قاعة الإنتظار

Views: 141

 د. قصي الحسين

( أستاذ في الجامعة اللبنانية)

 

قفل الموفد الفرنسي إلى لبنان، “جان إيف لودريان لودريان”، وزير الخارجية الفرنسي، عائدا إلى بلاده،  بصفر نتائج.

 لم تلن تهديداته مواقف المعرقلين لتشكيل الحكومة. ولم تنفع أقسى تحذيراته بشيء.

 رشحت لقاءاته بالبعض، كما شف تمنعه عن اللقاء بالبعض الآخر، عن أن آخر الدواء الكي.

طلب من بعض المعرقلين وجاهيا، و كذا الأمر من بعضهم الآخر غيابيا، أن ينتظروا العقوبات.

 فإستجاب الجميع لطلبه، ودخلوا قاعة الإنتظار.

 حبسوا أنفاسهم فيها. لا أحد يتكلم مع أحد. ولا أحد ينظر إلى أحد. وضعوا فقط أيديهم على قلوبهم يتأملون. (https://harborviewloft.com/) بإنتظار أن تصل لائحة العقوبات، تماما كما يفعل التلاميذ والطلاب، قبل توزيع الأسئلة عليهم، في قاعة الإمتحان.

  أنا تذوقت مثلهم، طعم الإنتظار الصعب:

 مرات ومرات، في قاعة الإمتحانات.

 و مرة واحدة في حياتي، في “قاعة الإنتظار “. 

 لسوء حظي كنت و صحبي، أثناء إحدى الزيارات التي دعينا إليها، في الجماهرية العربية الليبية الشعبية الإشتراكية العظمى، بإنتظار دخول موفد الأخ القائد معمر القذافي، ملك ملوك إفريقيا، علينا.

  أحدثكم عما حصل معنا، نحن، أعضاء الوفد الجامعي:

 أخطرنا قبل ذلك بيومين. أتوا لإصطحابنا فجرا، قبل يومين. وأخذوا يتنقلون بنا بالسيارات لساعات طويلة. ثم نؤمر للإنتظار. نظن أن الفرج آت. غير أننا، نعود للخروج بالسيارات لساعات، من جديد. بصحبة جديدة.  وندخل من جديد “قاعة الإنتظار”.

 خلال يومين، ونحن نساق من قاعة إلى قاعة مثل قطيع طائع من النعاج، فقط لمقابلة رسول الأخ القائد. كنا نساق كما يساق المساجين، أو المعتقلين. أو المشبوهين.

  كنا وصلنا إلى القاعة السادسة، منتصف ليلة اليوم الثاني.

 منع علينا التكلم مع بعض، على سبيل الحيطة، وكان عددنا ينوف عن العشرين.

 في “قاعة الإنتظار”  الأخيرة هذة، أغلقوا الباب علينا. وأطبقوا الصمت أيضا ، بكل قسوة. وخرجوا. وما عدنا نرى أحدا من “أهل الصحبة” الأخيرة.

  هي ست ساعات مريرة، لم أذق وأصحابي مثلها في حياتي.

 ففي السادسة من فجر اليوم التالي، دخل “موفد الأخ القائد” علينا.

 كان الرجل “ضحوكا” وزع إبتساماته الخفيفة على  مجموعاتنا، دون أن  يحدق بأحدنا. مرر يده علينا مصافحا، واحدا واحدا. ثم دعانا للجلوس، ونظره إلى السقف.

 بال نصف صحبي، جلوسا على مقاعدهم.  ومن كان شجاعا منا، خرج ببوله، إلى السور المجاور.

 ساعتان فقط، كنا تحت أنظار موفد الأخ القائد.  كان يوزع أنظاره علينا، كما توزع حبات الزبيب، من يد عمياء، على مجموعة من الأطفال، يرتجفون من شدة الفضيحة والخوف.

  كان “موفد الأخ القائد” ينظر إلى سقف الغرفة، بعدما يصيب مجموعة منا، بنظرة سريعة، ثم  يعود سريعا، يثبت نظره في السقف .

 كان يرشح علينا كلامه من السقف. وأما نحن، فكنا نرشح من تحت على مقاعدنا، وتحت تحت مقاعدنا، خشية الفضيحة و من شدة الخوف.

 لم يستطع معظمنا،  أن يرتشفوا فناجين القهوة، ولا كاسات الشاي التي دارت علينا خشية زيادة تبولهم.وأما الآخرون، فكان واحدهم يقول: “أنا الغريق، فما خوفي من البلل”.

 لساعتين، ما عرفت أطول منهما في حياتي، وأنا أنتظر وصحبي، الإفراج عنا. ننتظر العودة إلى الفندق.

 وحين  إنقطع موفد الأخ القائد عن الكلام، “أدرك شهرذاد الصباح”، فعدنا إلى الفندق المتاح. كل يحدث نفسه: ” لقد ظفرت من الغنيمة بالإياب”.

 السياسيون المعرقلون لتشكيل الحكومة في لبنان، والمشتبه بهم ، والذين يشتبهون هم  أنفسهم بأنفسهم. جميعا هم في “قاعة الإنتظار”، بعد قفول موفد الأخ الرئيس، إيمانويل ماكرون، إلى باريس.

 السياسيون اللبنانيون، أغلب الظن إذا،  في قاعة الإنتظار: إما جبناء يرشحون من تحت، من شدة الخوف والفضيحة، وهم على مقاعدهم؛ وإما يتسللون خفية، إلى سور قصر الصنوبر، يفشون خلقهم.

 جميعهم مثل التلاميذ والطلاب، في قاعة الإمتحان دون سن البلوغ. ينتظرون، لائحة الأسئلة. ينتظرون لائحة العقوبات.

 أتفهم حقا، موقفهم القاسي و الصعب، في “قاعة الإنتظار”.

 أتفهم إنتظارهم في هذة الأيام؛  لأيام طوال أم قصار خشية البلل.  ولو أن بعضهم يهمس في عبه: “أنا الغريق، فما خوفي من البلل”.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *