إلى روح أحمد الأمين “السيِّد” اليساري الجنوبي/الطرابلسي: مسيرة نضالية مُبتداها “باب التبانة” وخاتمتها شقرا الجنوبية!

Views: 280

د. مصطفى الحلوة

 

في باب التبّانة- أكثر مناطق طرابلس فقرًا ومعاناةً- تشكَّل الوعي الطبقي، لدى د. أحمد الأمين، الذي غادرنا إلى الأبدية، منذ أيام معدودات.

عرفتُ أحمد الأمين، من بُعد، ستينيات القرن الماضي، إذْ كان ثمة تعاملٌ بين المرحومين والدَينا، في إطارِ عملٍ ذي صلةٍ بالتجارة. ولم تتوثَّق علاقتي وصداقتي بأحمد إلاّ في العام 1979، إبّان الحرب الأهلية اللبنانية ، حين انخرطنا- نحن الإثنين- في مسيرة نقابية نضالية، أطلّ عليها راحلُنا، من بوابة العمل السيّاسي، وأطللتُ عليها، كيساري مُستقل، وقد كنتُ حينها ممثِّلاً لثانوية حلبا الرسمية في “مجلس المندوبين” العائد لـ” رابطة أساتذة التعليم الثانوي الرسمي” في لبنان، ومن ثمَّ نائبًا لرئيس هذه الرابطة، على مدى سنوات مُتعددة، وحتى العام 1992.

.. في العام 1979، قبل انتقال أحمد إلى التعليم الجامعي، مُتعاقدًا، ومن ثمّ متفرِّعًا، كان أحد القياديين النقابيين في التعليم الرسمي الأساسي، إلى موقعه القيادي شمالاً في “منظمة العمل الشيوعي”، وممثلاً لها في “هيئة التنسيق” التي أدارت شؤون طرابلس، إبّان الحرب الأهلية، برئاسة الرئيس الشهيد رشيد كرامي.

وقد كُنّا، نحن الاثنين، في قيادة “التجمع الوطني للعمل الاجتماعي”، الذي تولّى، بكفاءة عالية، الإشراف إداريًا على الحياة اليومية في طرابلس، يوم اشتدّ الحصار عليها من كل الجهات، ولم يبق إلاَّ البحر منفذًا لها على العالم!

.. العام 1979، شكَّل محطّةً مفصليةً، في نضالنا التربوي، مع مجموعة من النقابيين البارزين، في قطاعي التعليم الرسمي والخاص (من أمثال: النقيب أنطوان السبعلاني، صلاح صيداوي، المرحوم زيد زيدان، غازي الأدهمي، ميشال الأشقر، يوسف زيدان، المرحوم فوزي نعمة، رضوان رستم، جوزف حالوت”)، فقد شكّلنا “مجلس التنسيق لقطاعات التعليم في الشمال”، التجربة التربوية النقابية الرائدة، التي أرهصت بقيام “مكتب العلمين” في لبنان. وكان لهذا “المجلس” أن يتولى، “شعبيًا”، إدارة القطاع التربوي في طرابلس، طوال فترة الحرب الأهلية، وسدّ مختلف الثغرات التي اعترت المسيرة التربوية، عبر استحداث أُطُر تعليمية بديلة، واكبت الجهود الرسمية المحدودة، مما حال دون توقف العملية التربوية. وقد غدا هذا الإطار الجامع، الذي انضمت إليه الجامعة اللبنانية شمالاً، في مراحل متقطعة، المرجعية النقابية المطلبية، لكل ما يعود إلى الهيئات التعليمية المنضوية إليه، بعد أن وضعت الحرب الأهلية أوزارها.

وقد كان لهذه التجربة الفذّة أن تلفظ أنفاسها، في السنوات الأخيرة من القرن الماضي، ولتكون “هيئة التنسيق النقابية” الإطار النقابي الجامع لكل قطاعات التعليم ولموظفي القطاع العام وللاتحاد العمالي العام.

لقد كان أحمد الأمين كادرًا قياديًا فاعلاً، عبر هذه الأطر التي أتينا عليها. لا بل إنه باشر حراكه السياسي وفي المجتمع المدني، طالبًا من على مقاعد دار المعلمين والمعلمات في طرابلس، وحتى الرمق الأخير من مسيرته التعليمية، التي امتدت على أربعة وأربعين عامًا!

من مشهديات هذه المسيرة التي عاينتُها بنفسي، تحوّل منزله في طرابلس، خلال الحرب الأهلية، إلى “غرفة عمليات” لمجلس التنسيق لقطاعات التعليم. وقد شكّل وزوجته الصديقة والزميلة د. عاهدة طالب الأمين ثُنائيًا نضاليًا، قلّ نظيره. فقد كنا نقضي لديهما ساعاتٍ طوالاً (على تخطيط وتنظير وأكل وشرب..)، ونحن نضع الخطط الآيلة إلى إنجاح حراكنا النقابي، وبما يكفل استمرار العملية التربوية في أدائها المطلوب.

وإذْ تزاملنا في الجامعة اللبنانية شمالاً (قسم الفلسفة)، فقد كان نضالٌ من وجه آخر، عبر الفعاليات البحثية، فكان العهد الذهبي لهذا القسم، لا سيما حين تولى د. أحمد رئاسته، ناهيك عن الدور الذي أدّاه، من خلال “الاتحاد الفلسفي العربي”، بعد أن تم نقل مقره من بغداد إلى لبنان، لتعرُّض هذا المقرّ للتدمير على أيدي الغزاة الأميركيين في العام 2003. وقد أُعيد تأسيس “الاتحاد” لبنانيًا، وكان أحمد أحد أعضاء الهيئة التأسيسية. ولقد عملنا سويًا، في قسم الفلسفة شمالاً، بالتعاون مع “الاتحاد الفلسفي العربي” وعمادة كلية الآداب ورئاسة الجامعة اللبنانية، وبدعم من المجتمع الأهلي والمدني في الشمال، لا سيما “اتحاد بلديات الفيحاء” وكانت مؤتمرات فلسفية مُتعدّدة، لبنانية / عربية/ دولية، انتصرنا عبرها للبحث العقلاني والفكر الحرّ.

.. إن مسيرة راحلنا د. أحمد الأمين المديدة، تستحق التوثيق، ليس من منطلق فرادتها وبعدها النضالي- وهي مُتفرِّدة- بل لأنها تعكس مسيرة جيل، من الزمن الرومانسي الجميل! هو جيلٌ كرّس نفسه لثورة لم تأتِ، وكان يحسب أنها لا بدّ آتية!

جيلٌ كان يرتقبُ تغييرًا جذريًا، حلُم به،وأهدَرَ في سبيله نهاراتٍ وليالي، وهو يذرفُ دمعًا ويسفح دمًا، وكان أن وجد نفسه ، نهاية المطاف، وهو يتردّى في أتونٍ من خيباتٍ دونها خيبات!

.. أحمد الأمين.. أخي وصديقي ورفيق مسيرتي، على مدى نيفٍ وأربعة عقود، أشهدُ أنك ذلك السيِّد “غير المعمَّم”، المتواضع، المناضل، الأمين لمبادئه، حتى في زمن الخيبات، القاتلنا خلقًا رفيعًا ودماثةً ، لا نشهدهما إلاّ لدى الأخيار، الذين يصطفيهم الله، ليكونوا قُدوة لأبناء مجتمعهم!

.. أشهدُ أنني لم أسمعك يومًا تتفوّه بكلمات معيبة مبتذلة- درجنا جميعًا على تردادها في ساعات الغضب- ولم أرك تنِمُّ على أحد!

ضحكتك المجلجلة ، لا زالت تتردّد في مسامعي! وما شاهدتك ساعةً إلاّ مُنفرج الأسارير، تفتر عن ابتسامة مُريحة، تتنزّل علينا بًرْدًا وسلامًا ، على رُغم كل العذابات والآلام، التي انتابتك في السنوات الأخيرة!.. هي سِماتُ “الأئمة”، سماتُ أجدادك، في جبل عامل! بل هي جيناتُهُم المتوارثة لديك، كابِرًا عن كابر!

من مدينتك الثانية طرابلس، استمطر الرحمة على روحك الطاهرة، مع جميل الصبر للصديقة العزيزة ،توأم روحك ورفيقة نضالك د. عاهدة، وللأبناء د. هادي، ود. هالة، ود. سارة، ولذويك ، ومحبّيك وقادريك ، ولأهل جامعتنا الوطنية.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *