عهد ترامب “الأعلى” مديونيّة للولايات المُتّحدة

Views: 59

عدنان كريمة*

إذا كان ارتفاعُ حجْم الدَّين سنةً بعد سنة، سِمةً “تاريخيّةً” من سِمات الاقتصاد الأميركيّ منذ تأسيس الولايات المُتّحدة، فإنّ عهد الرئيس دونالد ترامب (2017 – 2021) سجَّل رقماً قياسيّاً، مُحمِّلاً الخزينة ديوناً إضافيّة بأكثر من 8 تريليون دولار، حيث بلغَ تراكُم الدَّين العامّ نحو 28 تريليون دولار. وقبل نهاية عهده، أَعلنَ ترامب عن حزمة مُساعدات جديدة بقيمة 900 مليار دولار، أقرَّها الكونغرس في 21 كانون الأوّل (ديسمبر) 2020، لمُساعَدة المُتضرِّرين من تداعيات جائحة “كورونا”. ومع بداية العهد الجديد في كانون الثاني (يناير) الماضي، أَعلنَ الرئيس جو بايدن عن خطّةِ تحفيزٍ اقتصاديّة بقيمة 1.9 تريليون دولار. وفي ضَوء نتائج انعكاس سلسلة من المؤشّرات السلبيّة والتطوُّرات المُرتقَبة، تبرُز أهميّة السؤال المطروح: إلى أين سيصل حجْم الدَّين الأميركيّ العامّ في نهاية ولاية بايدن؟

ودَّع الأميركيّون بقلقٍ شديد ولاية دونالد ترامب، بـ “أسوأ” سنة ماليّة في تاريخ الولايات المُتّحدة، وقُدِّر العجز في أيلول (سبتمبر) الماضي (نهاية السنة الماليّة)، وفق مَكتب الميزانيّة في الكونغرس، بـ 3.13 تريليون دولار، بما يشكِّل 15.2% من الناتج المحلّي الإجمالي، بسبب الفجوة بين ما أَنفقته الدولة بنحو 6.55 تريليون دولار، وما حَصلَت عليه 3.42 تريليون دولار. ويُعادِل هذا العجز أكثر من 3 أضعاف ما كان عليه في العام 2019، وهو أعلى مستوىً له منذ الحرب العالَميّة الثانية. الأمر الذي يَعكس ضخامة الإنفاق الحكومي لمُواجَهة التداعيات الاقتصاديّة لوباء “كورونا”.. وكنتيجة طبيعيّة لذلك، ارتفعَ حجْم تراكُم الدَّين العامّ ملامساً مستوياتٍ قياسيّة خطيرة لم يعرفها الاقتصاد الأميركي منذ العام 1945.

الأخطر من ذلك، أنّ العجزَ استمرَّ خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام المالي الحالي (تشرين الأوّل/ أكتوبر 2020 – كانون الثاني/ يناير 2021)، مُرتفِعاً بنسبة 89% ليصل إلى 736 مليار دولار، إذ صعدت الإيرادات واحداً في المئة إلى 1.19 تريليون دولار، بينما قفزَ الإنفاقُ 23% إلى 1.92 تريليون دولار، مُتأثِّراً بأسوأ أداءٍ اقتصاديّ، حيث سجَّل العام الماضي انكماشاً بأقسى وتيرة 3.5%، وفقدَ ملايين الأميركيّين وظائفهم ليقعوا في براثن الفقر. (swagatgrocery.com)

كما سجَّلت سوق العمل أضخم معدَّل بطالة وصل نسبة 10%، وبلغَ عددُ الذين يتقاضون مخصّصات البطالة 18.3 مليون أميركي. حتّى أنّ النّاتج المحلّي الإجمالي فَقَدَ الزخمَ للتعافي من جائحة “كوفيد-19” في ظلّ تجدُّد تنامي الإصابات، ونضوب مُساعدات الحكومة البالغة نحو 3 تريليون دولار. وإذا كان بعض الاقتصاديّين توقَّع مزيداً من التباطؤ في الربع الأوَّل من العام الحالي، قبل العودة إلى وتيرة التسارُع في الصيف المُقبل (مع تبنّي تحفيزٍ إضافيّ)، فإنّ رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول رأى أنّ الاقتصاد الأميركي بات بعيداً جدّاً عن بلوغ سوق عمل “متينة”، وأنّ تجربة فترات الركود السابقة تُشير إلى أنّ التعافي قد يستغرق سنواتٍ عدّة.

الدَّين سِمةٌ تاريخيّة

إذا كانت الولايات المُتّحدة (كدولة واحدة) تُعَدّ في المرتبة الثانية لجهة أكثر دُول العالَم “مديونيّة” بعد الصين، فإنّ ارتفاع هذا الدَّين سنويّاً أصبحَ سمةً من سِمات الاقتصاد الأميركي منذ تأسيسها؛ وقد تبيَّن من الإحصاءات التاريخيّة أنّ أوّل ارتفاعٍ كان في العام 1812 عقب الحرب الأهليّة، وقد وصلَ حجمُه إلى 66 مليون دولار في العام 1860، ثمّ قفزَ إلى مليار دولار في العام 1863، وإلى 25,5 مليار دولار خلال الحرب العالَميّة الأولى، و260 ملياراً في العام 1950، وإلى 909 مليارات في العام 1980، ومن ثمّ قفزَ إلى 6 تريليون دولار في العام 2000. وفي ولاية الرئيس جورج بوش الابن، زادَ حجْمُ الدَّين إلى 9 تريليون في العام 2007. أمّا في عهد الرئيس باراك أوباما بين عامَيْ 2008 و2016، فقد قفزَ إلى نحو 19,8 تريليون دولار.

وفي إطار الاستغلال السياسي لمَخاطِر هذا الدَّين، تُمكن الإشارة إلى أنّه قبل أن يتسلَّم الرئيس دونالد ترامب الحُكم، حذَّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتن أكثر من مرّة من أخطار تفاقُم الدَّين الأميركي، وحمَّلَ الولايات المُتّحدة مسؤوليّة الأخطار التي يتعرَّض لها الاقتصاد العالَميّ، جرّاء ارتفاع معدّلات ديونها الخارجيّة. كذلك حذَّرَ صندوقُ النقد الدولي من حدوث أزمة ماليّة عالَميّة، ودقّ ناقوس الخطر من “اصطدام باخرة النموّ الاقتصادي بجبل جليد الديون”. وترى وكالة الطّاقة الدوليّة أنّ العالَم يُواجِه صعوباتٍ كبيرة في ظلّ مستويات ديون مُفرِطة يُمكن أن تؤدّي إلى فرْض أعباءٍ على النموّ، حتّى في غياب الأزمات الماليّة، حيث ينتهي الأمر بالمُقترِضين المُثقَلين بالديون إلى خفْض الاستثمار والاستهلاك.

واللّافت في هذا المجال، أنّ التطوُّرات السلبيّة جاءت مُعاكِسة لتوقُّعات ترامب المُتفائلة عندما تسلَّم مَنصبه في كانون الثاني (يناير) 2017، حيث كان الدَّين أقلّ من 19,8 تريليون دولار، وقد وعدَ الأميركيّين في حينه، أنّ بإمكانه تسديده بسهولة خلال ثمانية أعوام، مع العِلم أنّ مدّة ولايته هي أربعة أعوام، وكأنّه بذلك كان يروِّج لتجديد ولايته مرّة ثانية ليَترك الحُكم في العام 2025، من دون أن يورِث خَلفه ديوناً ثقيلة، كما فعلَ سلفه باراك أوباما. ولكنّ جهوده اصطدَمت بالإنفاق الكبير لمُواجَهة تداعيات “كورونا”؛ الأمر الذي أَسهَمَ في ارتفاع حجْم الدَّين إلى نحو 28 تريليون دولار، وهو عبء ثقيل جدّاً أَورثه لخليفته جو بايدن، وخصوصاً أنّه مع نموّ الديون تزداد المَخاطِر. والأخطر من ذلك أنّ جزءاً كبيراً منه “مُتعثِّر”، وقد أَعرب صندوق النقد عن قلقه من بلوغ القروض “العالية المَخاطِر” مُستويات خطيرة عالَميّاً، (نحو 1.3 تريليون دولار)، وهو مُطابِق لمُستواه قبل أزمة العام 2008، مع العِلم أنّ 70% منها موجود في الولايات المُتّحدة.

وعلى الرّغم من إبقائها التصنيف الائتماني للولايات المُتّحدة في أعلى درجة “إيه إيه إيه”، خفَّضت وكالة “فيتش” للتصنيف الائتماني درجةَ الآفاق الاقتصاديّة من “مُستقرّة” إلى “سلبيّة”، على خلفيّة “التدهوُر المُستمرّ للماليّة العامّة. وشدَّدت الوكالة على “أنّ العجز المالي كان في مَسارٍ تصاعديّ قبل بداية الصدمة الاقتصاديّة” التي سبَّبها تفشّي “كورونا” المُستجِدّ، ومُشيرة إلى أنّ الدَّين الأميركي، هو الأكبر بين الدول التي تحظى بأعلى تصنيفٍ ائتماني، وتتوقَّع أن تتجاوز نسبته 130% من إجمالي النّاتج المحلّي بحلول العام 2021. وتوقَّع خبراء في دائرة الميزانيّة في الكونغرس أن يتضاعف حجْم الدَّين ليتجاوز مستوى 202% من النّاتج المحلّي الإجمالي حتّى العام 2051، وأشار هؤلاء الخبراء إلى أنّ الديون المُتزايِدة قد ترفَع من مَخاطِر أزمة الميزانيّة، ونموّ التضخُّم، وتقويض الثقة بالدولار الأميركي.

سَندات الخزينة

باستثناء فترتَيْ الركود والحرب العالَميّة الأولى، فإنّ الخفوضات الضريبيّة الهائلة التي مَنحها الحزبُ الجمهوري لأصحاب المليارات والشركات في العام 2017، أدَّت إلى أعلى عجْزٍ ماليٍّ في تاريخ الولايات المُتّحدة، من دون أن تتحقَّق وعود رفْع مستويات الاستثمار والنموّ؛ هذا في وقتٍ تشهد فيه الاستثمارات الدوليّة تراجُعاً في سندات الخزينة التي بلغت في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي نحو 7.068 تريليون دولار. ومن الطبيعي أن يرتبط تطوّرُها سلباً أم إيجاباً، بطبيعة علاقات واشنطن مع الدول المُكتَتِبة فيها، وخصوصاً الصين التي تأتي في المرتبة الثانية بعد اليابان، وحصّتها 1.074 تريليون دولار، وهي تُهدِّد بتخفيضها تدريجاً في ظلّ تدهوُر العلاقات بين البلدَيْن.

ويبدو أنّ تصريحات جيروم باول لتهْدئة المُستثمِرين بشأن ارتفاع تكاليف الاقتراض أَخفَقت في تحقيق هدفها. مع العلم أنّه كرَّر “التزامه بالحفاظ على سياسةٍ نقديّة بالِغة التيسير لحين قطْع الاقتصاد شوطاً طويلاً جدّاً على طريق التعافي”، ومُشدِّداً على أنّ الزيادة في العوائد “ملحوظة”، لكنّه قال: “إنّ مَوجة بَيع سندات الخزينة لا تُخِلّ بالنّظام”، ولا يَتوقَّع “أن تَدفع أسعار الفائدة طويلة الأمد لمُستوياتٍ شديدة الارتفاع للدرجة التي تدفع المجلس الفيدرالي للتدخُّل بشكلٍ أكثر قوّة”.

ولوحظ أنّ الأمرَ الذي زادَ من توقُّع الاضطّراب وزيادة السيولة، إعلان وزارة الخزانة الأميركيّة عن طرح دفوعاتٍ جديدة من السندات طويلة الأمد، من فئات 3 و10 و30 سنة، بقيمة إجماليّة تبلغ 120 مليار دولار في آذار (مارس) الماضي، فضلاً عن سندات باعتها في شباط (فبراير) بقيمة 120 مليار دولار. وفي الوقت نفسه ضخَّ المُستثمِرون (وفق بنك أوف أميركا) مليارات الدولارات في الأسهم شديدة الارتفاع، في ظلّ اضطّراب سوق السندات الجارية، والتي أدّت إلى خسائر حادّة في “وول ستريت”، ودشَّنت “حقبة جديدة من التقلُّب”.

قوّة الدولار المُعَوْلَم

إذا كان من المعروف عالَميّاً أنّ قوّة النقد تنبع من قوّة الاقتصاد، فإنّ هذه المُعادَلة ليست صحيحة دائماً، ومثال على ذلك أنّه سبق للدولار أن تراجَعت قيمته خلال فترة 12 سنة (2002 – 2013 ) بنسبة 40% مقابل الفرنك السويسري، و30% مُقابل الينّ الياباني، ونحو 25% لليورو الأوروبي، في وقتٍ كانت فيه أوضاع الاقتصاد الأميركي، وما زالت، أفضل نسبيّاً من الاقتصاد الأوروبي الذي يُعاني من أزماتٍ ماليّة مُتعدِّدة، حتّى أنّ بعض دُوله فاقَت ديونُها نسبة 175%، أي بما يتجاوز “القاعدة الذهبيّة” التي حدَّدها “ميثاق ماسترخت” بمعدّل 60%.

لا شكّ في أنّ النفوذ السياسي ينعكس على النقد، الذي تَبرز قوّته ارتفاعاً في مستوى المعيشة، ولوحظ أنّه حتّى بدء الحرب العالَميّة الأولى كانت بريطانيا الأقوى وكان نقدها الأهمّ، ولكنّ “القوّة السياسيّة” انتقلت بعد ذلك إلى الولايات المُتّحدة، حيث أَصبح الدولار هو النقد العالَمي الأهمّ، وبعد الحرب العالَميّة الثانية أصبحت “دولة اقتصاديّة عظمى”، واستمرَّت كذلك لسنواتٍ عدّة إلى أن أَصبحت دولةً عاديّة بسبب الديون والأخطاء وضعف النموّ والانفلات السياسي والعسكري العالَمي، وما رافقَ ذلك من حروب واضطّرابات أمنيّة، بدءاً من الصراع العربي – الإسرائيلي، مروراً بحروب فيتنام والبوسنة والهرسك وأفغانستان وإيران وليبيا، حتّى الحرب على الإرهاب في سوريا والعراق.

وباعتبار الدولار عملة دوليّة قويّة، فهو يمنح الولايات المُتّحدة نفوذاً ماليّاً وسياسيّاً كبيراً، وقد وصفه الخبراء بأنّه “سلاح قاتل” يُمكن استخدامه في الحروب الاقتصاديّة، وقوّة ضغط في المَعارِك العسكريّة، على الرّغم من أنّ هذا السلاح بدأ يُواجِه مُنافَسةً استراتيجيّةً من عُملات أخرى تسعى إلى اقتسام النفوذ معه.

***

(*) كاتب ومُحلِّل اقتصادي من لبنان

(*) مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *