النسق الأنثوي في مجموعة ((نفحات من جليد ونار )) لـلشاعرة ((لودي الحداد))

Views: 506

د. فوزي ثعبان الموسوي

(الجامعة المستنصرية)

تشتغل المقاربات اللغوية في نصوص (لودي) على شحن جذوة المدّ العاطفي،  وتفعيل آلياته التعبيرية عبر منظومةٍ معالجاتية تتحشد فيها الإحالات الأنثوية بمسارات متنوعة، ومن هذا المنطلق تستفيد (لودي) من خاصية الاستقطاب والمشاركة الذي يستبطنهُ المزاج الانثوي لدى ذائقتنا الفحولية، ومن هنا جاءت هذه السطور لتكشف عمق الأنساق الانثوية وتأصلها في تجربة شاعرة جريئة تنبعث من تجربتها رائحة المرأة المفعمة وصفاء مكنوناتها الإنفعالية .

إذ ثمّة مهيمنات كافية في النسق البنائي لنصّ (لودي) ولعلّ من أبرز تلك المهيمنات حالة الظمأ الشعوري الذي يضرب أودية الروح العاشقة ويصيح في خلواتها:

 

في غيابِكَ …!

تسلَّلَ الزَّمهريرُ

إلى أثوابِ الذَّاكرةِ

هرولتُ إلى العراءِ

أتدفَّأ بحنين الأمطار

***

أشعلْتُ اللَّهفةَ

في مواقدِ الرُّوحْ

رويتُ أغصان الحلمِ

بالدَّمعِ المبحوحْ (1)

فتتشظى الشاعرة بين صرير البرد وتداعيات الظمأ، لكنها لفرط امتلائها بكبريائها الأنثوي، تأبى أن تسلك سبيل التصريح، وكأنّها تصرخ (وفي النفس حاجاتٌ وفيك فطانةٌ) فعلى الرغم من مشهدية الانجماد، التي عبرت عنها بتسلل الزمهرير إلّا أنْها لم تلفظ كلمة (البرد) وهو المقابل الموضوعي للدفء الذي تحتاجه الشاعرة، حتى انها نسبت الأثواب الى الذاكرة، فالزمهرير ربما يُفقِدها شيئاً فشيئاً حرارة الشوق في إشارة بارعة الى إمكانياته نسيان الحبيب ولا يخفى عنصر التحذير من مغبة استمرار مسلسل التجاهل، حتى انّ (هرولتُ) لا تدخرُ جهداً في ابراز مدى تمزق الشاعرة روحياً، محتفظة بعنادٍ صلب على اتقادها الذاتي (( اشعلتُ اللهفةَ في مواقد الروح )) ومن جانب آخر يطلُّ الظمأ برأسه حيياً عبر مسارات ضيقة غاية في التجريد والانزياح،  فاغصان الحلم لابدّ لها من أرتواء ولكن بدمعٍ مبحوح، ولا يخفى التقابل التشخيصي بين (الأغصان / الدمع) والتجريدي بين (الحلم / المبحوح) إذ تفضي تلك المشهدية في نهاية المطاف الى امرأةٍ بمواصفات استثنائية، وفي نص آخر :

أعتقْني أيُّها القدرُ

ألمْ ترتوِ بعدُ

من عصارةِ الألمِ…!؟

اثقلَ جفنيَّ الكرى

تتوقُ الرُّوحُ

الى الحلمِ السَّرمدي

أمطرُ الحبَّ

لأرويَ ثغورَ اليقينْ

كأنَّني كنتُ أكتبُ

بحبر الماءِ وألوِّنُ

على أوراق الأثيرْ …!(2)

إذ تكابد الشاعرة عبر مسارات الحياة الكثيرة من الحواكم التي تفترس نقائها وتهيمن على عوالمها الأثيرة،  ولعلّ الأقدار من زاوية (لودي) لا تنفك تمتصّ رحيقها، وتُذبِل ازهار الحياة في عروقها، فامتصاص القدر لعصارة الألم في حشاشتها، تقابله ضارعةً بهذا التساؤل البريء الذي لا يصدر الّا عن انثى معطاءة (ألم ترتوِ بعد من عصارة الألم ؟) وتضيف – علّه يرقُّ لها – (أثقلَ جفنيّ الكرى / تتوقُ الروحُ / الى الحلم السرمدي) فكل تلك المقدمات إنما تستبطن في داخلها رسائل مشفرة، كأنّها تعلن : اثقل جفني الكري (ولم أنم) وتتوقُ الروح الى الحلم السرمديّ (ولم يأتِ) في اشارة الى رغبة عارمة بالموت،  الموت الذي يمثٍل حلماً سرمدياً، ربمّا يشكل نهايةً لآلامها، ومن ثم تختم – معتذرةً – عن ذلك بأنّها كانت تمطرُ الحبُّ لتروي ثغور اليقين، مكتشفةً انّها انمّا كانت تكتبُ على صفحات الماء وتلونّ على احداق الأثير في اشارة الى عبثية المخرجات .

 

وربّما تشكل ظاهرة الإستلاب ملمحاً واضحاً لدى (لودي) في مجموعتها هذه كونها في النهاية امرأة شرقيّة، يقابلها رجلٌ شرقيّ يجيدُ سطوةَ الفحولة ويحسنُ اقتناص خمائلها المورقة :

غفلْتَ عنِّي

عندَما تكسَّرتِ الأمنياتُ

على الصُّخورِ والرَّملِ

انهكَني السَّفرُ

فاستلقيتُ بين الأحرفِ الأسطرِ

أنا قصيدةُ الخيالِ(3)

فبعد أن يستنفذ منها الذي يطلبه (يغفل عنها) فالغفلة بارقة أمل تبذرها (لودي) في صحراء من الحقائق المرّة، علّها تثمر ولو صدفةً، وتنكسرُ الامنيات في حالة من الانسحاق الانثوي ثمّ (انهكني السفر) فهي منهكةٌ بأمنيات منكسرة ومغفول عنها، لذا لابدّ لها من أن تستريح ولو (بين الأحرف  والأسطر) ففي نهاية المطاف هي (شاعرة) يمكنها أن تهرع الى عالمها الافتراضي (الشعري) في محاولة لتجاوز حالة الإستلاب تلك والإفلات من قبضتها، لتستجير به مما ألمّ بها بعفوية خصبة واسترسال مطلق، اذ لا يمنعها ذلك على الرغم من بشاعته من استساغة منحنى الالم ذلك ، تقول :

دعني …!

أتدفَّأ في صمتِكَ

أتلوَّن في حبرِكَ

أتلاش بينَ الضُّلوعْ

***

خذني إليكَ…!

أولد فيكَ

استحمّ بالشَّمسِ

على روابيكَ

أنتَ الحقيقةُ

الكاملةُ السُّطوعْ …!(4)

اذ يفقد فعل الأمر (خذني) عمقه الطلبي، ليقف على حافة الرجاء في مشهد لا يخلو من الإثارة،  فيما تأبى نفسها الكبيرة تكرار (دعني) مكتفيةً بالايحاءات الإسلوبية، اذ نجدها تكتفي بتجريد افعال من قبيل (أتدفأ، أتلّون، اتلاشى، استحم) ولا يخفى وقوع تلك الافعال في ظل الفعل الطلبي (دعني) اسلوبياً ونحوياً، اذ تتدافع تلك (الحركية) التي توفرها الحالية الزمانية متخذةً نسقاً تصاعدياً يتناسب طردياً مع (حياء) المرأة وعزة نفسها في أن واحد ، فـ(اتدفأ) تسمح لنا بقياس مدى الحاجة الانثوية ومكنوناتها الغريزية، في حين يتجه (أتلوّن) صوب الاندماج الذاتي مع المحبوب، ومن ثمّ يأتي (اتلاشى) ليحقق حتمية ذوبان الهوية الشخصية والانسحاق الكلي (بين الضلوع) ولم يبقَ سوى الاستحمام بالشمس (استحمّ بالشمس) بعد بلوغها غاية المطاف، وهكذا تعلن لودي عن ولادتها الانثوية الكاملة معللةً كلَّ ذلك بوقوفها على عتبة الحقيقة الكاملة السطوع، مستفيدةً من عنصر التجريد الذي أحال كل شيء ممكناً في لحظة الحقيقة تلك، ولا تبتعد كثيراً في قصيدة (مذبح النقاء) من حيث زاوية النظر وعلائق الحضور والعدم،  تقول :

وتراءى ليَ وجهُكَ

قوسَ قزحٍ

يعانقُ الأثير …!

غيثٌ من الاشواقِ

انهمرَ

على حقول الأيَّامْ

تفتَّحتِ السَّنابلْ

***

أنا الآن أجثُو

أصلِّي

أضحكُ

وأبكي

أمامَ مذبحِ النَّقاءْ …!!(5)

ينهض المشهد برمته على ثنائية (الرؤيا / الحقيقة) التي تلملمُ اطراف المشهد الشعري، فحينما تغتصبُ الرؤيا الواقعَ عبر اطلالة وجه المحبوب بهذه الكيفية الانثوية في رؤية الأشياء ومن خلال حاستها البصرية، التي تختزن الطيف الشمسي، وفي الوقت ذاته تنهض مشهدية أخرى مقابلة ومحاذية للمشهد الأول معاضدةً لها ومتأثرةً بها إذ تشكل مُخرجاً من مخرجاتها، فترائي المشهد الأول يدفع بالشاعرة الى حافة الشوق، لتعلن عن انوثتها عبر غيث من الاشواق لتفتح بعدها السنابل، الّا انّها سرعان ما تكتشف (حلمية) تلك (الرؤيا) فالحقيقة هي (مذبح النقاء) اذ لا تملك امام تلك الحتمية إلّا ان تتصرف كما كل انثى، تبدأ بـ (أجثو) وتنتهي بـ(أبكي) وما بينهما مشاهد جزئية مختزلة ومكثفة تختزلها بفعلين (أصلّي / اضحك) مثلا . مشهداً غريباً يطل برأسه بين رجاء (أجثو) وحتمية (أبكي) .

وبالحديث عن الشظايا المشهدية، تقودنا لودي في قصيدة (فخامة الصمت) الى تلك الإستراتيجية المحببة لديها :

تروقُنا السَّكينةُ

ونوقدُ البخورِ

أمامَ معبد الكآبةِ المقدَّسةِ

نغمضُ أعينَنا

فتتبراءَى لنا

مرآةُ الرُّوحِ الخرساءِ المشتعلةِ(6)

تتحشد جزئيات الصورة الأنثوية بوصفها شظايا غير سائبة، قد تبتعد أو تقتربُ لكنها تشكل في النهاية صورةً كليّة،  وهذه الشظايا بمجملها تحملُ مسحةً انثوية لا تنفكُ تشي بانتماءاتها للعالم المخملي، عالم المرأة، المرأة المعذبة، فالسكينةُ ولع الانثى المُحبّة والغيورة، و(النجود المتقد) يمثّل توسلها الروحي واحتراقها الصوفي في حضرة الموقف، ناهيك عن تلك الإغفاءة المحببة التي تصطنعها الأنثى حيثما تحلمُ واعيةً لترى من خلال تلك الإغفاءة أو الإغماضة (مرآة الروح) ولست بحاجة الى الإشارة الى أنّ (المرأة) من لوازم الأنثى وضرورةٌ من ضروراتها الشكلية،  نعم انها خرساء لكنها مشتعلة، وفي هذا الإشتعال ما يغني عن التصريح .

لكنها في قصائد آخر تلجأ الى الإعتراف مضطرةً شأنها في ذلك شأن كل النساء اللواتي يدفعهن الموقف الى الاعتراف ولكن اعتراف انثوي صورة ورؤيا ومعالجة :

باتَتْ أوراقي المترنَّحةُ

تشبهُكَ أيُّها الخريفْ

تلمعُ كسبائِكِ الذَّهب

تحتَ اجنحةِ الشَّمسِ

وفي طيَّاتِ اللَّيلِ

تترنَّم على امواجِ الألمِ

ثمّ تهوي متأوِّهةً

على قارعةِ الرَّصيفْ …!(7)

اذ لا تجد (لودي) مفراً امام سطوة الواقع وقساوته، إلّا ان تبوح بضعفها الذي يكتنف نوعاً من (الانكسار) الانثوي المحبب وليس الخضوع، وتتوسل من أجل تحقيق روايتها الشعرية بالفكرية التعبيرية التي تتماهى مع طبعها وصفاء كينونتها المتشابهة مع الخريف، وتقابل اوراقها المترنمة مع اوراق الخريف الصفراء، عبر حالة من الإسقاط الذهني والتعبيري الحي والمتحرك , فالمشهد الأنثوي يتكرر نفسه في اللوحة الثانية (الليليّة) : وفي طيات الليل … اذ تترنمُ امواج الألم لكنها في النهاية تهوي، كما هوت في اللوحة الأولى لكنّ الفارق أنّ (حاليّة) اللوحة الاولى (تلمع كسبائك الذهب) تشي بنوع من الكبر والعنفوان، بخلاف اللوحة الثانية (متأوهة على قارعة الرصيف) التي تنبئ بحتمية الضياع، ضياع الأنثى وانكسارها امام خريف لا يرحم .

لا تخفي (لودي) ضعفها الأنثوي إلّا بقدر ما تخفي الانثى مفاتنها، انّها تستجيب بشكل فطري لهذا الكم الهائل من خزين الانثوية، الذي يتراءى خلف ستار شفيف من الصنعة التعبيرية التي تجيد لودي اللعب على أوتارها بحرفية عالية .

***

الهوامش

  1. نفحات من جليد ونار : 55-56 .
  2. نفحات من جليد ونار : 101 .
  3. نفحات من جليد ونار : 28 .
  4. نفحات من جليد ونار : 90 .
  5. نفحات من جليد ونار : 97-98 .
  6. نفحات من جليد ونار : 18 .
  7. نفحات من جليد ونار : 43 .

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *