مِنطاد فلسطين

Views: 425

د. ربيع الدبس

 

في تحليقٍ شعريّ مرتفع، يقول الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي الذي غادرنا مطلعَ هذا العام في عَمّان، متحسراً على يقينه من عدم انغراسه يوم الرحيل في تراب قريته «الغسّانة» قرب رام الله: «كأنّ الطيور التي هاجرَتْ/هكذا ليلَ أقفاصها/ كلما خبطَتْ في جهات الهواء/أبصرَتْ قفصاً باتساع السماء».

ألا يُشْبه هذا النشيج سوداوية بدر شاكر السياب في نظرته الكسيفة إلى مأساة البصرة المتاخمة لقريته «جيكور»، ونهْرِها «بُوَيْب» الذي غاضَ لولا جريانه بدموع القهر والجوع والعذاب؟ من دون أن ننسى احتلال بريطانيا لكل من فلسطين والعراق تحت يافطة الإنتداب ، قبل أن تتسلّم العصاباتُ الصهيونية الأولى من رديفها، الجيشِ الإستعماري الوفيّ لوعد بلفور والمنتصر في الحرب العالمية الثانية، مقاليد فلسطين المخذولة من الأشقاء قبل الأعداء، وقبل أن يتسلّمَ الأميركيون وموسادُهم ثروات ما بين النهرين من «عُلوج» النظام المنهار.

 

لعلّ السؤال الذي يقفز إلى أذهاننا جميعاً: هل ما يجري في القدس حالياً مفاجئ أو ابن ساعته، أم أنه كان متوقَّعاً منذ عقود بعد أن احتل الصهاينة فلسطين بأسرها منذ ما قبل 1948 وما بعد 1967؟ لقد استعمر شتات اليهود الموزعون حول العالم والمنضوون في المشروع الجهنمي للحركة الصهيونية أرضَ فلسطين التي أسموها «إسرائيل». واعترفت الأمم ،المتحدة علينا، بتلك الجريمة النكراء التي راكمتْ جرائمَ القتل والقمع والتهويد والتزوير، التي يتجاهلها الغربُ المُتأسْرِل ويشارك فيها عربٌ تَعَبْرَنَ وجدانُهم قبل لسانهم فأضاعوا البوصلة وفقدوا ماء الوجه وبقية الحياء.

كتب لي، أمس، صديق مثقف من «بيرزيت» مقيم في باريس: «الشعب الفلسطيني والمقدسي معطاء منذ أجيال، والقدس لها حارس لا يُهمِل»… ملاحظة أقلُّ ما يقال عنها إنها على وجدانيتها في الموقف واثقةٌ في الرؤية. وصحيح أن في المشهد السياسي العالمي إِرهاصات تَحَوُّل في الموقف بعناوين إنسانية، لكنْ ثمة أسئلة أخرى ترتسم في البال: هل فلسطين مِنطاد إفتراضي يتسلقه وصوليون،ويتردد على سلّته المُعلّقة سائحون لا يميزون بين الحق والباطل ولا بين العِزّ والذل؟ هل ستبقى فلسطين تصريحاتٍ وبيانات تقابل جدار الفصل العنصري بمسرحية متواصلة من التنازل والتخاذل؟ هل بات بيتُ المَقْدِس مقصوراً على إحياءٍ طقسيّ في كنيسة القيامة أو على مُصَلّيات متنقلة في باحة المسجد الأقصى؟ أليست القدس جزءاً من كُلّ، وفرعاً من قضية؟ أليستْ غصناً ريّانَ من الدوحة الفلسطينية المترامية الأطراف بحراً ونهراً، عبيرَ برتقالٍ وشذى صعتر،جبلَ زيتونٍ وبابَ عمود، غزّةَ فداءٍ وشلالَ شهداء، جليلاً حبيباً وضفةً أَحَبّ؟

 

إن مدينة القدس ومسألة فلسطين ليستا ملفاً وهمياً في مِنطاد هوائي، بل هما أمانةٌ من الحق الطّعين ووديعةٌ من الدمِ الذي لا يُقَدَّر بثمن، حتى لو ظن نفرٌ ضالٌ من شعبِنا ومسؤولينا أنّ الكفاح الفلسطيني وُئِدَ في «كامب دايفد»، وأنّ الفاتحة قُرِئتْ عن روحه في صفقة القرن… إن القدس الشريف نورٌ فيّاض ولَهَب مُقدس. أما فلسطين الأغلى من حبْل الوريد والتي لا تكتمل دورة عناقها من دون مزارع شبعا وتلال كفرشوبا ومرتفعات الجولان وبحيرة طبرية، فسيبقى نداء حناجرها يهتف على إيقاع المقاومة الهادر: لِتحيَ الأمة…لِيحيَ الوطن…لِنحيَ كِراماً أعِزّاء.

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *