من الميلاد إلى القيامة

Views: 423

لميا أ.و. الدويهي

 

إلهي! يومَ تَجسُّدِكَ في مَغارة، سجدتُ أمامَك ببراءةِ الأطفال، أنظُرُكَ طِفلًا عَجيبًا، لامسَ قلبي بدفِء حُبِّه وغمرَ كياني بنورِ نعمتِه وأدخلني معهُ إلى خِدرِه وسكبَ في عُمقي فيضًا من أجواءٍ سَماويَّة خاطبت روحي بأقوالٍ عجائبيَّة، جعلت من كياني المذودَ الحقيقيَّ لتجسُّدِك… وكانت أُمُّكَ هناك… تُدفِقُ في عُمقي شُعاعًا من حُبِّها كي أتعلَّمَ أن أُحبَّكَ مِثلَها وعلى مِثالِها، بالوداعةِ وسلام القلب والنَّفس والتَّسليم المُطلَق لإرادتِكَ الإلهيَّة…

وها أنا اليوم، أسجُدُ أمامَك، مرَّةً أُخرى، وكانت أُمُّكَ هناك، حيثُ أصبحَت أُمًّا لي أنا أيضًا، هناك!… عند الصَّليب…

أَسجُدُ أمامَكَ اليوم، بذُهول… أينَ ذاكَ الطِّفل المُضجَع في مِذودٍ تُحيطُ بهِ الملائكةُ المُنحَدرةُ من علياء، تُرنِّمُ لهُ أجواقًا أجواق، وتُعلنُ المجدَ على الأرض؟… أَنظرُ بهاءَك، فأَراهُ مُكلَّلًا بالشَّوك، مُخضَّبًا بالدِّماء، أنظُرُ يدَيكَ فإذا بهما مُسمَّرَتَين على عارضةِ الصَّليب ورجلَيكَ ثابتَتَين على قاعدتِهِ وكأنَّك عُلِّقتَ بين السَّماءِ والأرض، ملِكًا على عرشِ الألم، على صليبٍ سيَغدو صليبَ الظَّفر، علامةً للأزمنة… وقلبُك؟!… قلبُكَ مُنتَفِخٌ من شِدَّةِ الآلام وكَثرَتِها، آلامُ الحُبِّ الذي هو بذاتِهِ رفعَكَ على الصَّليب، حتَّى تَجذُبَ إليكَ كُلَّ المُحبِّين والمُختارين…

لقد صِرتَ أكثرَ عُجَبٍ… لقد ولجتَ صُلبَ الحُبِّ الذي به كوَّنت الكون… إلهي!… إنَّك لم تَخشَ الغوصَ في عُمقِ الدَّيجور حتَّى يُحيي هذا الحُبُّ كُلَّ الضَّالِّين التائهين، الذين يبحثون عن ذواتِهم فلا يَجدونَها إلَّا فيك…

إلهيّ!… ما أَعظَمَك!… خاطبَ حُبُّكَ كُلَّ ما ضَبطتَه بإيقاعِ خَلقِكَ، فانحنى الكونُ أمامَ مجدِكَ وأدَّى لكَ العِزَّة التي تَليقُ بجلالِك…

كُلُّ مَخلوقاتِكَ قد عَرَفَتْكَ، وأنا؟!… لم أعرف أنَّني في كُلِّ مرَّةٍ أبتعدُ يَسيرًا عن وَهجِ حُبِّك، أرَفَعُك على خشبةِ العارِ مُجدَّدًا، وأطعَنُ قلبَكَ بحَربةِ الموت…

إلهي!… لِمَ يَصعُبُ عليَّ أن أتجرَّدَ من ذاتي لألِجَ فيكَ وأُصبحُ فيكَ كما أنت في الآب والآبُ فيك؟!…

إرحمني يا أيُّها المَصلوب، حرِّرني من كبريائي، خلِّصني من تعاظُمي… فأنا أَشتهي أن أتَّحِدَ بكَ وأكونَ بكُلِّيَّتي لكَ، كما حينَ دَعَوتَني لحظةَ غَسلي بماءِ العماد، حين سَكَنْتَني ولم تُفارِقني، وجَمَّلتني ببهاءِ مَجدِكَ الأزليّ… وأنا؟… ماذا فعلت؟ تَباعدتُ عنَكَ وولجْتُ بإرادَتي دَيجورَ المَوت، مَوت الروح، بالخَطيئة…

إلهيّ!… عندَ أقدامِ صليبِكِ أَسكُبُ نَفسي أمامَك راجيًا أن تَشملَني برحمتِك وتسمَحَ لي أن أَستقِرَّ في جَنبِكَ المفتوح فتنالَ منكَ روحي القوت، فتحيا بِك…

إلهي!… قد سجدتُ أمامَك في مَغارة، ثمَّ عندَ الصليب، أنتَ الذي تمجدتَ وحطَّمتَ أبوابَ الجحيم، بقيامتِك…

إلهي!… ها قد عدتُ لأسجدَ أمامَك، حيثُ واعدتَني وانتظرتني مُتخفِّيًا تحت أعراضِ الخبز والخمر، مرَّةً أخرى لأجلي… فباتِّحادي بكَ، تتعانقُ روحي بروحِك، ويتَّحِدُ جَسدي بجسدِك، وأُصبحُ لكَ…

لقد سلكتَ منذ الولادة حتَّى القيامَة، الدَّربَ الذي يضعُني على الطَّريق، لأكتشفَ الحقَ وألجَ إلى الحياة التي هي بك… فيا مَصلوبيَ المعبود، القائمَ من القبور، الحالل في النُّفوس، أقِمنا وأحيينا، أقم لبنانَنا، المتوشِّح بمَجدِك، الذي وطِئَتْهُ قدماك وانتظرَتكَ على أرضِهِ أُمُّك… أنزِلْهُ بقُدرَتِك عن صليبِ الهوان، إرفَع يمينَك بوجهِ الشرّ الذي يُحاربُه وأَحْلِل مجدَك على أرضه ولا تَدَعْنا نَغفِلُ عن سرِّ حُضورِكَ على أرضِ قديم الأيَّام، فأنت قد جعلتَهُ قلبًا لكَ وتكنَّى أرزُه باسمِك… فارفع عنَّا الغضبَ وافتَحْ عيونَ قلوبِنا للنِّعمةِ التي كلَّلَتْ أرضَهُ ورفَعَتْ أُمَّك سيِّدةً له… فأشرِق علينا بأنوار مجدِ قيامتك لأنَّنا أبناءُ هذه القيامة التي تُعلنُ أنَّك المسيحُ القائمُ من بين الأموات والذي بهِ نحنُ نؤمن، وبهِ ومعه بدأنا إعدادَ طريق الملكوت التي فتَحَتْها أمامَنا آلامُك المُحيية

۲٤ /٣ /۲٠۲١

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *