الهند ومصالحها بين أميركا وروسيا

Views: 69

عدنان كريمة*

مع استمرار الحرب الروسيّة – الأوكرانيّة في سنتها الثانية، تُظهر التطوّراتُ أن لا حلَّ قريباً لها. وإذا كانت روسيا تعتبرها حرباً دفاعيّة عن مجالها الحيويّ ووحدتها، فإنّ الغرب يعتبرها دفاعاً عن البوّابة الشرقيّة لأوروبا وحلف “الناتو”. وتخوض الولايات المتّحدة هذه الحرب مدعومة بقوى النظام الرأسماليّ العالميّ، وخصوصاً مجموعة الدول الصناعيّة السبع، وبقوّة التحالف الأطلسي، حِفظاً وتعزيزاً لتفرّدها بقيادة الاقتصاد العالميّ، وتسخيره لخدمة أمنها ومصالحها العليا. وتهدف في الوقت نفسه إلى احتواء القوّة الصينيّة الصاعدة التي تدعم روسيا وتحجيمها؛ لإدراكها أنّ بكين تسعى بالتنسيق مع روسيا لتعديل موازين القوى الدوليّة، ولديها القدرة العسكريّة والتكنولوجيّة والديبلوماسيّة على ترجمة ذلك، ولاسيّما أنّ “طرقات الحرير الجديدة”، وهو مشروع الصين “الاستراتيجي” المتواصل، لم يعُد مجرّد مشروع اقتصادي، بل أصبح في رأي واشنطن استراتيجيّة صينيّة لإعادة تشكيل النظام العالميّ.

قبل جائحة ” كورونا ” واندلاع الحرب الروسيّة – الأوكرانيّة في شباط/ فبراير 2022، أجمعت تقارير عدّة على توقُّع حدوث متغيّرات مهمّة في مراكز القوى الاقتصاديّة في العالَم، وترتيب الدول الخمس الأكبر، وفق تطوّرها للعام 2050، ورشَّح تقريرٌ صَدَرَ عن شركة “PWC”، وهي مهنيّة مختصّة بالشؤون الاقتصاديّة، الصين للمرتبة الأولى بحجم اقتصادي بلغَ 58,499 تريليون دولار، بدلاً من الولايات المتّحدة التي تتراجع إلى المرتبة الثالثة بحوالي 34,102 تريليون دولار، والهند إلى المرتبة الثانية بحوالي 44,128 دولار، وأندونيسيا إلى المرتبة الرّابعة بحوالي 10,502 تريليون دولار، وبعدها البرازيل في المرتبة الخامسة بحوالي 7,54 تريليون دولار. لكن بعد الجائحة، واستمرار الحرب الروسيّة – الأوكرانيّة وتداعياتها، طرأت متغيّراتٌ كثيرة نتيجة الخسائر الكبيرة التي لحقت باقتصادات تلك الدول.

وكان اللّافت في تلك التوقّعات، تسجيل الاقتصاد الهندي قفزاتٍ متقدّمة؛ ففي العام 2017 قفز إلى المرتبة السادسة، بين أقوى اقتصادات العالَم متجاوزاً الاقتصاد الفرنسي. وعلى الرّغم من الأضرار الكبيرة التي لحقت به جرّاء تداعيات “كورونا”، تقدّم في العام 2019 إلى المرتبة الخامسة بحجم 2.94 تريليون دولار، متجاوزاً الاقتصاد البريطاني الذي سجّل 2.84 تريليون دولار.

انقسامٌ عالميّ

مع استمرار الحرب الروسيّة – الأوكرانيّة واتّساع نطاقها، وتراكُم تداعياتها، التي تشمل عقوبات متبادلة تطال الدول المتحالفة، يشهد الاقتصاد العالَمي انقساماً بين تكتّلَيْن كبيرَيْن متنافسَيْن، أحدهما تكتّل مجموعة “البريكس” ويضمّ روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا.

أمّا التكتّل الثاني، فهو مجموعة الدول الصناعيّة السبع بقيادة الولايات المتّحدة الأميركيّة، وتضمّ ألمانيا وكندا وفرنسا وإيطاليا واليابان والمملكة المتّحدة. ويعمل كلُّ تكتّل على إضعاف التكتّل الآخر. وتبرز في هذا المجال أهميّة “الحصار المالي” ضدّ روسيا، من طرف التحالف المؤيّد للعقوبات، والذي يضمّ غالبيّة النظام المالي العالمي، ومختلف المؤسّسات الماليّة الرئيسة. كما تبرز قوّة “السلاح الروسي” من النفط والغاز والمواد الغذائيّة. بما يهدّد حاجة أوروبا الاستهلاكيّة و”الاستراتيجيّة” لاقتصادها.

وفي ميزان القوى، لوحظ أنّ حصّة مجموعة “بريكس” في الاقتصاد العالمي بلغت 31.5%، وهي للمرّة الأولى تتجاوز حصّة مجموعة الدول السبع الكبار التي بلغت 30.7%، وذلك وفق أحدث مؤشّر نقلته مجلّة “فوربس” عن معهد “أكورن ماكرو” البريطاني للاستشارات.

وعلى الرّغم من موقعها الجغرافي البعيد آلاف الأميال عن المنطقة، انضمّت مؤخّراً المملكة المتّحدة الى التكتّل التجاري بين المُحيطَيْن الهندي والهادي الذي يضمّ اليابان والبيرو والمكسيك وسنغافورة وماليزيا وكندا وتشيلي ونيوزيلندا وأستراليا وبروناي وفيتنام. وفي سياق الإعلان عن هذا الانضمام، حرصت وزيرة التجارة البريطانيّة كيمي بادنوش على تسليط الضوء على الفارق الجليّ بين الانتماء إلى الشراكة التجاريّة لمنطقة المحيطَيْن الهندي والهادي، والانتماء إلى الاتّحاد الأوروبي الذي يتلخّص وفق تعبيرها “بقدرتنا على وضع القواعد واللّوائح وفقاَ لمعاييرنا”. بينما الأعضاء الكبار في التكتّلات يفرضون قواعدهم وأنظمتهم على الآخرين. ولكن يتساءل المُراقبون الذين ينتقدون الموقف البريطاني، ما هو موقف دولة تحلّق بمفردها خارج السرب، ثمّ تجد نفسها مُرغمة على تنفيذ ما يُمليه عليها الآخرون؟

دَور الهند ومصالحها

في ضوء التطوّرات الرّاهنة واستمرار الحرب الروسيّة – الأوكرانيّة، ما هو دَور الهند في الحرب الاقتصاديّة العالَميّة؟ وهل تستطيع ضمان مصالحها؟

على الرّغم من أنّ الهند تُعَدّ من بين الدول الديموقراطيّة التي تعتمد النظام الرأسمالي في إدارة اقتصادها، فهي ثاني أكبر اقتصاد بعد الصين في تكتُّل “بريكس”، وقد رفضت إدانة موسكو والعقوبات على روسيا؛ لكنّها في الوقت عينه تحرص على الاحتفاظ بالعلاقات الوديّة مع المعسكر الغربي، وخصوصاً الولايات المتّحدة. ولذلك تعرّضت مؤخّراً لانتقاداتٍ شديدة من “مجموعة الدول السبع” التي اتّهمتها بعرقلة العقوبات الغربيّة، لجهة زيادة وارداتها بنحو 25 ضعفاً من الخدمات الروسيّة، وتعويض شركات الطّاقة عن خسارتها للسوق الأوروبيّة، ولاسيّما أنّ “المجموعة” تدرس حاليّاً كيفيّة التعامُل مع الدول التي تخرق العقوبات الغربيّة، وعلى رأسها الشركات الصينيّة والهنديّة. ومن هنا تتخوّف الهند من ارتداد موقفها سلباً على تجارتها الخارجيّة التي تؤكّد أنّ مصلحتها تقتضي أيضاً بالإبقاء على علاقاتها ممتازة مع التكتّل المُعارض لروسيا والدّاعم لأوكرانيا.

وبلغة الأرقام، فإنّ حجم تجارة الهند مع الكتل الثلاث الرئيسة (أوروبا، وبريطانيا، والولايات المتّحدة) يُقدّر بنحو 259 مليار دولار سنويّاً، مُقارَنة بـ 8.1 مليار دولار في العام 2021 مع روسيا، وهو مبلغ ضئيل جدّاً، ولا يتجاوز 1.19% من إجمالي حجم التجارة الهنديّة المقدّر بتريليون دولار. إضافة إلى ذلك، تُعدّ الهند بين الدول المؤهّلة لجذب شركات التقنيّة الأميركيّة المهاجرة من الصين، نظراً لضخامة سوقها الاستهلاكيّة المقدّرة بأكثر من 1.4 مليار نسمة، وطبقة وسطى نامية، وقوى عاملة مدرّبة، وهي ميزات تُغري الشركات الأميركيّة.

في مقابل هذه المصالح الاقتصاديّة، ثمّة مصالح استراتيجيّة تربط الهند بروسيا، وخصوصاً لجهة الاعتماد عليها كمصدرٍ رئيسٍ للتسلّح عالي التقنيّة ومواجهة الهيْمنة الصينيّة في آسيا، ولذلك فإنّ معظم بنية الهند العسكريّة الحديثة، تشكّلت وتتشكّل من السلاح الروسي، وخصوصاً سلاح الجوّ، ونُظُم الصواريخ “إس 400”.. فضلاً عن الغوّاصات الذريّة. ويُقدّر الخبراء العسكريّون الدوليّون المتوسّط السنوي للمشتريات العسكريّة الهنديّة من روسيا بقيمة مليار دولار كلّ عام. وهكذا باتت بلاد غاندي ترسم وتبني قرارها الاستراتيجي وفق مصالحها الاقتصاديّة ومتطلّباتها الأمنيّة الاستراتيجيّة بشكلٍ عامّ.

والهند اليوم هي من المُشترين الرئيسيّين للنفط الروسي، وتحصل على حاجتها منه بأسعارٍ مخفَّضة، قياساً على سعر السوق الدوليّة. ولا ضير في الأمر، طالما أنّه يؤدّي إلى دعْمِ الاقتصاد الروسي، ويحول دون “انهياره السريع”، كما توقّع ذلك الرئيس الأميركي جو بايدن في الربيع الماضي. وخلافاً لتوقّعه هذا، حقّق الميزان التجاري الروسي فائضاً في الدخل وصل إلى 70 مليار دولار في العام 2022، إذ بلغت الصادرات 150 مليار دولار، مقابل 80 مليار دولار للمُستوردات. وبرزت أهميّة الصين في هذا الفائض بزيادة مستورداتها من روسيا بنسبة 60%، وبلغ حجم التبادُل التجاري بين البلديْن 180 مليار دولار. وكذلك الهند التي اشترت منها ثلث مستورداتها النفطيّة (4.9 مليون برميل يوميّاً) مستفيدة من خصومات كبيرة. ووفق البيانات الرسميّة، استمرّ العراق كأكبر مورِّد للنفط إلى الهند، بينما تفوّقت روسيا على السعوديّة في مجال توريده لتحتلّ المرتبة الثانية بدلاً منها.

عدم الانحياز

منذ زمن تنظر الهند إلى روسيا، باعتبارها شريكاً لا غنىً عنه في استراتيجيّتها المسمّاة “عدم الانحياز”، والتي ترفض من خلالها تشكيل تحالفاتٍ خاصّة مع أيّ قوّة عظمى، بغية الحفاظ على شراكاتٍ استراتيجيّة مُثمرة مع عددٍ من تلك القوى الدوليّة. ويبدو أنّ القادة الهنود يرون أنّ هذه الاستراتيجيّة ما زالت قائمة، وهم يؤيّدون دوام قوّة روسيا، على الرّغم من قوّة العقوبات الغربيّة ضدّها. ويتوقّعون أن ترزح أوروبا تحت ضغوط التضخّم ونقص إمدادات الطّاقة. وفي المقابل تنتعش روسيا بفضل ارتفاع أسعار الموادّ. ويرجّح هؤلاء القادة تحوّل الحرب في أوكرانيا إلى مأزق عسكري ينتهي عبر المفاوضات بوقف إطلاق النار، يليه اتّفاق مستقبلي سيسمح لروسيا بالانخراط مجدّداً في المجتمع الدولي. وتُراهن نيودلهي على قيام الشركات الهنديّة باستثمارٍ مُشترَك في مشروعات الطّاقة الروسيّة، كمشروع استخراج النفط والغاز في “سخالين” في أقصى الشرق، وأن تضاعف هذه الشركات إسهاماتها في بحوثٍ مستقبليّة مُشترَكة، وعمليّات تطوير بعض التكنولوجيّات الدفاعيّة، بينها صواريخ كروز الاستراتيجيّة من طراز “براهموس”.

وعلى الرّغم من علاقات الهند الوثيقة مع روسيا، إلّا أنّ شراكتها الاستراتيجيّة مع الولايات المتّحدة لم تتأثّر البتّة، فهي لم تزل تمثّل الشريك الأهمّ لها، اقتصاديّاً وتكنولوجيّاً. ولا يزال بإمكان واشنطن أن تكسب كثيراً في مجالات التعاون الناشط مع نيودلهي، ولاسيّما أنّ صنّاع السياسة الغربيّين راهنوا بشكلٍ كبير على الهند، باعتبارها الدولة “المتأرجحة” (في العلاقة ما بين الغرب وروسيا) الأكثر أهميّة في النّظام الدولي، وذلك بغية تحقيق التوازن إزاء الصعود الصيني ومُناصَرة نظام “دولي” مستند إلى القواعد والقانون. بيد أنّ الهند تبقى أكثر انشغالاً في التركيز على توازُن القوى في منطقة المحيطَيْن الهندي والهادىء. وإذا استطاع صنّاع السياسة الأميركيّون الاستمرارَ في الاعتماد عليها في تحقيق توازنٍ حقيقي وواضح أمام الصين، وفي محيطها، فسيكون أسهل على الولايات المتّحدة القبول بأثمانِ شراكة الهند المستمرّة مع روسيا المُتراجعة.

لكن لا بدّ من الإشارة إلى أنّ ثمّة مواقف إيديولوجيّة مُشترَكة تُبقي الهند بعلاقة صداقة وطيدة مع روسيا، إذ يتبنّى المسؤولون الهنود والروس رؤيةً عن نظامٍ عالَمي “متعدّد الأقطاب”، حيث لا تسود سيطرة طرفٍ واحد مُهيمِن على نظيرٍ له، وتحافظ القوى الكبرى المتعدّدة على نطاقات تأثيرها. وتؤمن كلٌّ من نيودلهي وموسكو بأنّ هكذا بنية لنظامٍ عالَمي تبقى أكثر استقراراً وثباتاً من بنية آحاديّة تتحكّم بها قوّة عظمى واحدة.

***

*كاتب ومُحلِّل اقتصادي من لبنان

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *