أحزمة البؤس اللبنانية

Views: 13

د. قصي الحسين

( أستاذ في الجامعة اللبنانية)

  في أعقاب الحربين العالميتين، كانت عظيمة،  موجات المهاجرين واللاجئين والنازحين والهاربين من جحيم الحرب، ومن أعمال الطرد والإجلاء. 

 أعداد عظيمة للغاية من اليونانيين المسلمين ومن الأرمن الأتراك، كانوا يتوافدون إلى السهل في عكار. و إلى محلة النهر بطرابلس. وإلى محلة النهر ببيروت. وإلى سائر المناطق اللبنانية الأخرى، الساحلية والداخلية.

 كانت طلائعهم تصل إلى كل ملاذ آمن في لبنان.

 وكان التعاطف معهم إنسانيا، بغطاء ملي. فاليونان، وأوروبا عموما، كانت تساهم في نزول الأرمن وإستقرارهم. وكانت تركيا، والبلاد العربية، تساعد بالمماثل، المسلمين اليونانيين الذين ينزلون من السفن، على تخوم المدن .

 كانت الجهات الداعمة،توفر لهم الحاجات واللوازم، من خلال الدعم المالي ومن خلال الدعم المعنوي.

 وكان هؤلاء يملأون فراغا في المدن والقرى اللبنانية، على طول الساحل، وفي أماكن كثيرة من مناطق الجبل و السهل في الداخل، بعدما كان الكثيرون من أهل لبنان، قد هاجروا إلى أميركا وأوروبا وإفريقيا، بحثا عن الأمان و الطعام.

  وبعد إهتزاز الجمهورية في سوريا، وتوالي الإنقلابات فيها، أخذ الكثيرون من أبنائها، يفرون هاربين، من وجه السلطات الجديدة عليهم.

 كانت معابر الحدود البرية، في شمال وشرق لبنان، تشهد نزوحا ولجوءا وهروبا، عظيما للغاية، من سوريا إلى لبنان.

 وكان هؤلاء من المسيحيين والمسلمين.

  تسنى لي في صغري، أن أشاهد بأم عيني، قوافل الهاربين السوريين إلى لبنان. يقودهم المهربون، من أبناء الحدود اللبنانية، ويعملون على تامين سيارات الأجرة، لنقلهم وتهريبهم إلى لبنان. شاهدت بأم عيني سائق السيارة الصغيرة ( دوزوتو)بسعة خمس ركاب، يقل فيها28 راكبا، يهرب بهم إلى طرابلس.

 يروي السائق نفسه، أن دورية لبنانية، فاجاته ليلا. أوقفته وشاهدت الرؤوس ال28. فقال له رئيس الدورية، أنزل الركاب، ثم أرني كيف تعبئهم داخل السيارة، ولك أن الإذن بمتابعة سيرك. فأنزلهم جميعا على الأرض. ثم ناداهم: كل واحد يأخذ محله. فإذا بهم داخل السيارة وفي صندوقها معا في لحظات. فتابع سيره بأمان وسلام. ولا تهريب سوريين ولا ما يحزنون.

 كان أقصى طموح الهاربين من السوريين، الوصول إلى طرابلس وبيروت.

 وكنت شاهدا أيضا في أثناء دراستي بطرابلس، و أثناء سكني بباب التبانة، أن أشاهد بأم عيني، كيف ينمو حزام البؤس حول طرابلس، من المهاجرين اليونانيين والسوريين: المسلمين والعلويين والأرمن والمسيحيين.

 أخذ حزام البؤس حول طرابلس بالتوسع التدريجي، بالتزامن مع الأزمات السياسية التي كانت تهز أرجاء سوريا، ومناطق البلقان وجزر اليونان في البحر المتوسط.

 كانت أحزمة البؤس بلبنان هي من تداعيات الجوار الإقليمي أولا، قبل أن تكون من تداعيات المجاعات الداخلية في لبنان.

 وعندما حلت النكبة في فلسطين والفلسطينيين، في أيار العام1948، أخذت موجات الهجرة الفلسطينية تتعاظم إلى لبنان. وكانت تترافق مع موجات التهجير من اللبنانيين الجنوبيين، الذين آخت بينهم عمليات الطرد والتهجير المنظمة، من داخل فلسطين إلى الحدود اللبنانية.

 كان حزام البؤس الذي نشأ حول بيروت، على حساب أهل بيروت. لا أتحدث فقط عن المخيمات الفلسطينية،  وإنما عن إنتشار النازحين اللبنانيين من الحدود الجنوبية، حول مدينة بيروت، وتوغلهم شرقها، طلبا لفرص العمل، بعدما كانوا يعملون في فلسطين.

 إن توقف القطار بين لبنان وفلسطين، بالإضافة إلى تداعيات الحروب الإسرائلية- العربية والفلسطينية، لمما جعل حزام البؤس يتكاثف حول بيروت.

  فالضريبة التي دفعها لبنان، من أمنه وإستقراره وحياته، ليست في الأساس من صنع لبناني محلي. بل من صنع إقليمي.

 فالضغوط الديموغرافية عليه من الشمال، كما من الجنوب، وموجات التهجر واللجوء والنزوح، عبر البحر  من جهة، وعبر حدوده البرية من جهة أخرى، هي التي تسببت بنمو أحزمة البؤس حول المدن الساحلية والداخلية. وخصوصا حول بيروت وطرابلس. (www.kambioeyewear.com)

   هذة شهادة شخصية مباشرة ومعاينة، من جيل نكبة فلسطين، والذي إستجرت معها جميع الأحداث والنكبات.

 شهادة  على العصر الذي نشأت فيه أحزمة البؤس في جبل محسن وباب التبانة والبداوي ونهر البارد ووادي نحلة حول طرابلس في الشمال.

 وهي شهادة من جهة أخرى، على العصر الذي نشأت فيه احزمة البؤس، في برج حمود والكرنتينا وحي الغوارني والدورة والحدث والليلكي وصفير وبئر العبد وحارة حريك والرمل العالي، بالإضافة إلى المخيمات الفلسطينية التي تزنر بيروت، وتحتل قلبها اليوم.

 لبنان دفع في الماضي، ضريبة حروب الآخرين وسياساتهم، دون أن يكون شريكا في واحدة منها.

 وأما الحديث عن مسؤولية الدولة اللبنانية، في ظهور أحزمة البؤس، ففيه الكثير من الإفتئات على الحقائق والوقائع، التي عاشها الناس ، ولم تمح بعد من ذاكرتهم.

 أحزمة البؤس حول المدن وداخل لبنان، كان من جراء شياطين الحروب، كما كان من جراء شياطين السياسة. فشيطنة الحرب كما شيطنة السياسة، لمما إبتلي به لبنان منذ قديم الزمان، وحمله مسؤولية أحزمة البؤس في كل مكان.

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *