عناية جابر… إضاءة الرؤية الإنسانية في الشعر

Views: 708

وفيق غريزي

 

 الشعر قبل كل شيء رؤيا تضيء ابعاد تجربة ما، دفق قادر على تجسيد هذه التجربة في لغة مشحونة بالرموز والدلالات. وهو في الحقيقة صفة تسمو على كل شيء، ونحن لا نستطيع أن نعرف هذه الصفة بدقة. كما لا نستطيع ان نعرف الجلال الذي يكتنفها..

 إن الشعر زهرة واريج لكل المعارف والافكار والمشاعر والاحاسيس العاطفية وابجدية الانسانية. وفي تجربة الصديقة التي رحلت عن هذه الدنيا منذ ايام، من دون وداع الاصدقاء والاهل والاحباء، الى دنيا الخلود، في تجربتها عبر مجموعتها الشعرية “امور بسيطة” ان الكلمة التي تسمى المبروءات اي توصلها الى وضع المعرفة، والشاعرية الاصيلة. هي الدهشة امام معطيات الوجود والوجدان او انهار، وهذه المعطيات الى ما كانت عليه في البدء قبل ان يتناولها العقل المحلًل الواعي، من طريق الكم والكيف في تجارة البشر.

 والشاعرة عناية جابر المتعددة المواهب، والتي دخلت عالم الشعر، واتخذت فيه مكانتها المميزة، آمنت منذ البداية بأن واجب الشعر خاصة والفن عامة، ان يستكشفا ويحددا للانسان امكانياته في المستقبل بصورة واسعة وشاملة. وقد جعلا من الضروري وضع جميع امكانات الحياة ومصادرها موضع الاختبار والتجربة، وكانت عناية جابر كلما مرّ الزمن كلما تطورت شعريا، وكلما ازداد تملكها لعنانه. ففي ديوانها “امور بسيطة” نجد شعرها عبارة عن ناي يطلق انينه من اعماق النفس، ويرتفع صعدا ليملأ الاجواء الحانا، وهذا الشعر وان بدا للوهلة الاولى تجربة شخصية حميمة، فهي تمتد لتصبح شاملة، والتجربة لديها على نقيض تجارب معاصريها من حيث العمق والشفافية والصدقيّة…

عناية جابر

 

الانغماس بالطبيعة

الطبيعة هي ينبوع الجمال، لأنها رسمت بيد الصانع الأكبر، ولهذا فقد استلهمها الكثير من الشعراء والمبدعين، وجوهر نصوص عناية جابر في هذا الديوان، انما هو انفعال ذاتي امام العالم المحسوس، فالطبيعة هي اللبنة الخصيبة التي يتناولها خيال الشاعرة، تقول: “بعصابة من البرد شدّ الشتاء رأسي في حاجاته الثلجية وما انتظرت احدا ولا حتى…”.

إن عناية جابر في هذا النص على غرار الشاعرة “اناوي نواي” احلت نفسها في الطبيعة وحلّت الطبيعة في نفسها، حتى انها توصًلت الى الحلولية شبه الشاملة. انها تغني ذاتها وتنكفئ على ذاتها، كأنما هي تطفو المياه التي تصعد وتصعد ثم تعاود بهبوطها الى نقطة الانطلاق: “الشمس الشديدة مالكة شكل المتعة”. فالشمس هنا مجازًا، انها في الحقيقة المرأة.

فالمرأة والشمس يكسبان الوجود والدفء والحياة والمتعة، ولولاهما لما كان هناك حياة خصيبة. وفي لحظة يتحوّل كل شيء لدى الشاعرة الى عدم، كأنها تستقي هذه الرؤية من “نشيد الاناشيد”  لسليمان الحكيم، حيث الوجود عدم، وقد يتحوّل الى عدم. تقول عناية جابر “كل شيء الى بخار فقط المطر والظلام”. لماذا استثنت عناية المطر والظلام؟ لأن المطر هو نطفة السماء لاخصاب رحم الأرض، فاذا زال، زال الوجود من الوجود، والظلام اذا انقضى وتلاشى لن نرى النهار.

إن عناية جابر ترغب اكثر ما ترغب في تزويد الحياة بجمال ينبثق من عناصر بعيدة الاحتمال بفعل قوّة محوّلة كبيرة، او عملية ابتكار صعبة، او بفعل سحر يعتصر الجمال حتى من الاشياء القبيحة. وهي ايضا من خلال نصوص ديوانها هذا تؤكد بما لا يقبل الشك، انها تسعى وراء الحياة، حياة المعرفة الشعرية النقية، الصافية، التي وحدها تفض اسرار الكون دون ان تفرغه من اسراره…

العالم الروحي والعالم الحسي

إن الحب العاطفي هو البديل الوحيد لبلوغ الروحانية عن طريق الحياة اللادينية، وعناية جابر تتدرّج من عالم المحسوسات – المادية الى عالم الروحانيات المعنوية، والرجل الذي تناديه من ضفة الواقع، يعيش في ضفة غير مرئية حيث يتلفّع بالضباب النوراني، تقول عناية: “من ضفة الى ضفّة ندخل ضبابا لا ينتهي”. وفي حالة اخرى لا تستطيع ان تعبّر عن اللجوء الى عالم الذات والجسد، للبحث عن حالة من النشوة والابتهاج تسمو بها فوق حالة الانسان المؤلمة: “بيني وبينك لعب مستور ونعيم مربك كلانا بيت شعر ازرق يدوّي على الورق”.

 إن لعبة الحب الخفية توحي للمبدعين بشعلة الالهام القدسية، ومواسم الخصب الروحي، كما أنها توحي بالاوهام ايضا. وتلمح الى أن الانسان رجلا او امراًة قد يخدع نفسه فيشعر باًنه قد مرّ بتجربة النعمة الالهية – الحب. والوصال الجسدي هو احتراق الثنائي الوجودي (الذكر والانثى) وعن طريق هذا الاحتراق ينبعث الكائن الانساني الكامل، وهو بالتالي يوصل الى الاحتراق “النرفاني” بالمطلق: “حريق صغير يكافح هدوء المساء باصابع جديدة وعينين ضيقتين تسعان بالكاد غمغمات الرجال ومباهجهم المباغتة”….

الخطيئة الأولى

الخطيئة الأولى التي ارتكبتها حواء، ما زالت تشكل سلاحا بيد الرجل، يستخدمه لاستلاب المراًة وجودها الانساني وكينونتها، وكأن هذه الخطيئة عقدة ذنب رافقت المراًة منذ بداية الكون حتى يومنا هذا، وعناية تعترف بهذه الخطيئة وتشعر بالاغتراب في عالم يسود الرجل فيه: “انا المخطئة على ارضي الصلبة لا اشعر بالالفة في مكان”.

 هذا الاغتراب مشوب بالالم، وهذا الألم الذي تعلق به نصوص ديوان “امور بسيطة”، ينبع من السخافة المتأصلة في الاشياء، كالحب الذي يضل السبيل والعاطفة بتفاهاتها وصعوبة التنبؤ بها والحرب وما يصاحبها من مظالم والسخف الاكبر، والخيانة الكبرى. وهي الموت، والحرية التي تنشدها الشاعرة عناية جابر، هي الانفتاح الاكبر على كل ما تطلعه الحياة وتحويله الى مصدر الهام وايحاء بعملية تشبه عملية الساحر عن الشعوب البدائية: “المسرات تتخلّى عني كما انا منسية…… روحي البرمة لا تبراً من الصمت”.

في ظل الاهواء الفكرية، يأتينا شعر عناية جابر قطرة ندى تروي الاوراق الذابلة. المرأة الخاطئة هي التي توصلت الى المعرفة قبل الرجل، ولهذا فان النساء بلغن القمم عبر فضّهن شرنقة العرفان: “وحدهنّ النساء يعرفن القمم حين تفضى في فتنتها”.

 لم تكن ولن تكون عناية جابر من الشعراء الذين يقدمون ذواتهم قرابين على مذبح الزخرف والميوعة او التخلق باخلاق الانحطاطيين، بل مميزاتها تنبع عفويا من اًعماقها. موقف عناية جابر في نصوص “امور بسيطة” بل في كل نصوصها، يتسم بالمعاصرة، وهي احساسها المفاجئ، بحياة فردية لا تنسجم مع القلق التي ينادي بها عصرنا الراهن، وعلى النقيض من تلك احساسها بأنها مجرّد فرد واحد من بين عديدين قضى عليهم ان يدفنوا هذا الموجود الواسع حيث الحياة هي الموت بالنسبة الى مجموع البشر، هجست عناية بالموت حتى غدر بها واختطفها الى العالم الآخر……

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *