بعلبك بين العادات والجموح!

Views: 80

د. سميّة طليس

       العادة نمطٌ سلوكيّ واحد يعتاده الإنسان ويَفعله مرارًا وتكرارًا، من غير مكابدة أو مجهود، وهي أعراف تتناقلها الأجيال لتصبح جزءاً من العقيدة المجتمعيّة، ومحتوى ثقافيّا له بصمته وفرادته، وقد تكون مُكتسبة أو مُستنسخة أو مُتوارثَة. وإنّ جزءًا وافرًا منها يُعدّ مُحاكاة للآخر، وصولاً إلى التّطبّع بطبيعته في أمرٍ من الأمور، أو مجالٍ من المجالات؛ فالإنسان كائنٌ متفاعلٌ مع بيئته، لذا تصبح العادة جزءاً من هويّتة، وتندرج في صُلب حياته، خصوصًا في علاقاته مع الآخرين، وهو ما نتلمّسه جليًّا في مجتمعنا البعلبكّيّ الّذي تؤطّر العاداتُ ملامحَه، بما لها  من أثر في ثقافة مجتمعنا وأخلاقه؛ ممّا ينعكس ضرًّا أو نفعًا عليه، وعلى سيْره وسيرته، وهذا ما يستوجِبُ الدّراية لإقصاء ما يسوء، وترسيخ كلِّ مبدأ نافع لتعزيز روح المواطنة والانتماء قلبًا وفعلًا إلى وطن طال جُرحه. وهنا يكمُن التّساؤل: ما هما العادتان الواجب تخليص الواقع البعلبكّيّ منهما بفعل مضارّهما؟ وما العادتان اللّتان يُفترضُ تكريسُهما لما لهما من مفاعيل إيجابيّة على الفرد والمجتمع؟

       من المؤكّد أنَّ الحياة العصرية بما فيها من وسائل تتطوّرُ بشكلٍ مطَّرد، تطالُ بتبعاتها ما يؤمن به الفرد، وما يستحوذ على مكانة في ذاته وبيئته، إذ تدفع، غالبًا، نحو التّغيير في السّلوك، ونمط التّفكير، لمواكبة المعاصرة ومستجدّاتها الّتي إذا لم يدركها المرء لزم حالَ القوقعة والرّجعيّة والتّخلّف. وهذه حالنا، إذ تَسجن بعضُ العادات أبناءً من مجتمعنا البعلبكّيّ لتحول دون انفتاح عقولهم على مضمون الحياة القابلة  للتّحضّر والطّموح، والتّعديل الإيجابيّ؛ ومنها الأخذ بالثّأرِ، فهذه العادة تتصدّر المشهد بويلاتها الّتي تكبّلُ أسرة المغدور والغادر بالأذى والمعاناة، وتشريد العيال، واستنزاف الاستقرار النّفسيّ. إلى جانب ترهيب الأطفال والنّساء في الأحياء بفعل إطلاق النّار المرافق كلّ عمليّة ثأريّة، احتفاءً، أو توعّدًا بالرّدّ. والختام سقوطُ أبرياءَ نتيجة الرّصاص الطّائش … وهذا ما يعزّزُ النّفور والفتن والتّشرذم  بين العائلات البعلبكّيّة، مع تكريس التّخلّف والجهل والعصبيّة والتّهوّر في مدينة الشّمس المحرومة من آلاف السُّيّاح الّذين يتهيّبون زيارة قلعتها وأسواقها، بفعل تغيّب الاستقرار والطّمأنينة، بعد سقوط هيبة الدّولة وحضورها وفاعليّتها لصالح الفلتان الأمنيّ…

     ولا شكّ أنّ عادة تزويج القاصرات، في بعلبكّ، تربو بتداعياتها الهدّامة على ما سلف، لأنّها تقوم على تزويج الطّفلات، بشكل رسميّ أو غير رسميٍّ، من دون بلوغ سنِ 18، وهذا يُعدُّ إتجارًا بالبشر، وانتحارًا غير إراديٍّ، ويشكّل انتهاكًا واضحًا للإعلان العالميّ لحقوق الإنسان. كما يشير إلى عجز القانون أمام الشّرع وحكم الطّوائف. فبفعل تغيّب ثقافة الوعي تُحرم الفتاة من النّموّ النّفسيّ والجسديّ السّويّ المتوافق ومرحلتيّ الطّفولة والمراهقة، وهو ما يدفعها إلى تعويض المرحلتين لاحقًا، حين يستبدّ بها الحنين إلى الأيّام المنصرمة، لذا قد تبدُرُ منها تصرّفات لافتة وغير لائقة بموقعيّتها. كما تتعزّز نِسب الأمّيّة والجهل في أوساط الفتيات القاصرات بفعل حرمانهنّ من استكمال التّحصيل العلميّ المُتقدّم.  إلى جانب ذلك، يؤدّي الفارق في العمر بين الزّوجين إلى مضاعفة احتمالات العنف الأسريّ الّذي يُمسي سبيل تواصل، يوتّر العلاقات العائليّة، ويراكم  الضّغوطات النّفسيّة لدى الطّفلة المُرغمة على تحمّل مسؤوليّة تفوق قدراتها الجسديّة والعقليّة، لذا غالبًا ما تفشل في تلبية جميع متطلّبات الحياة الزّوجيّة، وتُهمل أطفالها،  فيكون الطّلاقُ هو الحلّ المبغوض الّذي يُكلّفُ المجتمع البعلبكّيّ ضريبةَ تهوّرٍ جديدٍ…

       ولكن، في مقابل ذلك الأسى الّذي يحتكرُنا، ويغتال الأمل المنسرب نحو مآقينا، ليحيل الحياة قسوةً ومرارةً، يزخر المجتمع البعلبكّيّ بعادات تمنحُ الأنفسَ سبيلًا لممارسة الخُلق القويم، منها عادة الكرم المرتكزة على الوعي المؤكِّد أنّ الجُود والعطاء مِن كمال الإيمان المطهّر القلوب من لوثة الكراهيّة والتّنافر، والمعزّز المحبّة والتّكاتف والتّقارب بين الأسر البعلبكّيّة بتبايناتها المذهبيّة والطّائفيّة والتّوجّهات السّياسيّة. فطيبُ النّفس وسماحتُها وكرمُ الطّباع يبعثُ على التَّكافل الاجتماعيّ، والتَّواد بين عموم النّاس، لأنَّ الكريم يسخو بماله ورزقه وجهده ليكرمَ الآخرين بلا مِنّة، فيُضاعَف رزقُه بلا شحّ. فلكم تتمظهرُ لدينا المجالسُ واللّقاءاتُ الّتي تتآلفُ فيها الوجوه الخيّرة، وتُنحرُ الخراف، وتُطرَحُ الولائم في الأفراح، والأتراح،  وعقدِ المصالحات لتطويق التّباعد! والنّتيجة تعزيز ولاء الفرد للجماعة، بعيدًا من العزلة والحياديّة إلَّا في إطار المصالح الحسّاسة، والمسؤوليّات الخاصّة، مع مساندته في تشييد سدٍّ واقٍ يُحرّر النّفسَ من سطوةِ حبِّ التَّملُّك، ورذائل الأنانيَّة المقيتة. كما يُقلّل الكرمُ من الخصوم الحاقدين؛ لأنَّ خيرَ الكريم منشورٌ بينَ العموم، يثمرُ حُسْنَ ثناء النَّاس عليه، وفي ذلك راحةُ الضّمير، واستقامةُ النّفس…

      ولا يتغيّب عنّا السّلوك التّعاونيّ، فهو عمليّة تفاعليّة غايتها تقاسم الأعباء بين أبناء المجتمع البعلبكّيّ بأطيافه، بعد تهيئة الظّروف المؤآتية لتليين السّبل خدمةً  لمآرب  (الغايات) المريد ورغباته، وبذلكَ تُستدرّ المنافع المشتركة، لتعكسَ المشاعر المُليّنة القلوب والموحّدة الجهود للتّخفيف من التّوتّرات، مع توطيد الصّداقات، وسبل التّواصل والالتصاق بغية تنمية المهارات الاجتماعيّة والعاطفيّة الدّاعمة في تنشئة أبنائنا على مرتكزات الكفاءة الاجتماعية الّتي تُنمّي الثّقة بإمكاناتهم على إعادة هيكليّة السّلوك السّلبيّ المستشري في بيئتهم، وإحالتِه إلى إيجابيّ نافعٍ، وذلك عبر المبادرةِ القاضيةِ بجني ما يُحرّرُ الواقعَ من الهامشيّة الّتي تؤلمه، ودفعِهِ نحو الواجهة المعزّزة حضورَه، بعدَ استجماع الطّاقات والقِوى على ما هو خيّر، واستثمار الجوانب النّيرة في شخصيّة المنحرفينَ، لأنّ الإنسانَ يُفطرُ على الخير، لكنَّ تجاربَه وما يُعثّر دربه من تحدّيات وصِعابٍ يقودُه ، أحيانًا، نحوَ الشّرِّ والتّمرُّدِ على المُتعارف عليه من قيمٍ وأخلاقٍ ومبادئ دينيّة وقوانين… إنَّ التّعاون يُخصّب الأخُوّة، مع توفيرِالاستقرار النّفسيّ الباعث الأمان، إلى جانب طيف السّعادة الّتي تلوّن الحياةَ، وتؤكّدُ أنّ المرء ما خُلقَ هباء، بل لتأديةِ مهامِهِ الإنسانيّة…

        نخلصُ إلى أنَّ البعلبكّيَّ سيّد نفسِه، بمقدوره الانغماس في المهالك والمساوئ عبر التّمرّس في تعزيز فاعليّة العادات المجتمعيّة السّيّئة، وتكريسها واقعًا عصيًّا على الإصلاح. ولكنْ إنْ أتقنَ الإرادةَ الّـتي تُدمنُ المستحيلَ، فإنّهُ يُغلّبُ النّوايا المنطلقة من مكارم الحسّ الإنسانيّ، ويمنحُ الإصرار سبيلًا  لتغيير ما ساء من  طباعه، والاعتصام بما حَسُنَ منها، لأنّ الانحراف عن المألوف يستجلبُ المقت والنّكران والاستياء، ويحكُم المجتمع البعلبكّيّ دومًا بالرّجعيّة الّتي تؤخّر ركْبه عن الارتقاء والتّقدّم فكريًّا وسلوكيًّا.  إلى جانبِ إرباكِ إمكانيّة تكوين شخصيّةٍ ذات انتماء مجتمعيّ مرتكِزٍ على الوعي، لها هُويّتها المُساندة في ممارسة المواطنة فعلًا يحقّقُ التّكيّفَ مع خصوصيّة الذّهنيّة في مجتمعنا، لتطويع تلك الذّهنيّةِ كي تُقدِّسَ النّهجَ القويمَ المؤمنَ بإنسانيّة الإنسان، بعيدًا من الشّتات النّفسيّ، والضّياع المولّد الحِقدَ والجموحَ نحوَ الانتقام. إنَّ المسؤوليّة الموكلة إلى الجميع تُحتّمُ التّعويلَ على تَخلّقِ أبنائنا بمحاسن القيم والصّواب، بالمودّة والتّراحم فيما بيننا، لِنسفِ الأحقاد، بغية استعادةِ الشّمسِ كي تكرّرَ نورَها دومًا في “مدينة الشّمس”، لتُعاوِدَ المدينة سيرتَها الأولى منارةَ فكرٍ وحضارةٍ وحياة. ويظلُّ التّساؤلُ: ” ما المصيرُ المرتقب لو استمرَّ بعضُ شبابنا في إقصاءِ دور العقلِ المقرون بالوعي، واحتقار القوانين والنّظمِ؟!”    

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *