“فلاديمير جانكلفيتش محاكمة أخلاقية في هدي جمالي” لمارلين يونس… فلسفة نابعة من داخل الذات

Views: 652

أنطوان يزبك

 

“تظهر الفلسفة في المساء، بعد أن يكون العلم قد ولد في الفجر وقد قطع عناء طويلا” (هيغل).

 

في تكوينها الفلسفي المتقدم، يبدو أن مارلين يونس ابتكرت نهجًا جديدًا؛ إذ توفرت لديها مقولة مختلفة عن هيغل، وهي أن الحركة الفلسفية كفلسفة فعلية تبدأ مع الفجر، مع الشروق، ولا تنتظر الغسق وغروب الآلهة. 

نعم،  كتاب”فلاديمير جانكلفيتش محاكمة أخلاقية في هدي جمالي” (صادر حديثًا عن مركز دراسات الوحدة العربية)  بدأ مع الشروق، ذلك أن ولادة الفكر هي قبل كل شيء، ولادة معرفة، وليست معرفة مجتزأة عن الواقع الإنساني، بل تلك التي ترتكز على الأخلاق ولا تنقسم على ذاتها، كما أرادتها مارلين فلا تؤلف فلسفة تنقسم على كل مكونات المعرفة ولا تنتج أفكارًا متباعدة وفلسفات متصاعدة تحارب بعضها البعض. 

كتبت مارلين مؤلفها بتؤدة وهو مضبوط على إيقاعات موسيقية، فمارلين وجانكليفيتش كلاهما قادمان من عالم الموسيقى والفلسفة على حدّ سواء؛ فأتى الكتاب وكأنه سيمفونية مختارة له من النوتات الدقيقة ما يعزز حكمًا عملية العزف، وله أيضًا منطقه الخاص؛ إن من حيث تنوعه أم من حيث الكلام على مسألة الجماليات، في خضم أنسنة الواقع الذي منه تأتي كل المعطيات، وسائر محاولات إيجاد الأجوبة للأسئلة الميتافيزيقية التي شكل الكتاب رحلة استكشاف وجلاء لها. 

مارلين يونس

 

أما الداخل إلى عالم جانكليفيتش، فيجد نفسه في جنّة سحريّة محاطًا بعالم الموسيقى وبهاء المعرفة من خلال التعاطف والمغفرة والأخلاق وسيل من التحوّلات الروحيّة التي تعطي الفلسفة الغربية بعدًا مختلفًا عن الجفاف الذي وُسمت به. 

عالم جانكيليفيتش، كما صوّرته مارلين يونس، في البعد الموسيقي قريب من عالم “أوز” وخيالي بدرجة كبيرة، فها هو يرى في أفلاطون مثلا أنّه عمد إلى رسم المُثل كمحجّة خلاص ووسيلة هروب والالتجاء إلى فرضيات لا وسيلة أبدًا للتأكد منها. 

على عكس ما يُعتقد لا تعمد مارلين إلى محاكمة جانكيليفيتش بشكل حاسم وقاسٍ،  بل تحاول تقريب أفكاره إلى القارئ بأقلّ خسارة ممكنة، إذ يظهر جانكيليفيتش أمامنا وكأنه مزيج من حالم وأبولون موسيقى وديونيزيوس ويهودي حاسيدي، من تلك الطائفة التي نشأت في سهول أوكرانيا حاملة معها المدى والريح والانطلاق إلى نقطة اللاعودة. 

هذه النسخة الجديدة من جانكليفيتش كما أرادتها الكاتبة، تحيل إلى العقل الباطن مسألة حصاد هذه الإبداعات وتطويرها في عالم الجماليات، وفي مكتسبات فنية تنعكس على جوّ الفلسفة العام. 

في مقاله “علم النفس والشعر”، يعتبر كارل غوستاف يونغ أن النفس هي أم كل عمل فني والوعاء الذي يحتويه، كذلك مارلين يونس، فقد ألمحت بعد تعمقها في مكتشفات فرويد حول اللاوعي أنّه يمثّل الأرض الأم المبدعة للوعي، بهذه الطريقة تكون قد اقتربت من تفسير أمور عديدة حول علاقة الفن بالفلسفة وتاليًا في الجماليات من حيث علاقة الإبداع بوعي الفرد، وكوّنت فكرة لدى القارئ وتوقه إلى الجمال والرقي من باب الحاجة الإنسانية والشغف الأسطوري لدى الإنسان ونزوعه نحو كل ما هو جميل وسامٍ. 

في بحثها هذا حاولت مارلين يونس دراسة فكر جانكليفيتش وهي تستنبط منهجية معيّنة لظروف نشوء فكره وتطوّرها، وهو عاش في القرن العشرين، حين كان المجتمع البرجوازي يسعى دائمًا إلى زيادة حجم الإنتاج، وبحسب التحليل الماركسي تقوم المجتمعات البورجوازية بتوجيه المثقفين واستيعابهم، والسبب الأساسي هو أن عمل الفن يعتبر مهمًا في حال يستطيع زيادة رأس المال، فهل كان جانكيليفيتش ضحية المجتمع الاستهلاكي البرجوازي أم أنه تجاوزه وانتصر عليه من خلال رؤيته الصوفية القمينة بتحرير الذات، واعتماد الصوفية لتزكية النفس وتحريرها من أدران المجتمع والوجود؟!

 

ينضمّ جانكليفيتش إلى فلاسفة ومفكّرين وكتّاب من أمثال هوركهايمر، أدورنو، توماس مان؛ في رحلة البحث عن موئل الجمال وعملية التطهر الروحي من أجل الانعتاق من كل ما هو قبيح على الأرض، ذلك أن الأخلاق لدى جانكليفيتش لا تقوم سوى بالمعرفة وهي نقطة الانطلاق لكل ما هو جميل في هذا العالم!..

في كتاب مارلين يونس تعثر على واقع لا هروب منه ألا وهو عمل حثيث على إزالة الريبة المحيطة بفكرة فلسفة الجماليات، وذلك من خلال جعلها مهدًا للخلق، والأفكار الجميلة الخلاقة التي تنبع من الداخل الإنساني، وتحارب سماجة الأفكار التي تريد من المادية أساسًا لكلّ فكر فلسفي، وكأني بمارلين يونس تقول كما ميلان كونديرا: 

“الغباء يأتي من مسألة أن يكون هنالك جواب لكل شيء! بينما الحكمة تأتي من مسألة أن يكون هناك لكل شيء سؤال!”. 

حكمة مارلين يونس هي في العطاء، عطاء كل ما يخدم الجمال والحق والحرية والخير. 

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *