فيليب جاكوتيه.. رحيل آخر أعمدة الشعر الأوروبيّ

Views: 151

ترجمة: حسّونة المصباحي*

 

في اللّيلة الفاصلة بين 23 و24 شباط (فبراير)2021، رحلَ عن هذه الدنيا الشاعر السويسريّ الفرنكوفونيّ فيليب جاكوتيه Philippe Jaccottet، المولود في العام 1925، عن عُمرٍ ناهَزَ الـ 95 عاماً. ويُجمِع كِبار النقّاد على أنّه “شاعر نادر”، وله خصوصيّته الإبداعيّة كواحدٍ من كِبار الشعراء الذين حدَّدوا وجهة الشعر الفرنسيّ والأوروبيّ بعد الحرب العالَميّة الثانية، لجهة مَرْكَزة تطوُّرهِ وفتْحِ آفاقِ تحديثه.

إلى جانب الشعر، أَصدر فيليب جاكوتيه، المولود في مدينة لوزان السويسريّة، العديدَ من الدراسات النقديّة المُهمّة. كما أنّه نَقَلَ إلى اللّغة الفرنسيّة ملحمة “الأوديسّة” لهوميروس، ورواية “رجل بلا خصال” للنمساويّ روبرت موزيل، والأعمال الكاملة لكبير شعراء ألمانيا فريدريش هولدرلين.

وكان جاكوتيه قد تركَ لوزان في العام 1946 ليستقرّ نهائيّاً في باريس، ويرتبط فيها بعلاقاتِ زمالةٍ وصداقةٍ مع كِبار الشعراء والفنّانين أمثال فرنسيس بونغ، وهنري تومايس، وأندريه دي بوشيه وغيرهم.. وغيرهم.

من أهمّ أعماله الشعريّة نذكر: “دروس” (1966)، “أهواء” (1967)، و”أناشيد من الأسفل” (1973).

هنا حِوارٌ معه أَجرته “المجلّة الأدبيّة” الفرنسيّة في عددها رقم 289 الصادر في حزيران (يونيو) 1991.

فيليب جاكوتيه: اسمحوا لي قبل كلّ شيء بأن أجهد نفسي لكي أجيب عن الأسئلة، فأنا لا أحبّ أن أرى نفسي في المرآة. ليس تواضُعاً، وإنّما خشية أن أَكتشف لديّ الكثير من العيوب. لذا قد أجيب بشكلٍ سيّىء عن بعض الأسئلة، أو أنّني أجيب عنها باختصار.

نحن نعرف رفاقكَ الأقرب إلى نفسِكَ، ونَعلَمُ أنّكَ تعتبر أعمال هولدرلين أساسيّة، لكنْ ماذا كانت قراءاتك الأولى التي أثَّرت فيك؟

– فيليب جاكوتيه: التهمتُ الكثير من الكُتبِ وأنا طفل، إلّا أنّ هناك كِتابَيْن لا يزالان حاضرَيْن في ذاكرتي: “ميشال ستروغوف” لجيل فارن Jules Verne في طبعة “هارزال”، لأنّ الرسوم جَعلتْني أتعلّقُ بهذا الكِتاب، وأيضاً ببطل القصّة. والضابط النبيل والشُّجاع يلتحق في قلبي بـ “أتوس”، الأقرب إلى نفسي من “الفرسان الثلاثة” لألكسندر دوماس. الكِتاب الآخر الذي احتوى على رسومٍ مُستوحاة إلى حدٍّ ما من المُنَمْنَمات الفارسيّة، غير أنّها كانت أقلّ جمالاً من رسوم كِتاب جيل فارن، أَسهمت هي أيضاً في أن تؤثِّر مُختاراتٌ من “ألف ليلة وليلة” على فكري كطفل. من خلال الكتابَين، اقتحمَ الشرقُ وروسيا مُخيّلتي وأحلامي بقوّةٍ تكاد تكون مغناطيسيّة.

وكنتُ قد تحدّثتُ في لقاءاتٍ سابقة عن الشاعر والمُصوِّر السويسريّ غوستاف رود Gustave Roud، وعن أعماله. وكنتُ قد التقيتُ به وأنا في سنّ السادسة عشرة. والحقيقة أنّني كنتُ أقرأ وأكتب الشعر منذ الطفولة. لذلك كنتُ مُتهيّأً أكثر من غيري وأنا في الرّابعة عشرة من عمري للاكتشافات التي قادني إليها مُعلِّمٌ مثاليّ في اللّغة اليونانيّة القديمة. وبين سنّ الخامسة عشرة والسابعة عشرة، لمعت في أفقي نجومٌ ساطعة مُجتمِعة، أعني بذلك أسخيلوس، وكلوديل، وريلكه، ورامبو، ومالارميه، وبودلير، ودستويفسكي. واليوم لم تعدْ لي الشراهة نفسها. وقراءاتي، أو إعادة القراءة، لم تعُدْ خاضِعةً لبَرنامج محدّد. وأنا أعود دائماً إلى دانتي، وإلى سرفانتيس، وإلى بودلير. وأنا أكتشف وأعيد اكتشاف غوته، وكالديرون. والموضة اللّطيفة، إلّا أنّه مُبالَغ فيها، أعني بذلك التكريمات، تقودني في جانب آخر إلى إعادة قراءة المُعاصِرين. وأعمال الروائيّ والمُترجِم الفرنسيّ هنري توماس Henri Thomas (1933 – 1912) رافقتني دائماً.

واليوم؟ هل هناك مادّة لكِتابٍ جديد يتضمَّن أفكاراً عن شُعراءٍ مُقرَّبين منكَ؟

– فيليب جاكوتيه: كنتُ قد قمتُ بمثل هذا العمل في كِتابي: “حوارات مع ربّات الفنّ”. وإذا ما أنا رغبتُ في مُواصَلة ذلك، فلكي أضيف جورج شحادة، ودي فوري Louis-René Des Forêts (شاعر فرنسي 1918 – 2000)، وأُلحِق آخرين مثل بول رو Paul Roux (رسّام فرنسي 1851 – 1918)، وجاك ريدا Jacques Réda (كاتِب فرنسي أشرف على “المجلّة الفرنسيّة الجديدة” من عام 1987 إلى 1996)، وجان بيار لومار Jean-Pierre Lemaire (شاعر فرنسي مولود عام 1948). وسيعجبني أيضاً مثلما فعلتُ مع يان سكا سال Jan Ska Cel (شاعر تشيكي 1922 – 1989)، أن أحيّي أجنبيّاً مجهولاً، أعني بذلك زبيغنيو هربرت Zbigniew Herbert (شاعر بولوني 1998 – 1924). أليس شَرَفاً للشعر أن يظلّ الإنسان بعيداً اليوم عن هذه الفوضى الأدبيّة المُكدِّرة للنَّفس؟

هل تعود إلى مؤلّفات الفلاسفة؟

– فيليب جاكوتيه: لي تقديرٌ للفلسفة يُساوي تقديري لكلّ ما يتجاوزني. لذلك فإنّ أهداف قراءاتي في هذا المجال تظلّ ذبْذَبَاتٍ بسيطة، أي أنّني أحاول أن تكون لي فكرة واضحة عن هايدغر الذي كنتُ قد لجأتُ إليه وأنا غارِقٌ في عالَم هولدرلين.

كما أنّي حاولتُ أن أستكشفَ عالَم هيغل أو سبيبنوزا. غير أنّ شيئاً ما أوقفني مبكّراً. وقد يكون ذلك عن كَسَلٍ أو عن نقْصٍ في القدرات. مثل تلك القراءات، ومعها قراءاتي للزهّاد والمتصوّفة، جعلتني أضيع، وأشعر أنّني لا أفعل شيئاً آخر سوى الإمساك بإشعاعاتٍ وشظايا وهي تَطير. مع ذلك، هناك فلاسفة يُمكنهم أن يوجّهوني، ويرافقوني لوقتٍ مديد، ويقدّموا لي أحياناً شبه توضيحات وتأكيدات.

أنتَ تقول: “ليس باستطاعتنا أن نكتب يوميّاً، وفي ساعاتٍ مُحدَّدة”. مع ذلك أنتَ توصَّلتَ إلى إنجاز أعمالٍ مُهمّة ومُختلفة في شكلها. كيف تعاملتَ مع الوقت لكي تُنجز أعمالاً نقديّة كثيرة (652 مقالاً)، وترجماتٍ لأفلاطون، وهوميروس، وموزيل، وهولدرلين، وليوباردي، وأونغراتي، وريلكه؟

– فيليب جاكوتيه: اسمحْ لي بأن أقول إنّ هذا سؤال من بين الأسئلة التي لا تعنيني. إنّها ظروف، والبحث عن لقمة العيش، وأشياء أخرى، ومعها المُصادَفة أيضاً، وكلّ هذا يُحدّدُ أيّامي. وكنتُ أرغب في أن أسافر أكثر عبر العالَم، إلّا أنّني لم أتمكّن من ذلك إلّا بفضل الدعوات. واليوم، تُساعدني الصناعة القبيحة للسياحة على أن أمكُث في بَيتي من دون أن أشعر بالندم أو الأسف، لأقرا بمُتعةٍ أكبر أعمال الرحّالة الكِبار، مثل نيكولا بوفييه (1929 – 1998)، وعشّاق السَّيْرِ على الأقدام مثل بيتر هاندكه.

أنتَ تضع الشعر في منزلة عليا، إلّا أنّك تكتب في: “أول البَذْر” ما يلي: “قد تكون رغبتي أن تكون لي القدرة على كِتابة النثر كناثرٍ جيّد. لكنّني أعلم أنّ هذا لن يتحقّق”. مع ذلك أنتَ استعملتَ الفنّ الشعريّ في كِتاباتكَ النقديّة. كما أنّكَ كتبتَ قصّة. ماذا يُمثِّل بالنسبة إليكَ أمَلُ أن تكتبَ نثراً؟

– فيليب جاكوتيه: موضوع الشعر والنثر، موضوع أرجو أن يُحال إلى القادرين حقّاً على مُعالجته والبحث في خفاياه. في هذه اللّحظة، أنا لا أفكِّر (وبالتأكيد ليس بما هو كافٍ للخَوض في الموضوع). إنّه نَوعٌ من الغريزة التي تبدو وكأنّها هي تختار عوضاً عنّي، وليس عقلي وإرادتي. وبكلّ بساطة أقول إنّ القصيدة، وأكثر من ذلك القصيدة القصيرة جدّاً، الخالية من التعليقات، ومن الإحالات، كما في مجموعتي “أهواء”، أو “ابق لي”، هي المثال، لأنّه في داخلها ينعكسُ نورُ الكَون الأشدّ صَفاءً ورَونقاً.

إذن، بهذه القصيدة تستطيع كلمتي أن تبلّغَ معناها ومَقْصَدَها. لكن لا بدّ لي من الاعتراف بأنّ حظّي لبلوغ مثل هذا الهدف يبقى نادراً مثل كلّ رحمة. ويتوجّب علينا أن نتقبّل الانعطافات والالتفاتات والتحسّسات والسّقَطَات من دون أن نتلذّذَ أو نُسَرّ بها. كما يتوجّب علينا أن نترك مكاناً للخطأ، أي أن نجول من دون هدفٍ مُحدَّد، وبحسب مزاج الأيّام. وفي مثل هذه الحال، نستطيع القول إنّ النثرَ والشعرَ شقيقان.

مع ذلك حدثَ لي كما في الجملة التي استشهدتَ بها، والواردة في كتابي “أوّل البَذْر” أن يكون لي في بعض الأوقات حنينٌ إلى نَثْرِ النّاثر، وأن أغارَ من الكاتِب الذي يكتب رواياتٍ وقِصصاً. والسبب الجليّ، هو الوعي الدائم عندي بالخطر الذي يُمكن أن يُواجهه الشاعر، إنْ هو أرادَ الطيران أعلى من قدراته، ثمّ يسقط سقطة قاتلة. وصدّقني، ليس لي تحفّظات على المَجال الروائي، لأنّي أكنُّ تقديراً وإعجاباً لدستويفسكي، وكافكا، وتوماس هاردي، وكونراد، ولآخرين. وقبل وقت قريب، أصبحت مُتَعَقّلاً، ولم أعُد أشعر بالحزن، لأنّني لستُ من بَين مَن ذَكَرْتُ.

الكلمات التي تختارها أكثر من غيرها مثل، الأرض، الهواء، النور، الريح، هي أيضاً موجودة لدى شعراء آخرين. وهذه الكلمات تستمدّ قيمتها الخاصّة في رؤية العالَم التي تحملها، وتجعلها مَحْسُوسة…

– فيليب جاكوتيه: هل كانت لي، أو هل ستكون لي رؤية للعالَم؟ أليس من الأصْوب أن نتحدّث عن “رؤى مُتَدَاخِلة”؟ في كلّ مرّة أُحاول فيها أن أرتّبَ مثل هذه الرؤى، آملاً أن يفضي ذلك إلى فكرٍ يُمكن تقَبّلُهُ، أجدُ نفسي أمام الارتباك نفسه الذي يعترضني أمام عتبة كلّ فلسفة، وفي محدوديّة طاقاتي نفسها. هل عليّ في مثل هذه الحال أن أزعم أنّ هناك شيئاً ما “يَسُوسُ” سلوكي وكِتابتي؟ وماذا يكون هذا الشيء عندئذ؟

وفي هذا الوقت، وقد يكون ذلك بسبب تقدّمي في السنّ، أسعى على الرّغم من كلّ شيء أن أعرف المزيد، بحيث تكون النصوص الحلميّة، وتلك التي في طور الكتابة، قد يكون بإمكانها أن تجيب إلى حدّ ما عن مثل هذه الأسئلة المركزيّة. لكنّني أبدو مُشَتّتاً ومُمزَّقاً (لا ليس مُمزَّقاً) إلى حدّ أنّني لا آمل أبداً في أن أعثر على وجه مُنسجم بإمكاني أن أقوده نهائيّاً إلى مبادئ من دون تعقيدات أو لُبْس. وعندما نَجِدُ حضوراً مثل هذا الجمال/ الحقيقة الذي أُلاحقه، أو بالأحرى الذي هو يُلاحقني، عند جورج شحادة، ويوماً آخر عند سبيغنبو هربربت، فإنّ ذلك لا يعني أنّني عرفتُ من أنا. مع ذلك، ثمّة إشارة تمّ رميها وقتيّاً، وهي من بين ما أرغب في توضيحه مُستقبلاً: بعد أيّار (مايو) من العام 1968 كنتُ بعيداً عن باريس، عبر مسافة تجعل من كلّ انتساب أشدّ صعوبة وعسراً، صدمت وأنا أقرأ عدداً من Ephémère كان قد صدر لمدّة شهور بعد الانتفاضة، بلقاء أكثر حرارة مع ثلاثة من مُحرّريها، واثنان منهما كانا صديقَين مُقرَّبَيْن: جاك دوبان Jacques Dupin (شاعر فرنسي 1927 – 2012)، وأندريه دو بوشيه André Du Bouchet (شاعر فرنسي 1926 – 2001)، والثالث دي فوري، وهو واحد من بين من كنتُ أكنّ لهم تقديراً كبيراً. وأقلّ ما يُمكن أن يُقال في هؤلاء الثلاثة، أنّهم لم يكونوا من “المُناضلين” للدفاع عن أيّ قضيّة.

وما صَدَمَني في نصوصهم أيضاً، هو أنّ كلّ واحد منهم اعتقدَ أنّه أَنجز في الشارع، بطريقةٍ تكاد تكون خارقة وعجيبة، مِثالَه الشعريّ. وأنا نفسي كنتُ بعيداً عن انتفاضة الشوارع تلك، والتي فاجأتني بشكلٍ سيّىء، وخصوصاً أنّ ما هو أساسيّ فيها كان يَصلني عبر خليطٍ لغوي. لذا لم أتأثَّر بها فكريّاً، ولم أُصبْ بعدواها.

وفي العدد نفسه من المجلّة المذكورة، كانت هناك قصّة لباشو Matsuo Bashō (شاعر ياباني 1644 – 1694) لم أكُن أعرفها، وعنوانها: “الدرْبُ الضيّقُ لنهاية العالَم”. وهو نصّ يبدأه مُترجِمُهُ الفرنسي رينيه سيفيرت على النحو التالي: “الأشهُر والأيّام عابِرون دائمون. والسنوات التي تتابعُ مُسافرون. (Felbatol) وأنا نفسي مُذْ عرفتُ السنة، مزْقَة من سحابةٍ تتخلّى عن مَكانها لدعوة الريح…”. وفوراً، من دون أن أفكّر (واليوم سأفعل ذلك أيضاً) قلتُ في نفسي إنّ تلك الحركة الشعريّة التي عكستها المجلّة المذكورة، القريبة من الإذعان أكثر ممّا هي قريبة من التمرُّد، وإن كان إذعاناً للزمن وليس لأيّ شيء آخر، تُقدِّرُ الآباءَ عوض رفضهم، شرط أن يكون هؤلاء الآباء جديرين بذلك. وهي تُعيد للماضي الاعتبار، مُحَرِّرَةً إيّاه من ثقله لكي يكون أكثر خفّة، وحريّة، وأقلّ عقبات، وأكثر قوّةً وغنىً وانفتاحاً على شكوك المُستقبل وتقلّباته.

ومرّة أخرى، أشعر أنّني أكثر شكّاً وتشتُّتاً. وقد أكون اليوم صافي الذِّهن، رائقَ المزاج، لكنّني سوف لن أكون غداً مُندهِشاً في ما لو وجدتُ نفسي يائساً. لكنْ بالتأكيد، هذا الزواج مع الزمن، لن أحمله أبداً على ظهري مُستقبلاً، ولن يكون لي في النهاية سوى حمْل من نور، هو ذا قد يكون هدفي المثالي…

هذا يقودنا إلى سؤال آخر حول الكلمات مُطهّرَة من كلّ تنميق ومن كلّ تزويق، يكون الشعر شكلاً من أشكال “الصلاة”. وهذا ما نحن نجده في “جَولة تحت الأشجار”. أيّة قيمة تمنحها لكلمة “صلاة”، ولمَن ترفعها؟ وهل أنتَ تتوجّه بها إلى آلهة مُشتَّتة، أم إلى إلهٍ غائب؟

– فيليب جاكوتيه: “شكلٌ من أشكال الصلاة”، من دون شكّ أنّني لن أكتب هذا اليوم، لأنّ للكلمة إيحاءً دينيّاً، وهي من بين الكلمات التي يتوجّب الحفاظ على طهارتها وصفائها. لكنّ هذا لا يعني أنّني أكره أن نجد هنا وهناك في كُتبي، عناصر النشيد الديني، لكنّها عناصر متفرّقة، وغير مؤكّدة، لأنّ العصر لا يسمح بأفضل من ذلك. أمّا جوابي عمّا هو إلهي، وعن التعالي والمثال بمفهومهما الفلسفي، فإنّني أطلب منك أن تمنحني وقتاً للإجابة عنّ كلّ هذا. وإنْ أَسعفني قليلٌ من الحظّ، فإنّ ذلك سيكون في يومٍ آخر. وربّما لن يكون على شكل جواب. وربّما يكون جواباً أيضاً.. لا أدري.

في قصيدتك “في الأيّام” تكتب: “أرفعُ القنديلَ السماويّ على إقامتي القصيرة. وفي ضوئه أغْسلُ حياتنا الناقصة”. وفي قصّتك “العتمة”، يتساءل بطلُها: “هل مُقَدّر أن ينهار الرجل الواعي المُتمتّع بصحوة الذهن؟”… والسؤال هو: هل يُمكن الحفاظ على التوازُن الذهنيّ بين الثقة “السحريّة” في الشعر، وبين الصحوة الذهنيّة التي تكون في مرتبة اليأس؟ وهل الوقوف على الحدود بين ما هو مَرئيّ وما هو غير مرئيّ يكون بمثابة الوقوف عند حدود الجنون؟

– فيليب جاكوتيه: الجنون.. رحمة بي.. أرجو ألّا نذهب بعيداً. أنا إنسانٌ عاديّ، حَذِرٌ ومُتّزنٌ بشكلٍ مُرعب، وأقلّ عُرْضَة من أيّ إنسانٍ آخر، إلّا جرّاء حادثٍ ما، للجنون مثل نارفال، وهولدرلين، وأرتو. وأنا غير قادر حتّى على الإتيان بـ “هَوَس العبارة” رمز عظمة فرانسيس بونغ Francis Ponge (شاعر فرنسي 1899 – 1988) أو جياكوموتي Alberto Giacometti (نحّات ورسّام سويسري 1901 – 1966). فأنا لا أختلف عن بستانيٍّ يعمل في حديقته. وأنا لا أبتغي من وضعي أيّ شيء، لا مَجداً، ولا فَخْراً، ولا عاراً.

***

(*) كاتب من تونس

(*) مؤسسة الفكر العربي-نشرة افق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *