عمر فاخوري… أديب من عصر الحب

Views: 19

وفيق غريزي

عصر عمر فاخوري هو عصر الحب من ينابيع التراث الموروث العظيم، وعصر نقاهة الفكر العربي المريض، في مناخات الفكر في العالم.

 وقارىء عمر فاخوري يحسًه نهضة اختزنت لنفسها من تراثها الجيد، وملاًت صدرها بما هب عليها من رياح ثقافات الأمم والشعوب، ونظرت الى الحياة والكون على انهما دولة كل أدب هو من مستلزمات طبيعة البقاء.

 و “عمر فاخوري في حياته اكبر منه في أدبه، بحر حوًلت شمسه ماء نفسه غيمًا، ليشرب الناس ماء التحوًل”.

 

بيئته وبدايته

انطلقت بيئة عمر فاخوري، من حدود بيت صغير، محب للعلم، لتتسع وتتشعًب بفضل حسًه الاجتماعي والسياسي الذي تعدًى تخوم بلاده، وثقافته الواسعة والشاملة التي اختزنت لنفسها الكثير من آداب الشعوب، وايمانه بالانسان الذي تجمعه به اهداف انسانية واحدة. 

وكما راًى عمر فاخوري لبنان بلدًا لا ينفصل مطلقا عن “البيئة العالمية”، فقد راًى نفسه كائنا لا ينفصل مطلقًا، عن هذه الجماعة البشرية التي تشكل بيئة تضم الشعوب في العالم باًسره. وبهذا تكون بيئة عمر فاخوري بيئة عالمية، حافظت على ملامح بيئتها المحلية التي تشكًل، وملامح البيئات العربية، الشعوب العربية، والعالم العربي.

 

أدب عمر فاخوري

سواء شاء الاديب أم أبى، فان أدبه، أيًا كان لونه، إنما هو فعل اجتماعي لا غنى له فيه عن قارىء. فكل ادب “إنما هو فعل يصبح اجتماعيًا ما ان يصيب منه قارىء، او يرغب فيه سامع، وان اكثر الادباء انعزالا، واوفرهم عن مشاغل الناس بعدا، ممن اقاموا بينه وبين الانسان جدارا من القطيعة، لا بد لهم من قارىء يصلون اليه من على منبر نشر وقول”. 

في مسيرته التاريخية، لم ينقطع اهتمام الانسان بالعدالة الاجتماعية والحرية والكفاح في سبيل ما هوى قيم خير وحق وجمال. ولقد اكًد لنا المجتمع الانساني في حلقاته الكبيرة والصغيرة، أنه لا بقاء لأدب ما لم يتخذ لبقائه قضايا الانسان مادة له في كل عصر، فيقف الى جانب ما هو حق، ويتعدًى تصوير ما هو كائن الى تصوير ما يجب ان يكون. 

ومما لا شك فيه أن عمر فاخوري، قد ادرك مسوًولية الأديب، كما ادرك حقيقة الابراج، حيث يقضي اصحابها اعمارهم وهم في عزلة طلسمية، منهمكين في تلفيق المعاني وتزويق المباني. ويوًكد موًرخو سيرته أن عمر: “لم يعش يومًا في عزلة طلسمية، فقد عاش ومات أديبا مليئا بالحياة، وان نتاجه القليل الغني انما يدل على تطوًر طبيعي منذ كتابه “الباب المرصود” حتى كتابه “الحقيقة اللبنانية”. ولعل الباب المرصود كان نتيجة أدب بدا ثوريا في “كيف ينهض العرب” وتوقف ردحا من الزمن يعاني مرارة الخيبة، والحزن العميق، اثر اعدام رفاق له.

 

اللجوء الى الأدب

ان عمر فاخوري، الذي عانى من مرارة الخيبة، بين بداية ثورية، ونهاية ثورية، قد حمًل أدبه النقد، والسخرية، والوصف البديع، والتحليل العميق، لكثير من قضايا الفن والأدب والاخلاق، معبرا في كل ذلك عن مرارة الثوري الهارب من الياًس، المتسائل ابدًا عن كيفية الخلاص من مفاسد الناس ومساوئهم، ومن الحياء الكاذب، والرياء الاجتماعي، ومن صكوك الظلم وبشاعة الواقع.

 يقول الشاعر جوزف حرب: “إن من يتعمًق في باب عمر فاخوري المرصود يجد أن الابراج العاجية التي حبس بعض الأدباء انفسهم فيها، أن هذه الابراج براء من أدب عمر براءة عمر منها”. فلقد كان عمر فاخوري في خيبته المرًة، ثوريا، ينتقد، ويثور، ويتهكًم، ويسخر، ويعالج فك هذا الرصد مغالبة مشيئة ما اسموه بالقدر، رافضا قانون واقع ابدي تعجز أن تغيًره مشيئة قدرة الانسان.

 شن عمر فاخوري حربا عنيفة على الجهل والضلال لمعرفته أن في لبنان شيئا من المنازعات اوجدته مصالح الضاربين بلبنان عرض الحائط. وهذا ما حداه الى القول “لا يمكن ان يكون لبنان لاي دين من الاديان، او لمذهب من المذاهب…لا يصح لبنان أن يكون إلا وطنًا للجميع على السواء “. هذه حقيقة يجب ان يعيشها الشعب اللبناني، وكل من وجد في قدميه عزما يخطو به في طريقه الى بيت الشعب. 

ويرى عمر فاخوري أن ابليس وحده يعرف كيف يفاجىء بالضلال… وبالاصوات. هذا كان صوت عمر مدوًيا. تطرق فاخوري في أدبه الى مساًلة ابعاد الأدب عن الشعب وعن الساح، بحيث حسب راًيه ان قضية “الفن للفن” وقضية الأدب الانعزالي، هي القضية التي ياًمن بواسطتها الحكًام جانب الأدب في أصل حقيقته الاجتماعية. 

لقد اختار عمر فاخوري الوقوف الى جانب قوى الخير. وكان أمام الحياة الذميمة شاهد اتهام، اذ “لا يستطيع الفنًان الحق ان يشهد الزور”. وشبًه “النزعة الانسانية الى التقدم بالقصص التي تحترم ذاتها، فلا يفوز في مراحلها سوى الخير والحق، سوى الترقًي على الرجعية”. وان هذه النزعة الانسانية العميقة هي الطريق الصحيح الى امكان تحقيق غير ما هو كاين، من خلال النزاع المستمر بين قوى التقدًم وقوى التحلًف. فسنًة الوجود، أولا واخيرا، تطوًر دائم، وتحوًل مستمر، وصيرورة ابدية، وهل الانسان غير موًلف هذا التاريخ، وهل التاريخ غير هذه السنًة؟

للاديب عمر فاخوري صفحات في النقد الادبي، معظمها في كتابيه “الباب ال مرصود”، و”الفصول الاربعة”. وهي ان دلًت على شيء، فانما تدل على عمق ثقافة صاحبها، وذوقه الشفًاف، وراًيه في ان الأدب والحياة عالمان لا انفصام بينهما: “اما الثقافة فتكفي دلالة عليها”. اذ يقول: “ان الكتب التي طالعتها هي اعظم حوادث حياتي”. واما الذوق فهو عنده نتيجة معرفته العميقة بسًر الكلمة وعبقريتها، وقدرته السليمة في الكشف عن مواطن الدمامة والجمال، وانطباعه المفطور على حس جمالي مرهف، وعاطفة مجلوًة متقدة، وعقل نيًر. واما الراًي الذي مفاده أن بين الأدب والحياة تلازما مستمرًا، فقد قاس فاخوري به كل عمل أدبي، وكان لديه المحك الوحيد في مجال النقد والتقويم، فوزن فيه، واختطه نهجًا، وجسً به نبض الأدب في زمنه، فزاعه منه جثة ممسوح عليها بالمساحيق، مسجاة بنعش من زهور. 

وبالنسبة الى أدب الحياة، ففي زمن قلًت فيه بركة الأدب، فرفخ على غير ضمير، وجد فاخوري أن في حنين عمر الزعني شاعر الشعب، صورة صادقة عن الأدب الحي، صورة حملت الوان الحياة والطبيعة، وركزت في اطار من ثقافة النقد والاحلام، ولا باًس عليها ان كانت لغتها اللغة العامية الزاخرة بالنكات الطريفة، والحقائق الجارحة، والتراكيب الطبية الماًنوسة. 

ومن ثم فان فاخور يتعرض باًسلوبه اللاذع لشعراء عصره الذين يغيرون على تراثنا الشعري، وياًخذون منه ابكار معانيه ومبانيه سبايا بلا قتال، وينعتهم باللصوص الذين يتسللون في الليل خفية، بين اضرحة موحشة، يغنمون منها امتعة الموتى. ويرى ان التقليد والصنعة والبيانيات قد قتلت الصدق والبراعة والطبع، لكاًنه الهرم ذو الضخامة في القاعدة يدق ويدق حتى يصير راًسه كالمسلًة فيضمحل. 

ولم يجد فاخوري في ادباء عصره من تفجًر ادبه من ينابيع العصر. جلً ماهناك تقليد اعمى، وعكاكيز، وعجائز، واكاذيب مقرًرة في أدب لا يفتاً يرجع ترجيع الطير الوحيد النغم… فان ادبنا كما يقول فاخوري “لا يصوًر حياتنا الا كما تصوًر المراًة المصدية العروس او المراة المجلوة. اما المراًة، فهي في الشرق والمجتمع الذكوري محجوبة عن الأدب والحياة معا، وهي في أدبنا ظل الظل وخيال الخيال”، فهي لا تزال حقائق عنبر، وقامة كغصن البان، وردفا كالكثيب، تشابيه جاهزة، هان مطلبها فمجًها الذوق. ويلوي فاخوري عن غضب ” الاخلاق” وغيظ “الحلال والحرام” ويدعو الى وصف المراًة كما هي في الحياة على انواعها، وفي جميع احوالها، وفي المباح والمنكر على حد سواء.

 

اًسلوبه وفنًه

عرف عمر فاخوري بكتابة اسلوبية فنية سليمة. وعن فنًه فان ناسك الشخروب ميخائيل نعيمة قال: “وذوقه ارستقراطي، برغم تبنيه قضية البروليتاريا”، فمن ترى يقول ان البروليتاريا لا تفهم الأدب الجيد؟ ان البروليتاريا تفهم من الأدب، الذي كان يعنيها وهو أدب الخلاص، أدب الابطال الواقفين بجانب الضعفاء، ادب الثابتين في تربة التاريخ قادة في سبيل الشعب، ادب الحب والخبز، لاًنها حرمت لذة الخبز والحب. 

ان اسلوب عمر فاخوري، نسيج وحده، يلتقي واسلوب الجاحظ على اكثر من صعيد، فكلاهما اضحك، وكلاهما تهكم، او سخر. الا ان الجاحظ اذا اضحك، هدف الى الضحك لا غير، اما عمر فهو، ان اضحك فانما هدف الى شيء من الحزن والألم، او الى تزويق فكرة او راًي. (www.fasecolda.com) ولعل الفرق بين الاثنين انما كان من خلال نظرة كل منهما الى الكون والحياة. 

اسلوب عمر فاخوري طريف قوي، وقلما تجتمع القوة والطرافة. وهو تميز بغنى الذهن، وسعة الاطلاع، ورقة الحاشية، وخفة الظل، فكل ما يقوله ينبىء انه قراً كثيرا، واجتهد كثيرا، وفكًر في معظم الامور الحيوية، وانتهى من تلقاء ذاته من دون اي ايحاء او اكراه، الى الاراء يسردها ويعرضها، ويدور حولها ان في الادب، وان في الاجتماع، وان في السياسة.

 برع عمر فاخوري بكتابة المقالة الاجتماعية، والنقدية، والسياسية، مدركا ان المقال كاًي فن قلمي مختلف عليه من حيث ابعاد مراميه، وتعداد تحديده. ولعلً اقرب تحديد له بسيط على دلالة، شامل رغم التنوًع، وهو انه فصل قليل الصفحات، مختصر الافكار، يدور على مسائل واراء تعالج متاًثرة باسلوب كاتبها. ولعل ايضا افضل المقال ما كان منه ابداعا. المقال صبً فيه فاخوري اغلب ارائه، حيث ابرزت سطوره ابدع افكاره واعمقها. وقد حمًله خصائص اسلوبه التي هي صور رائعة، غنية الشكل، عميقة الدلالة، مسلوخة من الواقع ذاته. 

ان اكثر ما خطه فاخوري مقال حمًله الموضوع في التصميم، والذات في التعابير والصور، وخرج به على العبرة الواعية، اجاء الذوق تكلًفا بها ام عفوا، وهو عنده ابتداع لا اتباع…

 

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *