أنور سلمان… شاعر المراًة والغزل

Views: 794

وفيق غريزي

 

كان لي بمثابة الأخ، وكان صديقا وفيا، وزميلا في الحقل التربوي، ورفيقا في الحقل الابداعي الشعري. انه الشاعر الرقيق والشفاف انور سلمان، الذي آمن بان علاقة الشعر بالحياة هي العلاقة التي وضعها ارسطو وعاد اليها الشاعر الانكليزي ووردوورث ولو بشيء من الفرق والتمايز، اي ان الشعر وسيلة للمعرفة من نوع ما، فهي عند ارسطو وسيلة لكف التاًلف الذي تملكه الحياة في عالمه، بينما هي عند ووردوورث اداة للادراك الحدسي، في وسعها ان تحمل الحقيقة، لا الحقيقة الفردية والمحلية بل العامة. حية في القلب عن طريق الحماس العاطفي. الشعر يبقى الى ان يثبت البسيكولوجيون دعواهم الاداة الوحيدة التي يستطيع بها الانسان كفرد، ككائن وحيد، واثق ومضطر الى الوثوق بما يجابهه هو نفسه، وان يدرك اختياره بذاته. فليس على هوًلاء الذين يمارسون فن الشعر في عصرنا الراهن، كتًاب “الشعر السياسي” ومحاولة حل مشاكل عصرهم باشعارهم، بل عليهم ممارسة فنهم لاجل اغراض وجدانية – ذاتية تحمل سمات الشمولية.

 الشعر هو الذي يجمع بين غايتين: اللذة العقلية والشعور النفساني والثانية الارشاد والالهام الذهني والفكري والضميري. بعض الناس يقيسون شاعرية الشاعر بمدى قدرته على الاغراب والبعد عن الناس، كاًنهم يقيسون الشاعر بمدى فشله في ان يكون مغرورا، لكن ما اسهل الفشل، وما اسهل الاغراب، الموهبة الحقيقية تتجلًى وقبل كل شيء في ذلك البحث المضني الدوًوب عن الشع الحقيقي. او عن الشعر البسيط، والبساطة هنا، معناها الحميمية، معناه البكارة، معناها البداهة، ليس هناك ابسط من البداهة، لكن البداهة هي البرهان الاول، البداهة هي العنصر الذي لا ينقسم، وهي مادة العبقرية.

هذه البداهة وهذه البساطة وهذا الوشي الطبيعي هو صنعة الشاعر انور سلمان. ان انور سلمان وعبر ديوانه ” ابحث في عينيك عن وطن” صاحب قضية، وعاشق المراًة برسم الكلمات، وينطق بلسانه جميع العشاق، وبكل الافكار والمعتقدات النهضوية، يصوًر بدقة الواقع والحلم، الحقيقة والخيال، ويعبًر عن الذات الفردية وعن الاخر…

 

آلهة الشمس

انور سلمان شاعر قضية كما ذكرت اعلاه، والمراًة الجزء الاكبر من هذه القضية، فهي يكن ان تكون رفيقة مخلصة، او ارض ثورية، او الحبيبة والعشيقة، ان يكتب للمراًة المعشوقة، المراًة المعنوية، المراًة الانسان – الحبيبة. يقول: “احبك اكبر من ان يعطى تحديدا في زمن او عصر لكاًنك من الهة الشمس. وزرت الارض… بليلة قدر”.

 لقد شخًص انور سلمان المراًة الحبيبة عن طريق جعلها قصيدته المميزة. جمعت الصورة الشعرية بين نقيضين التقارب والتباعد. ولكن جمالية التقارب اسدت على الصورة هالة نورانية، حيث ان التعبير المناسب، اذا كان مناسبا كان جميلا، لان الجمال هو القيمة المحددة للتعبير والصورة.. فطلب اللقاء مع الحبيبة هو استمرارية للحب.. هذه السيرورة الحياتية، هذه الشوقيًة، فالشاعر في شوق دائم للحبيبة، لذلك رسمها دون ان يحدد هويتها، فهي كاًنها حلم اثيري يدغدغ مخيًلة الشاعر فيجعله في هيمان سحري. إن هذه المراًة الحبيبة تتحد في خلايا الشاعر اتحادا روحيا، فدورة العشق ومنتهى الحب ان تكون في دمه، ونحن لا نجد الا هذه الروحانية المنبعثة في هدوء واستكانة، بعكس ما نجد في شعر نزار قباني من تفجر الحرية والشهوات الحسية – المادية.

 إن تتويج المراًة بهذه الهالة النورانية لكانها من آلهة الشمس، ليجعلها بعيدة عن عالم المحسوسيات والترابيات، على الرغم من اشتراكهما مظاهر الطبيعة، ولعل هذه المظاهر هي على غير ما يراها ويحسها الانسان العادي. فيقول: ” كاًي مسافر احط الرجال مساء باًرض يخيًل لي انها وطن الشعر حين يصير عصيًا على الكلام فاًضرب فيها خيامي واحسب اني عليها ضممت الروًى الهاربة وستعرف لصوتي هديل الحمام واستويت على عرش شاعر”. هكذا، هذه الارض هي رمز المراًة التي احتلت شعر انور سلمان، هي ليست امراًة خيالية وهمية، بل هي حقيقية، من لحم ودم ومشاعر تذوب لهفة وتموت عشقا وكبرياء، ولكنه كالشعراء الرومانسيين يضفي على جمال المراًة جمالا من عندياته، لانها بالنسبة اليه تتصف بخصائص جمالية ساحرة…

 

المراًة ليست قصيدة

المراًة عند انور سلمان ليست ديكورا خارجيا، انها صوت العاصًفة، والخيار الوحيد في زمن ملعون، وكما للشرق نماذج عشق مستحيلة، هكذا تطور الغرب وفي ذاكرته اسماء عشاق كبار، الحضارات تهتدي بضوء الحب الخافت، انه دمها ونسغها وتجدًدها، فالحب علامة لعودة ابدية للاشياء، وتوكيد الذات المعذًبة في آلام ابتداعها وجودا جديدا. انه ايضا، قياس للمجهول، تشابك الزمني باللازمني، والحياة بالموت. فحقيقة الحب كما تظهر في نصوص انور سلمان عبر ديوانه مرتبطة بضرورات انسانية، فالشاعر العاشق لا يستطيع ان يوصد بابه امام نزيف حاصل في مجتمعه نتيجة لاحقاد او خلل عاطفي عام، والمستقبل هو حيًز الحب الحقيقي، يولد من آلام الحاضر وتعثراته بعد ان يكون المجتمع عاش “اوديسة” الدم وشفي من اوصابه.

 الحب ليس عاطفة قد مضت، انه تتويج للوجود على الرغم من تململ طعم الموت في افواه العاشقين، الحب، الزمن، الموت، اقانيم شعرية توًكد حضورها في ماًساة العالم، وتمزًق اصحاب المثل والطوباويات، وبكلمة موجزة الحب ليس تعبيرا عن حاجة الى المطلق، انه المطلق: “فحينئذ تدركين باني مضيف وما زلت اسكن ضوء الحروف توشح ليلك بالاغنيات وتغسل وجهك بالياسمين وانك من قبلها لم تكوني ومن دونها انت ماء وطين”. ان المراًة هي انثى من ماء وطين، ولكن حروف الشاعر حوًلتها الى شبه آلهة، وهذه النصوص رغم ذلك تظهر الصورة الشعرية التي تجمع كل صفات الحسن في المراًة، صورته فيها، ليجعلنا نرى الموروث متحدًثا عن قناعة فيها دون ان يحتاج الى بيان، ثم تندرج الى صورة شاملة في نصوص متتالية….

 

الحب القضية

من المسلًم به ان الحب وأموره شغلت شاعرنا انور سلمان، حتى رحيله عن هذه الدنيا، فهو كتب واستمر يكتب شعره الغزلي برغبة طاغية، وقد نجد في نصوصه خطة طويلة لحب لا يعرف الارتواء، ولا ينتهي، وهذا ليس بالغريب، ان تشغل المراً ة شاعرا عميق الاحساس كاًنور سلمان. ونجد انفسنا نقراً هموم الحب ومتعلًقاته في تفتح حياته في ديوانه الاول “اليها” حتى بلوغه الستين ونيف في ديوانه ” أبحث في عينيك عن وطن”.

غزل انور سلمان من دون قيود او حدود، كل امراًة تقراًه تشعر انه كتب لها، ويدعوها الى الحب على خفاء ولا اعذب. من يفهم ويدرك قيمة الحب والمراًة في حياة هذا الشاعر، يفهم التفاعل الانثوي، وتساهل الشاعر حرصا على الهوى، ولا يكن رضاه على الانثى الا خوفا على الحب لا على مرور الزمن،ولا غرو فالحب ملء عمره ودنياه، لذا، يلتفت حينا بعد حين الى الطبيعة وهي روعة كالمراًةوالحب. ” ما زال الهوا طفلا…. على اعوامي الستين يستلقي…”.

 

المراً ة تكتب

في بعض نصوص ديوان انور سلمان الشعري، تبداً المراًة رحلة الكتابة. لتعبًر عن حاجاتها النفسية والروحية والوجدانية، وتقفز قفزة جريئة فوق حواجز الصمت والكبت الاجتماعي، تكتب لحبيب تخلًف عن وعوده، وتناسى كيانها، فحوًلته الى كاين مجهول الزمان والمكان والهوية وتصرخ به: “ولا تنتظرني لم اعد رصف المواعيد التي تاًتي اليها حينما انت تريد “. المراة الحبيبة لم تعد لعبة يلهو بها الحبيب ويجدها حين يطلبها هو، بل هي انسانة لها على الحبيب حقوق كما له عليها حقوق. يظهر لنا انور سلمان انه ينطق المراة بما يهجس بهذي نفسها او تتمنى، في اعماق وجدانها، كما يجعلها تنطق بالذي يعتمل في نفسه، لهذا ارادها ان تصرخ باعلى صوتها به لاثبات الذات: “لا… لا تسلني ما اريد يا زارع عينيً في حدائق الاحزان، لم يبق شيء كي اريد، لم يبق رغم منك حتى رهان “. 

نعلم ان المراًة روح وجسد، لها اهواوًها ومشاعرها وطموحاتها، جسد له رغباته وحاجاته.. وهي فوق ذلك عقل مدبر ولديها امكانات نفسية وذهنية وفكرية كبيرة، كما هي قادرة على الكيد والقهر، قادرة على البناء والتسامح وتضميد الجراح، وهي قادرة ايضا على الحب والانصهار، مثلما هي قادرة على الكره والنفور. لقد اثبتت المراًة عبر التاريخ انها قادرة على مضاهاة الرجل في ادارة مختلف الشووًن الخاصة والعامة….

التعلًق بالمكان

“ضيعتنا للصيف اغنية تمشي على جفني لياليها”. تداعيات الذاكرة التي تتساقط من الماضي البعيد، من قرية الشاعر “الرملية” قضاء عاليه، توًكد انا ان تلك الروابط التي تربطه بالمكان الذي ولد فيه، وفيه قضى طفولته وفتوّته، ما زالت متينة، وهذه التداعيات تقوده الى الطبيعة المتمثلة بغربته. حيث كان يشعر باحضانها بالغبطة والحبور، وكانت نفسه المنهوكة تجد الطماًنينة في الاستغراق بهوى الطبيعة في هذه القرية الجميلة. والدخول الى هيكلها لعبادتها، حيث يجد اللغة السحرية تتصاعد من افواه العصافير عند الشروق اناشيد ساحرة. ان الذكريات التي استطاع انور سلمان استعادتها بمساعدة التاًمل الشعري غير محدودة لان وظيفة الشعر الكبرى هي ان يجعلنا نستعيد مواقف احلامنا وذكرياتنا. وقرية انور سلمان بالنسبة اليه اكثر من مكان، بل هي تجسيد لاحلامه ورؤاه…

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *