الرقص المميت فوق لجج الموج

Views: 531

يوسف طراد

إهداءٌ جميل بعنوان “قبل الانتهاء” ضمنه تحذير للقراء الشغوفين “ما أصعب أن تكون مسكونًا بغواية الحرف”. شبّهت الكاتبة روايتها بطفل من ورق، خلال تكوينه شهدت صَلب روحها على أعمدة الحروف، أزهرت الغواية فكانت رواية (ميلالين) للأديبة التونسية فتحية دبش الصادرة عن ديوان العرب للنشر والتوزيع.

رواية من خلال حياة أبطالها وسطورها تعبّر عن سيرة أهل شمال أفريقيا “كلّ الذين دحرجهم التاريخ من ذات شموس الى ذات ثلوج”. سيطرة للغائبة وراء الفقر والترحال عبر أسطح المياه المتقلبة الخاطفة هي لذاكرة جينات تحمل حب السفر للقاطنين “بين بحر وصحراء”. يبقى حب الوطن ساكن الروح الجسد القلب الفكر والذكريات، حنين يجر بطلة القصة الأولى “إلى جولة بالمغرب الصغير بباريس” ألّا وهو سوق سان _جان أغلبية سكانه مغاربة، دكاكين وباعة. تملىء الحواس بروائح الطعام ولكنة جنوب المتوسّط. وتهرب البطلة من هرج الأسئلة عن تبعيتها بين الدفاتر. رواية تتحدث بألم قلم عن المآسي وتقيؤ أفريقيا لأطفالها بدون خجل أو وجل. وصف تسكن فيه اللوعة على أهل الجنوب الحالمين بالهرب من الفقر والحاجة بحثًا عن الكرامة المأمولة وصف تقشعر له الأبدان عن “بطن المتوسّط الذي لا يشبع” ومن يسلم من ابتلاع الأنواء يساهم ببطىء بتغيير شقار فرنسا الى السمرة الصحراية، والحقّ كلّ الحقّ على من هو وراء الربيع العربي.

خلال المطالعة تصلك خلخلة الجاليات العربية المسلمة للبلد المضيف، وتتأكّد من عجزهم على التأقلم فيه، تسيطر عليهم العادات القبلية والأفكار الخرافية، بينما تسيطر على سكّان البلد الأصليين محاولة البقاء على نقاوة عرقهم لكن دون جدوى، ناسين أنهم جميعًا أبناء آدم. تصبح باريس لوحة فيسفائية تضمّ حجارة جميع المآكل والمشارب تَغيّر لونها من البهاء إلى الأصفرار بسبب غضب أصحاب السترات الصفراء. تنتقل العدوى من الربيع العربي إلى الربيع الفرنسي والله أعلم من أين جاء فيروس العدوى هذه. مهاجر “أجبر على خلع ترابه”، نعم من يخلع حسّه الوطني ويرحل عن التراب الذي نال القبلات الأولى لأرجله الصغيرة الحافية؟ “الأدلجة المتطرّفة” وتحوّل الشباب إلى قنابل موقوتة، كلام إمام عند مدخل جمعية قرآنية عن “تقويم ما أعوج من صنيع المجتمع!”

ويبقى السؤال الصاعق “ما الذي يمنع هؤلاء من إيجاد مكان لهم بين الأمكنة”. خلال السطور تجد مرض الكرة الأرضية، التخلّف المستتر وراء الدين . الشبه كبير بين محافظة “سان سان دونيس” وكيف اصبحت وطنًا جديدًا للمعاصي داخل وطن وبين مخيمات اللاجئين في وطننا لبنان الحبيب التي اصبحت ملاذًا آمنًا لكلّ من يريد التفرغ للإرهاب وجعله هدايته ونهايته. هل أن جميع المظلومين في الرواية جريمتهم أنهم أبراياء أم انهم يحملون جميع الخطايا كالخطيئة الأصلية وما من معمودية تمحيها أو تغفرها. أنه الوعي في فكر الكاتبة عند قولها: “عجبًا للخطايا! فهي تثمر دائمًا في كلّ أرض وتاريخ”.

قصص في قلب رواية تروي الحب الصادق الذي لا يقيده تقليد، فلورانس أتت ثمرة للحب وليست ثمرة الخطيئة في قصة قصيرة مشوقة كانت الحياة فيها أقوى من السم والقيود الأجتماعية. البطلة الثانية في القصة “رقيّة الفايد” بُعثت حية بعد دهسها بحادث سير من خلال جوال استولت عليه أنيسة الروائية، هول ما اكتشفته من رسائل داخل الجوال هو التجارة بالرقيق مباشرة أو مواربة، حين يفرض التاريخ جغرافية الهجرة المتفلشة لشعوب يُكتب مصيرها بلون المتوسّط ويرحل من يسقط في مجاهله ويختفي اللون في العدم والبقية تستسلم للقمة العيش العصية المغمسة بالذل والدم النجس في بلاد لا دين فيها ولا يربط شعبها قيم صارمة كقيم المدن والقرى بين البحر و الصحراء التي تخفي ما تخفيه والمخفي سببٌ للهجران.

التناقض بالهجرة موجود بوضوح في النصوص “الهجرة السرية” الخوف من النعوت بالتبعية لفرنسا، غموض في الربط بين الهروب من الفقر شتاء ربيع العرب والوطن البديل مع ما يضمّ من استكبار جشع رأسمالي سجن كبير ورقص مع المجون والجنون. الغربة واضحة دائمًا ومفروضة، في فرنسا غربة عن الوطن العربي وفي جنوب المتوسّط غربة عن فرنسا. ترافق الراحلين رائحة الصحراء قصص عائلاتها حكاياتها الخرافية أزقتها ووشم مختلف لكلّ شخص كأنه هويته للتعرف عليه عند الضياع، شخصية قصة وشمها أخبار جدتها حفلات الزواج في الوطن عبورها البحر مع أهلها ليوم كامل بنهاره وليله وهي بنت العاشرة مَثل لكلّ من ارتحل من وطن يسكنه المنفى والبؤس الى وطن المنفى الذي يسكن في ذل القادمين. كلام يرسل الدمع خارجًا على غير هوادة “غول يدعى وطني”. بالآلام واللوعة تطالع خلال السرد كلام موصوف بالحزن على المصير “في وطني يتكاثر الموتى ويتناسلون… لا شيء يوقفه من البحر إلى البحر ومن البر إلى البر”. الضياع وشّح الكرامة يظهران في رسائل سهيل إلى الكاتبة الافتراضية للقصة “أنيسة” ضمن حكاياته معها مدموجة بقصص وقصص من حب رحيل مآسي أهوال موت أوحياة وحلم بالكرامة التي فُرّط بها. ثورة سلاحها الكلام والفعل المجرم الذي حارب الفرح وحال دون الحياة في ملكوت الحياة عند عبارة وردت من خلال أسطر الرواية تلخص اعتقادات خاطئة ومسيرة بائدة “يدمرون كلّ شيء بقذيفة وفتوى”.

كم تستطيع العقلانية مناورة الدماء لحقنها وعدم سيلها من جديد؟ العربيات والأفريقيات فطريات تنبت من القدوم المؤلم على جزور الفرنسيات الشامخات المتغاويات فالكلّ بحاجةٍ للكلّ دون أن يرتفع الفطر فوق الورود المتشاوفة المتغطرسة. وتكّر الممنوعات مع تتابع الأسطر: ممنوع للقادمين الاستلقاء على رمال البحر والمحيط ممنوع أن يجاهروا بالحب أو بالفرح ممنوع للشمس أن تستلذ مشاركة المرور على أجساد لا حاجة لها للشمس كي تكسب السمرة. الدموع الملونة بلونين تنهمر على وطن وانتمائين وتسير في رافد الأسف الذي يصب في بحار اللاعودة . عند قراءة “قصاصة أخيرة”، “ستعلمون عندها أن الأوطان والنساء لا يمكن استرجاعها متى أغتصبت ومتى خنّاها”. نعم يا فتحية “يقتل الكبار قلوب الصغار وبذلك يضمنون للحقد الدفين ازدهارًا وديمومة” هذه خلاصة قصة شيماء وأنطوش والحقيقة التقليدية من أوّل وطن الأصل إلى آخره وطن لا يحتاج الزواج فيه إلى الحب لكنه يحتاج إلى العذرية. تجد في لجج الصفحات الخيط الرفيع لتحول الفرنسيين إلى إرهابيين والتحاقهم بالجحافل القاتلة في دولة العراق والشام.

هدير رياح حاملًا معه كمًا هائلّا من الأسئلة عن الجيل الجديد المهّجن بين أشقر وأسمر جيل يحس بثقل في طيات جيناته من إنتمائين لغتين نمطي حياة دينين وعقليتين، جيل يتخبّط في أوهام متناقضة تناقد الحقيقة مع الجهل. هل هو الميلانين القابع في الجلد او في الفكر؟ وصف الكاتبة بؤس الحياة وتقيؤ باريس للراحلين إليها مقارنة مع سعادة العامل والفلاح في تونس بالرضى الذي منحه إياه ربه يجعلك في بحرالحيرة لماذا هجرالوطن والرحيل إلى المجهول؟ أليس الموت بكرامة في وطن أول أهون من مذلة الأستعباد في وطن ثان بأنتظار نهاية مأساوية محتومة.

آخر الرواية الرائعة “ما الحب إلّا للحبيب الأوّل” هل هو الميلانين أو التقليد؟ “الكتابة قدر وكلّ يحمل قدرة”، أيتها الكاتبة كُتبت عليك معاني وفُرض عليك صياغتها بحروف من ألم هجرة لوعة وارتحال إرادي قسري، كُسرت قيود الفرض وصيغت الجمل بإرادة آتية من مآسي أوطان وشعوب ورثت الهجرة بين شتاء ربيع وطن أوّل وصقيع وطن ثاني.

لا تسألوا الريح عن دروبها المتأرجحة بين الجنوب والشمال، أو عن ملاذها الأخير بعيدًا عن ظل الواحات حنين أوراق النخيل وأفياء الزيّاتين. عندما يستكين البحر بعد زبد وتستعد المراكب للارتحال كي لا يقع الراحلون في شباك ندم البقاء وما أشقاهم راحلون، كلّ هذا موصوف بإتقان من حبر رائع برواية مليئة بالحب الخجول حينًا والوقح احيانًا فتتراىء لك بين السطور جثث الحب وهيبة الأوطان المسلوبة وأحلام الموتى لأنه ليس للنيام أحلام جميلة في ظل اليقظة الدائمة.

 )الخميس 9 نوار 2019)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *