أُمّي الأرض

Views: 498

الدكتورة راغدة قربان

 

أبني مع الغَيم شروقًا لا يُشبه أيَّ شروق، يتصاعدُ مُفعمًا بسلَّة الفجر، ومعه باقة شمس، إذ نسمعُ هديلَ الرّبيع. بهدوء، أتى الرّاحل من أضلُع الشّتاء، ليرويَ الأرضَ اشتياقا من أعشاش الغِناء، بينما أريجُ الألوان يُثرثر في عودته، ليُلقيَ الصَّباحَ في فم النَّدى، ويقصَّ شوقَه للأرض. لكنْ، كيف أبعدَه البرد، حتَّى تعرَّى بساطُه، وهمدَ عليه الثَّلج؟ إنَّه طفلُ الرّبيع في الحدائق، يُلبِسُ جرحَه من أبهى الأقحوان، في شهقة القمح عند أسفلها تكتظُّ بها الأعناق. جِئتَ يا ربيعيّ بعدَ سَفَرٍ عام، تنمو بخفَّة، تراقب براعم الأرضَ بسكينة الليل، وخفيف الأنفاس.

ما أقسى الأوديةَ وغضبَ الذئاب! تُكابدُ الوجعَ بثقل الاِنتظار. أعليلٌ كان شتاؤكَ، إذ يمرحُ برحلتِه، أَم جئتَ تبوح له برجوع المطر في مُهجة الثَّمر؟ نفختَ طراوة الحُبّ الأول في صلابة المعوَل، الذي يحفرُ رجوعَ الحبيبَين؛ لأنَّ غيابَهما طالَ عنكَ. صوتُ الأرض يُلملِمُ حكايةَ طفلٍ يتمايلُ في حركاتٍ تُغويه الدُّروب، كي يُنشِدَ ويُردّدَ وراء قطرات الألفاظ سكينةُ أُمّه ونغماتُ الحنان، إذ يقول: هي أمّي، الأرض أُمّي، الطَّبيعة حِضني، تغمرني بأنامل القُبَل، فيبردُ مَرَضي وينتهي مَوتي، وأُقبّلُ وجهَها، فتجمُدُ في قلبي كلُّ الشُّرور والألَم واليأس. هي أُمّي، وأنا طفلٌ ما كبُرَ ليهدأَ، بل يُعيدُ ما خرَّبَتْه فصولُ السّنين، تُلبِسُني أُمّي مُروجَ الدّفء، وتَخيطُ منها فرحي متى حمَلْتُ الحزْنَ المضرَّجَ بالبكاء.

أمّي ما زالَتْ تحملُني، وقد كبُرَتْ، تقطِفُ لي المغيب، وتُخبِّئه في أضلُعِها كي لا أتألَّم، وأنا أتسلَّقُ صِعابَ التَّأوُّهات. هي أُمّي وربيعي ووطني، وأنا طفلتُها المتمرّدة، لا أريدُ أنْ تُلبِسَني ثوبًا، سيبتلُّ من السّنين، ويجِفُّ عند المغيب، بل أريدُ أنْ تتركَ لي وجهَها يُرفرفُ في صمودي، والثّوب الصّغير في داخلي، إذ سيبقى عُروةَ تعبِكَ، حين يشيحُ الكفنُ عند أسفل قدميك، يبرقُ مجدًا في مَذاقِ الوطن.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *