عشرون عاماً من العطاء الثقافيّ المُميَّز

Views: 35

د. عليّ الدّين هلال*

 

إنّ مرور عشرين عاماً على إنشاء مؤسّسةٍ ما لهي مناسبة للتأمُّل والتدبُّر، لتقييم ما تمّ تحقيقه والتطلُّع إلى آفاقٍ جديدة من العمل والنشاط. وعندما يتعلّق الأمر بمؤسّسةٍ ثقافيّةٍ مثل “مؤسّسة الفكر العربيّ”، فإنّ الأمر يتطلّب تحديد سماتها المُميّزة، وهي طابعها “العربيّ” و”العروبيّ”، ونشْر رسالة التنوير والتنمية.

فخلافاً لعشرات المؤسّسات والهيئات الثقافيّة التي تعمل في إطار بلدٍ واحد، فإنّ ساحة عمل هذه المؤسّسة تمتدّ لتشمل البلدان العربيّة جمعاء. ويترتّب عن ذلك أنّ جدول أعمالها يُناقش القضايا محلّ الاهتمام والبحث من كلّ العرب. وأريد في هذا المقال المُوجَز أن أتوقّف أمام أربعة موضوعات:

فهذه المؤسّسة، أوّلاً، انطلقت من مفهوم “العروبة”، ومهمّتها إحياء الاهتمام بالشأن العربي العامّ بعد سنواتٍ من غلبة الاهتمامات القطريّة لكلّ دولة وانكفائها على قضاياها الداخليّة. والعروبة في هذا السياق، هي مفهومٌ لغوي وثقافي وحضاري جامِع، فهي “العروة الوثقى” بين شعوبٍ تعيش في كنف نُظمٍ سياسيّة مُختلفة، وأوضاعٍ اجتماعيّة واقتصاديّة مُتباينة، ولكنّها جميعاً تتحدّث اللّغة نفسها، ويجمع بينها مزاجٌ مُشترَك في الأدب والشعر والثقافة، مع الاعتراف بالخصوصيّات الوطنيّة في هذا الإطار.

وأتذكّر أنّ السيّد محمود رياض، الأمين العامّ الأسبق لجامعة الدول العربيّة، قال لي أكثر من مرّة إنّ الجامعة العربيّة تنفردُ بميزةٍ غير موجودة في كُلّ النُّظم الإقليميّة والدوليّة الأُخرى، وهي أنّ جميع أعضائها يتحدّثون باللّغة نفسها، وأنّها لغتهم الأمّ. وهو الأمرُ غير القائم في المُنظّمات الإقليميّة الأُخرى كمنظّمة الدول الأميركيّة أو الاتّحاد الإفريقي أو الاتّحاد الأوروبي، إذ يضطّرون، إمّا لاستخدام لُغة أجنبيّة يفهمونها جميعاً أو يستعينون بالترجمة.

وانطلاقاً من الأساس الذي نهضت عليه المؤسّسة، فإنّها أقامت علاقة تعاون وثيقة مع المؤسّسة العربيّة الأمّ، جامعة الدول العربيّة، والتي كان من أهمّ مَظاهرها احتفال المؤسّسة بمرور سبعين عاماً على إنشاء الجامعة. وكان ذلك في مؤتمر “فكر15″، الذي انعقد في مقرّ الجامعة، وكان مُناسبة للنقاش حول السبل المُتنوّعة لتنشيط العمل العربي المُشترك وتطوير أداء الجامعة.

وعلى الرّغم من أنّ القضايا العربيّة تقع في قمّة أولويّات المؤسّسة وشواغلها، فإنّها أدركت أنّ الوطن العربي لا يعيش في فراغ، وإنّما يتفاعلُ مع العالَم الذي نعيش فيه، ومع عَولمةٍ تمتدّ تأثيراتها إلى كُلّ مكان. فقامت، على مدى سنوات، بترجمة الكِتاب السنوي عن أوضاع العالَم الذي يُحرِّره برتراند بادي ودومينيك فيدال، الأستاذان في معهد الدراسات السياسيّة في باريس. كما حرصت على ترجمة عددٍ من المؤلّفات القيِّمة التي ناقشت حضارة العالَم المُعاصرة من اللُغات الفرنسيّة والإسبانيّة والهنديّة والصينيّة.

ويَظهر المُنطلقُ العربي للمؤسّسة، ثانياً، في الموضوعات التي اهتمّت بها مؤتمراتها و”تقرير التنمية الثقافيّة” الذي يصدر عنها. وفي هذا السياق، شملت هذه الموضوعات الاقتصاد العربي القائم على المعرفة، والعرب بين مآسي الحاضر وأحلام التغيير، والتكامُل المفقود بين التعليم والبحث العلمي، وفلسطين في مرايا الفكر والثقافة وغيرها.

ومن أهمّ الموضوعات التي اهتمّت بها المؤسّسة على مدى سنواتٍ عدّة، كان دراسة العلاقات بين الدول العربيّة وبحث سُبل دعْمها وتطويرها بهدف تحقيق التكامُل العربي. فصدر “التقرير العربي الثامن للتنمية الثقافيّة” بعنوان: “التكامل العربيّ: تجارب، تحدّيات وآفاق”، والذي مثَّل جهداً فكريّاً شاملاً تناول الموضوع من جوانبه كلّها. فدرس ستّة موضوعات رئيسة: فتحت عنوان “الهويّة العربيّة وتحدّياتها”، درس هويّات الشراكة على قاعدة المُواطنة، والهويّة المَغربيّة بين روما والإسلام، وتجديد الفكرة العربيّة. وتحت عنوان التكامُل العربي ومشروع الدولة الوطنيّة، دَرس أزمة الدولة العربيّة المُعاصِرة، والعقد الاجتماعي، والدولة الوطنيّة، وإشكاليّات علاقة المُواطن العربي بالدولة. وتحت عنوان “الثقافة العربيّة في إقليمٍ مُضطّرب”، درسَ واقع المشهد الثقافي في دول مجلس التعاون الخليجي، وواقع الاحتراب الثقافي في بلاد الشام والعراق، والسياسة الثقافيّة في مصر. وتحت عنوان التعاون الأمني والعسكري، درسَ الواقع الرّاهن للأمن القومي العربي وأبعاده، وخبرات التنسيق والتكامُل الأمني بين الدول العربيّة، وإمكانيّة بناء قوّة عربيّة مُشتركة كأداة رافعة للتكامُل. وتحت عنوان “الأبعاد الاقتصاديّة للتكامُل العربي”، درسَ واقع الاقتصادات العربيّة وسياسات إصلاحها، والفساد كأحد مُسبّبات التدهور الاقتصادي والاحتقان الاجتماعي، والسوق العربيّة المُشترَكة، والصناعة التحويليّة كآليّة للتنمية الاقتصاديّة. وتحت عنوان: “جامعة الدول العربيّة: الواقع والمُرتجى”، درسَ مَناهج إصلاح الجامعة العربيّة وتطوير العمل العربي المُشترك، وتفعيل علاقة الجامعة بالمُجتمع المدني العربي. كما قدَّم نظرة تكامليّة لإصلاح جامعة الدول العربيّة. وقد تعمَّدتُ أن أَعرض لمحُتويات هذا التقرير، حتّى يتعرَّف القارئ الكريم على اتّساعِ الرؤية التي تتبنّاها المؤسّسة وتنوُّعِ القضايا التي يشملُها كُلّ تقرير.

اهتمّت المؤسّسةُ، ثالثاً، بما يُمكن أن نسمّيه بالبنية التحتيّة لتكوين الإنسان العربي وهي قضيّة التربية والتعليم. وذلك تحت عنوان “عربي 21” والذي يهدف إلى المُساهمة في تكوين أطفال وشباب عرب قادرين على التفكير والتواصل باللغة العربيّة وذلك في ضوء التدهور المُطّرد في استخدام الشباب مُفردات اللُغة العربيّة وتحوُّل كثيرٍ من الجامعات والمَعاهِد العلميّة إلى التدريس باللّغة الإنكليزيّة أو الفرنسيّة. وسعى المشروع إلى تحقيق أهدافه من خلال التواصل مع دُور النشر المَعنيّة بقضايا التربية، والمُبدعين العرب من مؤلِّفي كُتب الأطفال والتعاون مع الجمعيّات التربويّة والثقافيّة. كما اهتمَّت المؤسّسة أيضاً بدَور المَدارس والمُدرِّسين في العمليّة التعليميّة، وآليّات تطوير هذا الدَّور وتفعيله.

وأَقامت المؤسّسةُ بالتعاوُن مع مُنظّمة اليونسكو شبكةً إلكترونيّة لتبادُل المَعارِف والخُبرات بين التربويّين العرب. كما صمَّمت بَرامِج عديدة للتعاوُن مع المُنظّمة العربيّة للعلوم والثقافة. وكانت المؤسّسةُ في صدارة الهيئات العربيّة التي دعتْ إلى عقْد مؤتمرِ قمّةٍ للثقافة العربيّة، وفي الترويج للفكرة، حتّى صدرَ قرارٌ من القمّة العربيّة بالمُوافقة على الإعداد لانعقاد هذا المؤتمر. وإقراراً بدَورها، فإنّ المُدير العامّ للمؤسّسة، هو أحد أعضاء اللّجنة التي تعمل على التخطيط لعقْد مثل هذه القمّة. ومع مجيء جائحة كورونا، بَرَزَ اهتمامُ المؤسّسة بالتعليم الإلكتروني، وخصَّصت جانباً كبيراً من نشاطها عامَي 2020 – 2021 لعرْض الخبرات العربيّة والعالَميّة في هذا الشأن.

أمّا من حيث أساليب نشاط المؤسّسة وقنواتها، فقد اتَّسمت، رابعاً، بالتعدُّد والتنوُّع، وشملت مؤتمر فكر السنوي، وغيره من المؤتمرات والندوات وورش العمل وحلقات النقاش. وقامت المؤسّسةُ بترجمة عددٍ من الكُتب المُهمّة، وإصدار دوريّة “أفق” وكِتابها السنوي، والدوريّة الثقافيّة التحليليّة تحت اسم “مُتابعات”، والبرنامج التلفزيوني (برنامج حوار العرب)، وبناء الشراكات مع الهيئات ذات الاهتمام المُشترك، فضلاً عن تكريم المُبدعين من الروّاد في العديد من المجالات، شملت الفكر والأدب والفنّ التشكيلي والطبّ والعلوم والتاريخ والهندسة المعماريّة والشعر وتقديم الجوائز لهم. كما كرَّمت أيضاً الموهوبين من الشباب في مجالات الرواية والقصّة والتفوُّق الدراسي والطبّ وتحدّي الإعاقة. وكان ذلك جزءاً من اهتمام المؤسّسة بالشباب، والذي خصَّصت له أحد برامجها لتنمية القيادات العربيّة الشابّة والاستثمار في المُستقبل، فأنشأت الشبكة الإلكترونيّة للشباب العربي “إيان” EYAN.

وفي السياق ذاته، حرصت المؤسّسة على تنويع المُشاركين في أنشطتها، فعادةً ما تجمع مؤتمراتُها بين المُفكّرين من أساتذة جامعات وباحثين وإعلاميّين من ناحية، ومُمارسين في مجالاتٍ حكوميّة ومصرفيّة وماليّة، فضلاً عن المُجتمع المدني والمُنظّمات الدوليّة والإقليميّة من ناحية أُخرى، مع الحرص على مُشاركة الكِبار والشباب من أغلب البلدان العربيّة.

كما تنوَّعت المُدن العربيّة التي استضافت مؤتمرات المؤسّسة، ما بين بيروت والكويت والقاهرة والظهران ومراكش ودبي والصُخيرات والمنامة وأبو ظبي. وفضلاً عن مُشارَكة الباحثين في العلوم الاجتماعيّة كالاقتصاد والسياسة والاجتماع وعِلم النفس، فقد شارَكَ في أنشطة المؤسّسة مُختصّون في علوم الفيزياء والكيمياء والطبّ.

وفي إطار هذا المفهوم الشامل للمُشاركة، ركَّزت المؤسّسة على دَور كلٍّ من الحكومات والمُجتمع المدني، وآليّات التعاوُن والتنسيق بينهما لتحقيق التغيير المُبتغى. فنظَّمت مؤتمراتٍ عدّة عن المُجتمع المدني، كان منها دَوره في ظِلّ العَوْلَمة، وآخر عن دَوره في تطوير العمليّة التعليميّة، كما حرصت على مُشاركة مُمثّلين لهيئات المُجتمع المدني في أنشطتها المُختلفة.

والرأي عندي أنّ أنشطة المؤسّسة طَرحت الكثير من الاجتهادات والأفكار حول القضايا التي تشغل بلادنا العربيّة كالتنمية والطّاقة والبحث العلمي والمُجتمع المدني والتعليم واللُغة العربيّة. وهو جهد محمود ومشكور. وأعتقد أنّها سوف تستمرّ في هذه التوجّهات، وإن كان من الضروري أن تُطوّرها في السياق المُتغيّر للعشرين عاماً المُقبلة. فهُناك خريطةٌ سياسيّة جديدة للعلاقات بين الدول العربيّة، وبينها وبين الدول غير العربيّة في منطقتنا. وهي تغيُّرات لا يُمكن تجاهُلها، بل الأفضل هو تدارسها والبحث في كيفيّة التعامل معها، بما يُحافظ على هُويّتنا العربيّة المُشتركة. (https://www.etutorworld.com/)

ومن المُهمّ للغاية في هذا السياق الاستمرار في بحث القضايا المُتعلّقة بموضوع تجديد الفكر العربي، والذي كان عنواناً لمؤتمر “فكر17” الذي انعقدَ في كانون الأوّل/ ديسمبر 2019 في الظهران، وهو “نحو فِكرٍ عربيّ جديد”. فقد جاءت الجائحة وتداعياتها لتحول دون الدعوة إلى ندوات وورش عمل تالية في هذا الموضوع. فموضوع تجديد الفكر العربي، يُمثِّلُ واحداً من أهمّ التحدّيات المفروضة علينا الآن، بفعل تداعيات العَوْلَمة الثقافيّة والفكريّة من ناحية، وسياسات الدول الإقليميّة غير العربيّة من ناحية ثانية، واستمرار دعوات التطرُّف والتعصُّب والعُنف من ناحية ثالثة، وحاجة الصياغات القديمة للعروبة التي ظهرت في حِقبٍ سابقة من القرن العشرين إلى إعادة قراءةٍ ونظرٍ من ناحية رابعة.

وكُلّ هذه العوامل تؤكِّد ضرورة أن يكون موضوع تجديد الفكر العربي مُهمّة أساسيّة، بما يجعل العروبة أكثر جاذبيّة للأجيال الصاعدة من العرب من أبناء الألفيّة الجديدة والمُسمّاة بجيل Z، وبما يَحفظُ لمنطقتنا هُويّتها الحضاريّة المُتميّزة على قاعدة المُواطَنة في داخل الدولة، والتكامُل بين الدول العربيّة، والتسامُح والتواصُل مع الإنسانيّة.

***

(*) أستاذ العلوم السياسيّة – جامعة القاهرة

(*) مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *