الأدب ورُهاب الانتظار
د. عبد الله إبراهيم*
هل الرُّهاب شعورٌ مُستَتِر في الأعماق يختلج في النّفس، وحينما ينكشه عارضٌ يَظهر بالفَزَعِ الذي يَشمل الخائف؟ أو هو شعورٌ بالرّهبة يعتري صاحبه، ويتمكّن منه، فيَستسلم له، ويُقلق راحته من دون أن يكون له أساسٌ يُرجِّح وقوعَه؟ أحسبه من نِتاج الانتظار الطّويل لتوقُّع حدوث أمر لم يُفصَح عنه. أمرٌ مُبهَم يتردّد بين حضوٍر متوقَّع في أيّ لحظة، وغيابٍ مُحتمَل يَجعل الإنسانَ في حالِ اضطراب، فلا يستقرّ أمره إلّا بالاستسلام له. وكلّما جهلَ المرءُ أمراً ما تَقَلْقَلَ حالُه، وربّما فَقَدَ رشدَه، وأُصيب بالهلع. والرّهاب عرض جوهري من أعراض الانتظار، وكأنّه ذُعْرٌ مُستتِرٌ من خطرٍ مُحتَمل الوقوع يَخلع الخيالُ عليه سمةَ الخوف من تهديدٍ لا يُعرف أوانه. هل عالَج الأدبُ ذلك الرُّهاب الخفيّ المُرتبط بالانتظار الطّويل؟ طَرَقَ كافكا الموضوع، فشخصيّات رواياته تترقَّب حَدثاً غامضاً، ينتهي بها إلى الانقياد، والخضوع من دون مُمانَعة. ولم تنشغل تلك الشخصيّات بالبحث عن مصدر الفزع الذي يجتاحها من الدّاخل، بل كانت عازفة عن محاولة العثور عليه، ولم يكُن في واردها الانشغال بما هو خارج ذواتها، لكنّ ما يدور في عالَمِها يَضعها تحت طائلةِ انتظارٍ يُزعْزِع مُقاوَمَتَها، ويُرغمها على تسليم أمرها للآخرين الذين يجعلونها في حالِ ترقّبٍ ليلاً نهاراً. يَظهر الآخرون حيث شاءوا، ويفعلون ما يروق لهم، ويُرغمون الشخصيّات على الاستسلام من دون الإفصاح عن سبب حضورهم، ولا بيان علّة الانقياد لهم. الانقياد المشوب بالتّهكّم الضمنيّ؛ ذلك هو رهاب السّرد وقد خيَّم على شخصيّات “القلعة“، و”المُحاكمة“،” و”المسخ“، وهو مقوِّمٌ ثابتٌ في أعمال كافكا اتَّخذ مَظهرَ الاستسلام، وله نِسخٌ شبيهة في روايات هاشيك، وكليما، وكونديرا، حيث لا جدوى من إظهار المُمانعة حينما يكون المرء في حال انتظارٍ طويل يَمتثل له كأنّه قدرٌ محسوم. والانتظار موضوعٌ جاذبٌ للأدب، وقد عالجه “بيكيت” في مسرحيّته “في انتظار غودو“.
غير أنّني ما رأيتُ أَثراً سرديّاً رَسَمَ صورةً للانتظار المشوب بالخوف، كما رأيته في رواية “صحراء التتار” لـ “دينو بوتزاتي”؛ انتظار هجومٍ للأعداء لم يَقع أبداً، كأنّه من الأوهام الّتي ملأت فضاء السّرد، وأَطبقت على الأحداث، وقيَّدت الشّخصيّات، فما مَصدر ذلك الانتظار الطّويل؟ مصدره عناد بظهور عدوّ يريد النّيل من البلاد، عدوّ آتٍ من أعماق الصّحراء سوف يجتاح المَملكة بغزوٍ شديد، ويَتركها خراباً، ولا أحد يعرف أسبابه، حيث لا وجود لمقدّماتٍ تُفصح عنه، ولم يتكهّن أحد بموعده. الشّيء المؤكّد هو أنّ الأعداءَ قادمون من قلب الصّحراء في يومٍ من الأيّام، وما غير ذلك لا يُعرف عنه أيّ شيء. يلفّ الغموضُ كلَّ ما له صلة بالأعداء، ما خلا قدومهم من عُمق الصّحراء، ووجوب الاستعداد لردّهم على أعقابهم؛ انتظار طويل يَستبطن هَلَعاً لا ينقضي.
كُلِّف ضابطٌ شابّ يُدعى “جيوفاني دروغو” بالذَّود عن المَملكة رفقة كتيبة من المُحاربين. رابطتِ الكتيبةُ في قلعة “باستياني” تنتظر قدومَ العدوّ من جهة الصّحراء، وعلى المُحاربين ألّا يخلّوا بواجب الدّفاع عن بلادهم، ولكنّ العدو لا يظهر في أُفق الصحراء، فيما ينصرم الزّمن وسط خواءٍ يثمر عن يأس. يريد الضابط جيوفاني تأكيدَ هويّته مُحارِباً، فبالحرب يتحقَّق مرادُه، لكنّ الحرب لم تندلع، وكانت تتأجَّل من دونِ بيانِ الأسباب. فالأعداء لم يبرزوا إلى الميدان، وقد أَحجموا عن القدوم بخيولهم، وانصرمتِ العقود في انتظارٍ عقيم. وإبّان ذلك الانتظار تتفكّك عرى الشّخصيّات بين موت، وعجز، ويأس، فقد رَهنت مصيرها بأمرٍ مؤجَّل.
وليس من الغريب أن يكون المُقاتلُ كنايةً عن أُممٍ تترقّب أعداءً من صنْع أوهامها، فتسلخ تواريخها في انتظارِ أخطارٍ متوهّمة. انتظار يبدو مُمِلّاً في البداية ثمّ يُصبح عناداً رتيباً في النهاية. غير أنّ الزّمن يَفرض سطوته، فتمرّ السّنون، وإذا بالمُقاتل الطريّ، يتعفَّن جرّاء حربٍ يمتنع اندلاعها، ويمتنع التّغاضي عن وقوعها. خلال عقود الانتظار غالَبَ جيوفاني خليطاً من الخوف والترقُّب، حيث لا قدرة له على التقدّم إلى أمام، ولا قدرة له على العودة إلى وراء، وتقطّعت أوصال حياته في انتظارٍ لم يُثمر، لا عن نصرٍ ولا عن هزيمة. لا يصحّ القول إنّ ذلك الضابط كان جباناً، إنّما لم يُمنَح الفرصة لإبداء شجاعته. وتتمثّل فُرصته في قدوم التّتار من الصّحراء ليُظهِر بسالته في صدّهم، لكنّهم احتجبوا في الصحراء على غير عادتهم في غزواتهم، وما ظهروا قطّ أمام القلعة، مّا جَعَلَ انتظارَ جيوفاني دروغو ضَرباً من الفزع المديد الذي أحال حياته خراباً، فانتهى شَيخاً راضخاً على غير ما كان عليه شابّاً جسوراً.
الانتظار والهويّة
ربّما يتعذّر فهم حال جيوفاني من دونِ فَهْمِ مضمون الانتظار الذي أُرغم عليه، فهو مَبعث شعورٍ غامض بالخوف، غير مقيَّد بزمان، يطبق على صاحبه، ويجعله مقيَّداً بحدث لا يقع، لكنّ طول أمده يجعل تخيُّل وقوعه قائماً في أيّ لحظة. يمضي زمن الانتظار إلى أمام، ووقوع المرء في قبضته لا يُشعره بمعنى حاضره، ولا يتيح له الارتداد إلى ماضيه، فكلّ شيء في حياة المرء ارتبط بحدث لم يَئِن أوانه. وليست الأخطار بما فيها من مخاوف، دائمة الوقوع، إنّما مداومة المنتظِر على توقُّع حدوثها، ليلاً نهاراً، يجعله يصدّق حدوثها. قد يؤسّس الانتظار هويّة الفرد أو حتّى هويّة أمّة بكاملها، إذا ارتهَنَا لحالة الانتظار، وتوقَّعاً أمراً جللاً قَيد الحدوث. ولكنّ طول زمن الانتظار، وانعدام وقوع ما يتخيّله المنتظِر، فرداً كان أم جماعة، كفيل بالقضاء على فرصة انكشاف تلك الهويّة. ليس من المهمّ وصف الانتظار بذاته، إنّما المهمّ جعْله حافزاً لأحداثٍ محتمَلة الوقوع. وحيثما جرىَ الحديث عن الانتظار، فلا فائدة من الحديث عن أصالةِ ما سوف يُكتب عنه، فهو بما يُحدِثه من فَزَعٍ لا يتوافق مع الأصالة التي تضرب بجذورها في تربة اليقين، إنّه ضرب من الارتياب القلق، وكلّما طال انتهى ليكون رُهاباً يخترم النّفوس.
هل التّتار في رواية بوتزاتي كناية عن الخوف القابع في النّفوس المنتظِرة، فرديّة كانت أم جماعيّة؟ وهل إنّ طول الانتظار يَجعل احتمالَ وقوعِ الحرب مؤكّداً في أيّ وقت، فتنقضي الأعمارُ في انتظارِ أمرٍ من صنيع الخيال؟ وهل تتار بوتزاتي مكلّفون بإثارة الخوف من وراء الحدود بعزْمهم على غزو المَمالك، لكنّهم عازفون عن اتّخاذ قرارهم، فيُرغِمون الأعداء على انتظارٍ له وقْعٌ عليهم أشدّ من وقْع الحرب؟ تلك أسئلة قد يَفلح تأويل الرواية في اقتراحِ أجوبة لها. ولكنْ قَبل بوتزاتي وَضَعَ “قسطنطين كفافي” جواباً شعريّاً على ذلك بقصيدة عنوانها “في انتظار البرابرة“. ارتسمَ فيها حال مَملكة تترقّب هجوم البرابرة، كما ترقّبت قلعة باستياني هجوم التّتار، فكانت المَملكة والقلعة في حال انتظار لا ينقطع. عاش كفافي معظم حياته في الإسكندريّة بشقّة معتمة، فوق بيتٍ للدّعارة، وفي سنة 1898 كَتب قصيدته القصيرة تلك، وهي عن الذكرى الآفلة للمدينة التي كانت، في ما مضى، مهوى الأفئدة، وما عادَ فيها شيء جدير بالذّكر سوى أصداء الماضي.
البرابرة، في قصيدة كفافي، قادمون إلى الإسكندريّة لتخريب ما تبقّى من هويّتها، ذلك ما توحي به القصيدة، لكنّ التأمّل فيها لا يُظهر وجوداً للبرابرة بها، حتّى أنّ موضوعها ليس عنهم، إنّما كانت الإشارة إلى لازمةٍ شعريّة تردّدت فيها، وهي ترقُّب قدوم البرابرة، وما تَركه ذلك من أثرٍ في الإمبراطور، وفي القُضاة الذين تعطَّلت أعمالهم. فتوالي الأخبار عن قدوم البرابرة، جَعَلَ عليّة القوم في حالِ انتظار، إذ كانوا من قَبل خاملين. وقد استجدّ أمرٌ لم يَخطر لهم من قَبل، فالأغراب قد يطرقون أبواب المدينة. لم تكُن حال عليّة القوم مؤتلِفة، فأظهرتهم القصيدة بين مُرحِّبين بقدوم البرابرة، أو متوجِّسين منهم، فَحَدَثُ الانتظار أَبْعَدَ عنهم حالةَ الاسترخاء التي غاصوا فيها. لكنّ البرابرة أرجأوا غزوَهم، وعادوا من حيث أتوا، فظلّ أهلُ المدينة حيارى من حالٍ لا يُحسَدون عليها. لقد تأهّبوا لاستقبال الغُزاة، لكنّ الغُزاة قَفلوا راجعين، وأمسى لدى أهل المدينة عملٌ يقومون به، وهو الانتظار. ما عساهم دون قدوم البرابرة؟ استحدثَ انتظارُ البرابرة وظيفةً لأهل المدينة، فقد أَحدث ضرباً من التّضامن مَبعثه الخوف. وبعزوف البرابرة عن القدوم إلى الإسكندريّة انفضَّ عقدُ أهلها.
يُمكن تأويل قصيدة كفافي على أنّها كناية عن حال الإسكندريّة التي لم يَعُد لها غير ذكرياتها القديمة، وكانت عرضةً للفوضى في أيّة لحظة، فلا أحد يعرف موعد حلولها، ثمّ إنّها حدثت خلال أعمال النّهب التي رافقتِ الاحتلال البريطاني لها في العام 1882. شهد كفافي المدينة تضْطرب، وحلّت فيها الفوضى الأهليّة، وكان في مُقتبل عمره، فإذا به في قلب العاصفة. وما دام الغُزاة البريطانيّون من الأجانب القادمين من وراء البحار، فإنّ غَضَبَ المصريّين قد حلّ بالأجانب القاطنين في المدينة، وشاعَ الذّعرُ في أوساط الجاليات الأوروبيّة، واختلَّ النّظام العامّ، ووقَعَ نَهْبُ المُمتلكات، وهربَ كثيرون للنّجاة بأنفسهم جرّاء غزوٍ أدّى إلى اندلاع نقمةٍ أهليّة ضدّ الوافدين الأوروبيّين. وذلك ليس حَدَثاً فريداً من نوعه، إنّما دائم التّكرار في التّاريخ، إذ يقع الانتقام من جماعاتٍ ليست لها صلة بأحداث الغزو إلّا المُشارَكة في الاعتقاد أو العرق أو الثّقافة، فتؤدّي ثَمناً باهظاً لأحداثٍ لا علاقة لها بها، وحدثَ ذلك في الإسكندريّة على خلفيّة ثورة عُرابي.
عاصَرَ كفافي ذروةَ ازدهارِ الإسكندريّة حينما كانت فضاءً للتنوّعِ الثّقافي والبشري، وبحدوث تلك الفتنة، شعرَ بأنّها بدأت تودِّع مَجدَها العريق، فهي مهدَّدة من البرابرة. وظهرتْ في قصيدته كمدينةِ أطلالٍ معتّمة تتعرّض للغزو، والتّخريب، والنّهب، وكأنّ القصيدة تمثيلٌ لأحداثٍ مؤجَّلة سيأتي أوانها في يومٍ ما. وقد خَلص “مايكل هاج” في كتابه “الإسكندريّة: مدينة الذكرى” إلى أنّ كفافي كان ضليعاً من الشّعر والتّاريخ، وعلى الرّغم من أنّه لم يَكتب في التّاريخ قطّ، فإنّ وَلَعَهُ في التفاصيل التاريخيّة أضفى الحياةَ على الماضي. وكان الماضي معنىً دائمَ الحضور في شِعره. ماضي الإسكندريّة الذي حجب عنه واقعها، وحينما انتبه إلى ذلك كان البرابرة على أبواب مدينته الأثيرة.
وإذ كان البرابرة في رواية بوتزاتي هُم تتار الصّحراء، أولئك المحاربون الأشدّاء الذين طافوا بعضَ أرجاء العالَم الوسيط كالأمواج الهادرة، وخرّبوا كلّ ما عرض لهم، وأمسوا رمزاً لكلّ خطرٍ يدهم الأُمم من حيث لا تُحتسب، فمَن هُم البرابرة في قصيدة كفافي؟ إنْ عُرضت القصيدة على خلفيّة تاريخ المدينة، منذ أن شيّدها الإسكندر حتّى احتلّها البريطانيّون، وقورِنَ حالُها بما كَتبه عنها كفافي من قصائد كثيرة، لا يلوح في الأُفق إلّا تأويلٌ مركزيٌّ واحد: البرابرة الذين يُهدّدون هويّة الإسكندريّة هُم المصريّون، هُم أهل البلاد الذين انتزعوها في نهاية المطاف، وحازوا عليها. واعتبارُ أهلِ البلاد الأصليّين هُم البرابرة، وهُم الأعداء الذين يهدِّدون بالزّحف لاحتلال المدينة، هو الموضوع الذي جَعَلَهُ جي إم كوتزي محوراً لأحداث روايته “في انتظار البرابرة“، سواء بيقظتهم بعد طولِ رقاد أم بإيقاظهم عنوةً ليُعاد تأهيل الإمبراطوريّة في ظلّ إثارة الخوف من زحفهم.
الانتظار وما يبعثه من خوف أو الخوف وما يلزمه من انتظار، هو الذي كان وراء ظهور فكرة البرابرة عبر التّاريخ الاجتماعي. وفي واقع الحال، لا وجودَ حقيقيّاً للبرابرة، الذين لا شأن لهم إلّا التّدمير والَفتك بالنّاس. فالبرابرة كناية عن الجماعات المُختلفة في قيَمِها وعاداتها، ويَقع الخوف منها لاختلافها، وكأنّه لا يهنأ طيبُ عيشِ الأُمم إلّا باستحداثِ جماعاتٍ عنيفة تهدّدها. ابتكرت جلُّ الأُمم برابرةً دأبهم الغزو، وقصدت بهم أولئك المُختلفين الذين تدفعهم دوافع كثيرة لبسْطِ نفوذِهم على الآخرين، عن حقّ أو عن باطل، ولم يَغِب رصْدُ تلك الظّاهرة عن تاريخ الثّقافات، إذ إنّ لها ذكراً في الآداب القديمة والحديثة لدى معظم الأُمم، ولها صور متخيَّلة في مرويّاتهم السرديّة والشّعريّة.
***
*ناقد وباحث أدبيّ من العراق
*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق