فؤاد رفقة… يسقط الشاعر وعيناه صوب الأفق

Views: 683

وفيق غريزي

فؤاد رفقة شاعر لبناني، اغنى الحركة الشعرية العربية بعطاءاته التي اتسمت ببعد الرؤية وعمق الفكرة. انه شاعر تراجيدي، حمل على عاتقه مسؤولية انقاذ الانسان من وحش المدنية الحديثة. عبر العودة بهذا الانسان الى البراءة الطفولية والسلام، الى الارض الأم، حيث الخصوبة والراحة الابدية. 

هذا الشاعر الذي ربطتني به صداقة عميقة منذ اواخر تسعينيات القرن الماضي، ابتعد عن صخب المنابر ليقف امام الشعر وجها لوجه. له فضاء شعري خاص، يحلًق فيه ما وراء الغيوم السوداء التي تحيط بالحركة الشعرية العربية، وتنذر بهبوب العاصفة. الكلمة الشعرية تحتوي لديه على تاًملات فلسفية وهي حسب قوله: “تبتعد في جوهرها عن التسلية والمناسبة والاحاسيس العابرة والمواضيع الجاهزة”. الكلمة الشعرية في جوهرها رؤيا كونية، من هنا فهي ترمي قارئها في حالة تأملية.

 ويؤكد الدكتور الشاعر فؤاد رفقة “ان هذا لا يعني ان الكلمة الشعرية فلسفية. الكلمة الفلسفية تميل الى المباشرة والوضوح والتماسك المنطقي، بينما الشعر يلجاً الى الرمز والايقاع والصورة المجبولة بالحياة والنبض، لكن رغم هذا الفارق الاساسي، فان كل من الشعر والفلسفة يحاول تجسيد الاشراقة ذاتها، انهما رفيقان صوب نجمة واحدة ابدًا ودائمًا في حوار”. 

في شعر رفقة مناخ تاًملي من الصعب تعيين او تحديد هذا المناخ الذي رافقه منذ البداية، وخلاصة هذا هي ان المناخ الشعري بعيد عن الاختيار، بحيث ان الريح لا تختار اتجاهها، والنهر لا يختار المصب، والشاعر لا يختار مناخه، انه مفروض عليه، انه قدره…

 القلق الوجودي

يتميز شعر فؤاد رفقة بالقلق العميق، ان قلق حضاري – وجودي، لأن الكائن البشري يتأرجح بين المتناقضات، بين الليل والنهار،بين الموت والحياة، بين الطمأنينة والقلق. القلق في تجربة فؤاد رفقة الشعرية ابعد ما يكون عن الذهنية والتجريد. وهو أبعد ما يكون عن الانشغال بقضية يومية عابرة، القلق عنده وفق ما اعلنه انا وجودي، بمعنى انه يتفجًر في اسئلة كيانية تبقى بلا جواب، كموجة دائمة الحنين الى الخليج ولا تصل. 

يتساءل رفقة: “ماذا لو أن ما كتبته حتى هذه اللحظة كان في الاتجاه المعاكس، ماذا لو كل ما احرقت حياتي من أجله كان في الاتجاه المعاكس؟ ماذا لو كانت حياتي كلها غناء في صحراء؟ انها اسئلة بلا اجوبة، ومن هنا ينبثق هذا القلق الكبير، الذي يحيط بكياني وحياتي ومصيري “. والى جانب هذا القلق الوجودي، يرى فؤاد رفقة غيوما حضارية تتكاثف وتحجب الشمس، الحضارة لديه مصدر قلق، لا بسبب دخانها وغبارها، ولا بسبب صواريخها وقذائفها، ولا بسبب مخابرها وسمومها، بل لأنها قائمة على مبداً “النفعية”، على مبداً الربح والخسارة، على العقلية الحسابية، الحضارة المعاصرة من وجهة نظر رفقة مصدر قلق، لأنها لانها تقيم الاسوار بين الوجوه وبين الاشراقات الكبيرة التي تفتح المناطق والطرق، الحضارة المعاصرة مصدر قلق لأنها ترمي الكائن البشري في النسيان، نسيان هذه الاشراقات….

الانتحار والموت

الموت حضور كبير وراسخ في شعر فؤاد رفقة وقد عبر عن ذلك في ديوانه “انهار برية”، وبعد هذا الديوان يصير الموت وترا من الاوتار، وثمة سؤال يطرحه فؤاد رفقة علينا هو: “ما الغرابة في الامر؟ اليس الموت محور الاحداث كلها؟ وهل ما حدث يزلزل الوجود الانساني اكثر من الموت”. ويجيب هو نفسه بنفسه فيقول: “اذا كان الموت اعمق التجارب البشرية، يستحيل على الوجود الشعري المرور به دون رؤيته، دون مرافقته والتحدث معه وإليه، والدليل على صحة هذا القول هذا هو الشعراء الكبار في التاريخ”. اما الانتحار فثمة من يقول انه انتصار على الموت، الفيلسوف الالماني فريدريك نيتشة مثلا، وهناك من يقول، بالشعر ينتصر الانسان على الموت، الشاعر الاميركي ادغار الن بو مثلا. فأين يقف صديقنا الشاعر فؤاد رفقة من هذين الموقفين؟ يقول لنا: “الانتحار اعتراف بعدم جدوى الحياة، وان الرحيل الابدي عنها خير من البقاء فيها، على هذا الاساس، لا افهم كيف ينتصر السقوط في الموت على الموت طبعا؟ هناك انتحارات في سبيل قضايا مصيرية، انتحارات تضمن لاصحابها البقاء التاريخي، لكن الى حين، ذلك ان سيول الزمن تجرف في نهاية النهايات جميع الاسوار والسدود”. والشيء ذاته ينطبق على الكلمة الشعرية، الكلمة الشعري تبقى ولكن الى متى؟ تصمد هذه الكلمة في زوابع الازمنة، وهل البقاء منارة في بال التاريخ يعني الانتصار على الموت؟ في قديم الزمان حاول غلغامش في الاسطورة البابلية الانتصار على الموت، لكنه ادرك في النهاية ان الخلود الحي المستمر ليس من نصيب البشر، وبـ غلغامش ظهرت الاديان مبشرة باستمرارية الحياة بعد الموت….

الحركة الشعرية الراهنة

الحركة الشعرية راهنًا تعيش في فوضى، إن دلت على شيء فانها تدل على حركة انحطاطية في الابداع الشعري، ولا سيما في هذا الكم الهزيل والتافه الذي تطالعنا به الصحف يوميًا ودور النشر، وكل هذا ياًتي تحت اسم الحداثة، والحداثة براء منه، وازاء هذه الفوضى يقول فوًاد رفقة: “في الزمن الماضي كان في الشاعر نادرًا، كان هدية الالهة، من هنا كان شعبه يحتفل بظهوره، أما عندنا في لبنان أو في العالم العربي، فالشعراء في عدد النجوم والرمال”. في ذاك الزمان كان الشاعر يقضي العمر وراء ابيات نورانية من الشعر، اما اليوم فالتسرع سيد الموقف. الشاعر الحقيقي يبتعد عن واجهة الاعلام، يبتعد عن المنبر والصالات والمسارح، يبتعد عن الضجيج. الشاعر الاصيل يعرف ان هذا كله باطل الاباطيل، الشاعر المبدع يعرف السهر وحيدا عند الينابيع، انه صوت صارخ في البرًية حتى يجف الوقت. 

فؤاد رفقة، وبعد العديد من المجموعات الشعرية التي اصدرها، ومنها مجموعة “جرًة السامري” وكان حتى رحيله عن هذه الدنيا ياًمل ان يلتقي بقصيدته عابر سبيل في ليل العالم، ان يقراًها، ان يجد فيها محطة في طريق عودته الى ظلمة الارض، ورحلة رفقة الشعرية مستمرة ولا وصول، وخلال هذه الرحلة يسقط الشاعر على الشوك وعيناه ابدا صوب الافق…

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *