الحَصادُ في قريتي    

Views: 87

 جوزف مهنا 

إنّهُ شهرُ تموزَ يَحُلُّ أيّامَ زمانٍ مُرتَفِقًا، فيما مَناجِلُ الحَصَدَةِ قد أماطَتْ لُثُمَها، مُنضِيَةً لِلْسَّنابِلِ ركائبَ الطَلَبِ تَقْضِبُ(1) قاماتِها، فتَتَهالَكُ على سُوْقِها حُزَمًا كساها الدَّهْشُ حُلَّتَهُ رَحْلاً وراحِلة.

***

      الرجّادُ أبو طعّان، الكُهَيْلُ، يُرْهِفُ كلَّ عُوَيْمٍ للمهمّةِ غِرارَ عَزْمِهِ، راصِدًا لها الأُهبَةَ، فلا نَدْحَةَ في أمالي(2) المِهنةِ، الّتي إنِ اطَلعْتَ عليها وِفاقًا طِلْعَ مُتَبَصِّرٍ وقَعَ في ظَنَّكَ أنّكَ تَستشعِرُ في مُواضَعاتِ مُوَلِّدي الحِرفَةِ تَخَتُّمًا بالعقيقِ، وعُرْفَةً تبلُغُ حيث لا يبلُغُ فَنّ.

      إنّه لَرَجُلٌ سِوًى، على جَمامٍ من نفسِهِ رحابةَ صدرٍ، وشهامَةَ طَبْعٍ، وثُقوبَ رأيٍ يُصيبُ شواكِلَ السَداد.

يَسبُقُ العَصافيرَ في نِهاضِهِ إلى العمل.

يَعْلِفُ بعيرَهُ، يحدِجُهُ، يُورِدُهُ الماءَ، حتّى إذا وَرِمَتْ خاصِرتاهُ كِفاءً تَوَكَّلَ على الله، فيومُهُ طويلٌ شاقٌّ قَمِينٌ بكلِّ اعتناء.

***

      الرّكائبُ تستجِرُّ الركائبَ في اليوم الشّامِسِ القائِظِ، وأحمالُ الحِنطةِ تتكوَّمُ على بيادرِ الخيرِ أكداسًا وأكوامًا تَحُفُّ بها النّوارِجُ، فهي الأعراسُ “البيدريَّةُ” بلُغةِ أهلِها أُنسًا وبُشرى متى تدبَّرَها (الأساتيذُ) صِبْيَةُ الدّارسينَ بأغانيهم الشَّعبويَّةِ.. هزاراتٌ اغتَدَتْ غَرَادةُ الحناجِرِ في اللّهجةِ واللُّسُنِ تُباري رَشاقةَ الأقلامِ وعذْبَ المشارِب. صَدَحَتْ فأطرَبَتْ، وجَدَّتْ فأجزلَتْ وأحكَمَتْ، ويا طيْبَ السَّائغِ اللّذِ في أكنافِ الجنَّةِ وتباهُجِ الحلاوات. (https://whatthefab.com)

***

      وعليكَ بالـمُحاجَزَةِ بين قلبِكَ وعينيْكَ، وشَيْماءُ لاقِطةُ السَّنابِل ، يَستفِزُّكَ نَوْرُ بَهارٍ يَتَفتَّقُ على مساحِبِ خدِّها، كأنَّهُ جَذْوَةُ اللَّهَبِ، فإن كنتَ تملِكُ النَّقْدَيْنِ(3) رُضْ صِعابَها، وادلِفْ إليها دِلْفَةَ من تيَمَّنَ(4)، تَسْعَدْ بظعينةٍ خُطَّتْ بالبركارِ سبحانَ الّذي وَهبْ. ما خَطَرَتْ إلاّ وأَفْغَمَ المكانُ، وذَرَّ النَيْروزُ قَرْنَهُ، عَنبَريَّةُ النَفَسِ كأنَّكَ فَضَضْتَ لطائِمَ المِسكِ في أردانِها.

      أيُّها المارُّ بمضارِبِ شَيْماءَ السّحيقةِ من ثُغورِ حماةَ، سألتُكَ أنْ سَلِّمْ على قُمريَّةٍ أُشرِبَ قلبي حُبَّها يافِعًا ولا(5)… وكاتِمْها ذاتَ صدري ودُخلتي بأنَّني رغِبْتُ عُمري لو أدرجَتْني لُقاطَةً في حِضنِها.

***

      ويا مِذَرّةَ أبي لَأُقيمَنَّ عليكِ الحَدّ لو طَوَيْتِ عن تلك اليدِ المِعْطاءَةِ كَشْحا.

      ولن أَنسى أنّه كان أجْوَلَ أهلِ البلدةِ على مُتونِ عُرَمِ البُرِّ وأَحْذَقَهُم بِمِكيالِه.

      وإنّكَ لَتَجالُّهُ وهو يَخفِضُ جَناحَ الضَّعَةِ، لتلكَ البلَّوْريَّاتِ تَتقاطَرُ بين يديهِ في العُدُولِ، إقرارًا بِمِنَّةِ مَن أَنْشأَ وبَرَأ.

      أبي،

أيّها الـمُبارَكُ لَأَتَفَيَّـأُ ظِلالَ الرَّاحةِ،

وأتحلَّلُ من وَصَبـي إذا اعتَلَلْتُ، في ذِكرِك!

***

(1): تُقَطِّع

(2): مفردها إملاء

(3): مهر الأولى والثانية

(4): تبرّكَ

(5): أي ولا تنسى، وهو المعروف عند البديعيّين بالإكتفاء.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *