، شيحا، وقرم، هذا من حيث الجيل الزمني، اما من حيث الجيل الشعري فقد انفصل شحادة عنهم، عن تياراتهم الادبية، عن موضوعاتهم، وآثر أن يسهم مساهمة حقيقية في انماء تراث الاداب العالمية، فكان جورج شحادة عملاقًا في هذا المضمار. 

في شهر كانون الاول من العام ١٩٨٦ منحته الاكاديمية الفرنسية جايزة ” الفرنكوفوني الكبرى، وهي تمنح لاًفضل نتاج ادبي يبدعه كاتب غير فرنسي في الفرنسية. انه فرنسي الثقافة، مجاز في الحقوق، عاش في بيروت، ثم في باريس، عمل امينا عاما لمدرسة الأداب العليا في بيروت، ثم مستشارًا فنيًا في السفارة الفرنسية فيها.

لم يكن غريبا ان ينطلق الى عالميته بالفرنسية، ومن باريس بالذات، فالكتًاب والفنًانون الاجانب الذين غزو العالم عبر هذه اللغة ومن تلك المدينة لا يحصون. ويكفي ان نذكر ان المسرحيين الخمسة الذين نهض المسرح الطليعي على اكتافهم وتبنتهم واطلقتهم باريس، لم يكونوا اصلا فرنسيين وهم: “صموئيل بيكيت – ايرلندي، يوجين يونسكو- نومتني، ارثور آداموف – روسي، فرناندو ارابيل – اسباني، وجورج شحادة – لبناني “.

 ويرى بعض النقًاد أنه اذا كانت الصورة الشخصية لهذا اللبناني شبه محجوبة عن القرًاء، فمن خشية شحادة الاحتكاك المباشر بوسايل الاعلام، مثله مثل زميله بيكيت. واذا كان قد توافر لبيكيت عدد من الدارسين الًفوا عنه كتبا توضًح صورته، فان مسرح شحادة يفتقد ذلك، إلا بعض الاشارات الى مسرحه وشعره في الكتب والموسوعات المختصة. 

الشاعر جورج شحادة

 

 عبقريته الشعرية 

يروي الشاعر جورج شحادة أن موًسس السوريالية اندريه بريتون احب شعره منذ اوًل لقاء. وذلك ربما لان شحادة لم يكن يعترف بأدب يقوم على الفكرة أولا، بل على الاسلوب، واًسلوبه فيه مميزات كثيرة من تحديدات السورياليين لشروط الكتابة. ورغم انه يرفض الكتابة الألية التي دعا اليها السورياليون، فانه في مستهل تفتًح تعبيره الشعري استسلم الى مثلها، لتنطلق الصورة بكامل حريتها في جو النقاوة اللاارادية الهاذية بكل مخزون الحلم. 

ورغم تكريس غالبية ابداعه للمسرح، فان جورج شحادة ظل ينبض فيه، وقد جمع نبضاته الاخيرة في ديوان سمًاه “سباح الحب الواحد”. وهكذا من الشعر الى المسرح فالى الشعر كان يسبح في بحر واحد هو بحره الشعري. وعند شحادة وشعره، هناك دوما المكان المستحيل والحلم بالوطن الام. وسواء كان الوطن المنشود هو بمعناه الرمزي ام بمعناه الحسًي، فان شحاده هو شعر الشعور بالغربة ومحاولة التحايل عليها او السخرية من الاشياء التي يغذيها. وفي هذا يلتقي جورج شحادة مع جبران خليل جبران، فكلاهما متغرًب في اللغة وفي المكان، كلاهما في اعماقه روحية تراث واحد يصفه الشاعر سان – جون برس، في معرض حديثه عن أدب جورج شحادة افضل وصف: “آت من هذه الاقاليم حيث تنتظم كل هندسة صافية.. سليل العائلات الانسانية حيث لا يعرف من الورد غير العبير، ومن اللوًلوً غير الشرق.. مع هذا يحدثنا عن تمرد الورد، وعن ظهور الكواكب المهملة…”. 

وكي ننفذ الى عالم جورج شحادة الشعري،علينا الا نصرً على افكار محدًدة في كل شيء يقوله. الكلمات عنده ترتبط ارتباطًا بعيدًا، تتضافر من بعيد، لكنها تولًد صورًا غير منتظرة، جميلة ساحرة، وكي نسبر متاهته الشعرية علينا الانطلاق من افكار عدًة:

 ١- عالم جورج شحادة الشعري يتمثًل لنا في صورة موجة.. بستان غرست فيه اشجار مثقلة بالثمار.

 ٢- عالم الراحة والكفاية هذا هو سراب، ينبًهنا الشاعر الى ذلك في اول قصيدة من قصائده: ” قبل البدء خلف الورود، لا قرود. هناك طفل معذًب العينين “.

 ٣- العالم الآخر هو بنية خيالية يحدثنا شحادة عن اجزائها وعن عناصرها. ما هي حقيقة العالم ؟ إانه مجموعة العوالم التي خسرناها واضعناها.

 ٤- فكرة الغياب، والمكان البعيد، المجهول، ظاهرة في اشعاره ومسرحياته.

 ٥- فكرة القرية، أو المدينة الصغيرة، هي مكان فيه الحياة بسيطة وسهلة، فيه تنشاً روابط بريئة عفوية بين الكائنات والاشياء.

 ٦- فكرة الموت، الموت نجده في كل مسرحية وفي كل قصيدة، انه الرحيل الكبير، الغياب الأخير، لكن الموت حقيقة مطمئنة، حلوة.

إن شعر جورج شحادة، ليس اختبارًا نجريه على اللغة، انه كلام وليد المعاناة والخبرة، انه لا يبني، كلمة كلمة، المعبر الذي يمكنه من ترك الارض التي ولد فيها، الارض التي يمر عليها الزمن الذي لا عمر له ولا ساعات تحت السماء الكونية. هذا الشعر موًلف من كلمات.. لكن هذه الكلمات لا تبحث عن كيميائها، لا تسجًل صيغتها. انها تقول ببساطة، في نفس واحد ما عرفته دوما : “تبحث عن جرس النبع، نبع الذكرى “.

مسرحه الشعري 

إن لجورج شحادة قدرة على استنطاق الاشياء مفجرًا فيها الرموز عن طريق لمسها لمسًا شعريًا عفويًا أو تاًليفها بعناية راسما المنمنمات. لكن الشعر في مسرح شحادة ليس قصائد، فالحوار مهما دخل في التفاصيل اليومية لا تفارقه طبيعة الشعر، ان العبارات تتوهج بسحر نابع من طبيعة ملامسته الاشياء، من دفعة شعرية تتجلًى هنا بالتعبير عن لقاء بكر بين الاشياء او الاشخاص. ان لغة كل شخص من شخوص مسرحياته هي نتيجة تاًمل خاص… كما يقول ادونيس، ويضيف: “المسرح الشعري يعني عند جورج شحادة، المسرح الذي يسمح بفوضى الكلمات والصور ضمن تنظيم ارادي شديد الوعي.. ويرى انه اقرب الى مساًلة الرسم “.

 لم يترك شحادة نتاجا كبيرا، لكن ما تركه كان ليجعل له مكانا دائما في خريطة الادب العالمي. ومما تركه في المسرح: حكاية فاسكو – مسيو بوبل – سهرة الامثال – البنفسجات – السفر – مهاجر بريسبان – الثوب يصنع الامير. المسرحية عند جورج شحادة،حلم جماعي، ان صحً التعبير، فكما ان الحلم يكشف عن الذات، فان القصة في مسرحيته تحاول شاًن الحلم، ان تكشف عن الجماعة، هكذا يمكن القول بان في مسرحه اًسطورة شخصية وان الاسطورة حلم جماعي. وقد حاول ان ينقل في مسرحه لغة الشعر، بل لغته كشاعر. 

ولقد خسر الشعر هذا الشاعر الفذ عام ١٩٨٩، وبخسارته خسرت الفرنكوفونية عبقريا لبنانيا، ترك بصماته الابداعية على الشعر والمسرح العالميين…

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *