فلسطين ما فتئتِ وستظلّينَ عَصِيّةً على الانكسار

Views: 515

د. محمّد م خطّابي *

 

الهجومات الاسرائلية المتوالية، واعتداءاتها الهمجية المتواصلة الأخيرة  على الشعب الفلسطيني التي نافت حصيلتها   المؤسفة والمؤلمة حتى نشر هذا المقال على مائتي شهيد، وعشرات الجرحى من الأبرياء نساءً ورجالاً، وشيباً وشباباً ، ورُضّعاً وأطفالاً،المعتدون  يفعلون ذلك  بلا رحمة، وبلا شفقة، وما برحت  الآلة الحربية الإسرائلية الوحشية  المقيتة تأتي على الأخضر واليابس، إنها تدمّر العمارات الآهلة بالسكان المدنيين ، وتشعل النيران في كل مكان من مدن غزّة بذريعة البحث ومتابعة ومعاقبة ومطاردة المقاومين الفسطينيين الذين أعلنوها انتفاضة جديدة باسلة تُضاف الى سابقاتها المشهودة  لمواجهة جيش عرمرم مُدجّج بأحدث الأسلحة وأعتاها ،وأعنفها، وأكثرها إيذاءً وتعذيباً ..وانتفض العالم أجمع، العالم العربي، والعالم الغربي على حدٍّ سواء في مشارق الأرض ومغاربها  لإدانة هذه الاعتداءات الظالمة والآثمة  متضامناً مع فلسطين الجريحة التي ما زالت تنزف دماّ غالياً ثميناً منذ سنوات بعيدة خلت، هذا التضامن وهذا التعاطف اللذان أعلنهما العالم الحرّ لم يسبق لهما مثيل،لقد جاءة إدانات  ذوي الضمائر الحية، وأصحاب القلوب المحبة للخير والسلام تلقائية عفوية  من ساسة، ومثقفين ، وفنانين، وكتّاب،وفلاسفة، وصحافيين، ورياضيين،  وممثلين، ومطربين .. جاءت من مختلف الشرائح البشرية، ومن مختلف الجنسيات، والاثنيات، والاعراق،  والديانات، من  مسيحيين،ومسلمين، ويهود من جميع أنحاء المعمور للتضامن مع الأبرياء العزّل الذين يتساقطون كلّ يوم تحت أنقاض المباني، والعمارات، ومن جرّاء الانفجارات المدوية  التي تخبط خبط عشواء في كلّ مكان. .

 

شاءت الأقدار

وشاءت الأقدار، وكأنها تذكّر العالم بما يجري ،وبما جرى  منذ 73 عاماً عجافاً .. إذ  في الخامس عشرمن شهرمايو من العام الجاري (2021) تكون قد مرّت ثلاثة وسبعون عاماً  على” ذكرى النكبة “، التي عانى الشعب الفلسطيني وقاسى منها ،وفيها ،وبها ،ومن جرّائها  الكثير منذ15/5/1948 إنطلاقاً من وعد آرثر جيمس بلفور المشؤوم 1917، ومروراً بالتقسيم اللعين 1947، والإحتلال الصّهيوني العسكري لما يقارب 80 في المائة من أرض فلسطين، وإعلان إقامة “دولة إسرائيل” عام 1948، و تشريد ما يقارب المليون فلسطيني بعد إحتلال مدنهم، وقراهم،ومداشرهم، وضيعهم ،وأراضيهم، وإبعادهم الى قطاع غزّة، والضفّة الغربيّة، ونهر الأردن، والى عدد من الأقطار العربية المجاورة، ثمّ وصولاً إلى “النكسة ” عام 1967، حيث تلا تلك الأحداث والفواجع سلسلة متواصلة  من المعاناة  تلو المعاناة التي ما فتئ الفلسطينيون  يعانون  منها الكثير، وفي ظلّ ما تشهده  الأوضاع في مختلف بلدان وأوطان بني طينتنا، وأبناء جلدتنا في الظروف الراهنة من نزاعات مذهبيّة، ومواجهات أيديولوجيّة ، وحروب دينيّة ، وصراعات طائفيّة ، وخلافات عرقية ،وتطاحنات سياسيّة ، ومشاكسات كلامية، ونزاعات لسنية، ومهاترات يومية وو..كلّ هذا المخاض العسير، وهذا الأوارالمستعرلا يمكنه  أن  يفضي الى التعرّف على ما هي عاقبة الامور وما هي مآلها ومنتهاها…!                                  

إنها أحداث تاريخية مؤلمة، ومفاجآت متوالية خبّها القدر لأبناء فلسطين الأبرارالذين رمت الأقدار بالعديد منهم خارج وطنهم  الغالي، وبعيداً عن أرضهم الطيّبة، وعن ذويهم ، وأحبّائهم ، وخلاّنهم قهراً وقسراً وعنوةً، فانتشر منهم الكثير في بلاد الله الواسعة في غياهب المهاجر، ومحاجرالإغتراب،من أقاصى أصقاع العالم إلى أقصاه،ولكنّهم على الرّغم من هذا الشتات الذي عانوه في جلدهم ،وإبعادهم عن طنهم، ظلّوا مشدودين إلى جذورهم ، متشبّثين بحقوقهم المشروعة وكتب الله لهم وعليهم تحمّل الصّبر، والجَلد،والأناة ،والتمرّس، ولم يعد لهم سوى المواجهة والمقاومة والتحدّي، والإصرار. 

 

دسائس لا حصر لها

وهكذا رأينا كيف لم تدّخر الصّهيونية العالمية منذ إبعادهم وإقتلاعهم ، وإقصائهم من بلدهم عام 1947 وسعاً  من أجل القضاء ليس فقط على هذا الشعب وإستئصاله من جذوره ، وطمس شخصيّته ، وإجتثاث هويّته ، ومحو كل أثر له، بل  إنّهم حاولوا محو حتى جغرافيته، وتاريخه في حملات مسعورة بإستعمال مختلف ضروب الحيل والأكاذيب، والدسائس، والخسائس، والمكر، والمكائد لتحقيق هذه الغايات الدنيئة. ثمّ إنطلقت الثروات والإنتفاضات الواحدة تلوالأخرى ، حيث طفق هذا الشعب في كتابة صفحات جديدة من تاريخه النضالي الناصع، حاملاً رمز كفاحه وثورته الكوفية الفلسطينية المُرقّطة، أوالمنديل الفلسطيني المميّز وغصن الزيتون، وإرادة  شعبٍ لا تقهر، فأذهل العالم، وأعاد إحياء هويّته، والحفاظ على جذوره، وإحياء ذاكرته التاريخية، والثقافية، والتراثية الجماعية من تحت الأنقاض. 

إننا ما فتئنا ننظر اليوم  الى ما يحدث أمامنا  من تظلّم  ومعاناة واعتداءات وتطاولات تطول الشعب الفلسطيني  الذي ما زال يروي ثرى أرضه الطاهرة بدماء شهدائه ، وما فتئت الآلة الحربية الإسرائيلية الغاشمة  تقتّل وتنكّل بهذا الشعب بدون رحمة ولا شفقة ،وتزجّ بأبنائه وبأحفاده في غياهب وظلمات جحيم السّجون ، وما إنفكّت الأنفس تتنفّس الصّعداء، وتُعدّ العدّة للمراحل القادمة الحاسمة من كفاح هذا الشعب،وما برحت ألسنة اللّهب تتصاعد ، وأعمدة الدخان تتعالى في كلّ مكان.

 

مسألة بقاء أو لا بقاء

 لم يقتنع الأشقّاء بعد، بأنّ المسألة ،مسألة بقاء أو لا بقاء ، أيّ أن نكون أو لا نكون، إنّهم فقط  يذرفون الدّموع حرّى ساخنة، وينزوون بأنفسهم لينظموا لنا كلمات مسجوعة ، مشحونة بالغضب والإنتقام.. وتمرّ الأيام، وتتوالى الليالى، وفي رحمها وخضمّها  تتولّد و تستجدّ الأحداث، وننسى أو نتناسى ما فات،المآسي ما زالت تترى وتنثال أمام أعيننا، وعلى مرأى ومسمع منّا ،فيشاطرنا العالم طوراً أحزاننا، وأحيانا يُجافينا… ونكتفي بالتفرّج ،والتصفيق، والتهليل، والتحسّر بلغة مؤثّرة باكية شاكية كئيبة حزينة مذلّة . أمّا الآخرون فإنّهم يتعنّتون ويتمنّعون ويبسطون نفوذهم وتأثيرهم ليس على الأرض وحدها، بل على العقول، والألسن، والأفئدة والقلوب، وهم ماضون في غطرستهم، متمادوون في تبجّحهم ، وكبريائهم واعتداءاتهم في هدم البيوت على رؤوس أصحابها .

نحن قوم رحماء بغيرنا ،نذوذ عن حوضنا وجيراننا بسلاحنا، مشهود لنا ومشهورون بالصّفح والتسامح، رحماء بالصّغير والكبير، والقويّ والضعيف ، معروفون بهذه الثنائية المُركبّة التى تجمع بين الجلد واللين، والبأس والشدّة، والقوّة والرّخاوة، والصّلابة والطراوة.. !

  أمّا هم فلقد إقتدّت الرّحمة من قلوبهم، وكأنّها قلوب صيغت من فولاذ ،لا يفرقون بين الصّغير والكبير، إنّهم  ينكّلون بدون تمييز ،وعزاؤنا الوحيد أنّ التاريخ يسجّل عليهم “المجازر” ويدوّن لنا “المفاخر”، ويصوّر أيديهم الملطخة بدماء الأبرياء..ويظلّ العالم يتفرّج بدون إكتراث ولا مبالاة .

مُستجدّات

هذه المرّة هناك مستجدّات في الشأن الفلسطيني ، فقد ظهرت المقاومة هذه المرة أكثر قوةً ،وأشدّ  صلابةً في الردّ على هذه الاعتداءات الهمجية، ويضاف الى تلك المواجهات انتفاضة ما يسمّى ب ” عرب اسرائيل” وهم الفلسطينيون الذين مكثوا باسرائل بعد النكبة بعد أن عاشوا التظلم والبعاد والعنصرية في جلدهم هم الآخرون ، إنهم تحركوا هذه المرّة من الداخل لتأييد عمل المقاومة التي أمطرت العديد من مدن اسرائيل بالصواريخ التي اأحدثت رعباً وقلقاً ومخاوف أمنية  لم يعشها الاسرائليون من قبل ممّا دعا ببعضهم عبر وسائل الاتصال الاجتماعية الى المناداة  بالخروج من اسرائيل حيث لم يعد المستوطنون الاسرائليون يشعرون بالأمان بعد هذه الانتفاضة التي يعيشها الشعب الفلسطيني بضراوة  هذه الايام للدفاع عن نفسه وعن أرضه وعزته وكرامته . 

ما حدث وما فتئ يحدث يبيّن لنا ان اسرائيل لا تعرف معنىً للشّفقة والرّحمة،انها  تضرب عرض الحائط بكلّ العهود والمواثيق الدّولية ذات الصلة بحقوق الإنسان أو حقوق “المدنيين ” أو حقوق وحماية “الإعلاميين” المعترف بها عالمياً ، نظرًا لتماديهم في استعمال أقسى وأعتى ضروب التقتيل والتنكيل بالشعب الفلسطيني، وما إنفكّت براكين الغضب الفلسطينية الهادرة  تزداد تأجيجاً وتقذف حممها وشظاياها إلى عنان السّماء من جرّاء هذه المعاملات التي لا تمتّ إلى الإنسانية بصلة ، ولقد بلغ هذا الغضب مداه في المدّة الأخيرة في إستمرار المواجهات الشّعبية ،والجماهيرية على جميع الأصعدة مع قوات الإحتلال، وسواها من التجاوزات الخطيرة التي تقترفها السّلطات الإسرائيلية بدون خجل أو وجل ، ممّا أفضى الى تفجير وإنطلاق هذه الانتفاضة جديدة التي  أضحى الخصم العنيد والعنيف يحسب لها ألف حساب، والتي قد تقلب موازين الأمورفي هذه البقعة الطاهرة من العالم .

 73 حولاً، و ما زلنا نستذرّ عطف العالم ونستجديه ، ونصف له الأهوال،والأحوال والفظائع التي ترتكب في حقّ هذا الشعب ، إنّنا ما برحنا منشغلين بأمورنا ، منبهرين مشدوهين بالأوار المستعر وسط  ساحاتنا،ومياديننا، وحول مرابضنا، وأرباضنا ، وداخل بيوتاتنا، وأحيائنا ، وأفئدتنا. أمّا هم فمنذ أن دنست أقدامهم أرضَ السّلام، ما إنفكّوا يتمادون في التقتيل والتعنّت والتنكيل الإسرائيلي على الأرض في مختلف المناطق والجهات الفلسطينية، كما أنّهم ما برحوا يعانون الشّقاق الداخلي والتشرذم والخلافات، ويكاد التصدّع أن يصيب صرح الوحدة الوطنية المنشودة ، وما زال الأمل معقوداً، والرجاء قائماً في تحقيق التصالح والتسامح والتصافح ، والتداني والتصافي، وإقصاء التجافي ، ورأب الصّدع ، وإلتئام الفصائل، وتسخير كلّ الطاقات، وإستغلال كلّ الخبرات ، والنبش في الثرىَ والثريّا، والتراب و الأرض والتراث.

 

الأيّامُ دولٌ

 بعد هذه الأحداث المؤلمة والمواجهات الحزينة والدمار المهول الذي أصاب المدن والمباني والبنيات التحتية الفلسطينية ها قد غدا صيفنا  قائظاً  مُستعراً،وأمسى خريفنا شاحباً مكفهرّاً، وأصبح شتاؤنا صقيعاً زمهريراً، وبات ربيعنا مُزهراً مُزدهراً… الكلّ يحمل همومَه، وهواجسَه، وأوهامَه، وأثافيه فوق ظهره ويمضي، ولا أحد يبالي  بمعاناته وآلامه ، ولا أحد يكترث بعذاباته وأحزانه.. !

 تاريخنا حافل تليد ، وتراثنا زاهر زاخر،. إننا  قوم كثر ، والكثرة قوّة، إنهم لا يتأخرون ولا ينكصون في الدفاع عن أهاليهم، والذود عن ذويهم  ،لقد صدح بها ذات يومٍ فارس من حيّهم فقال : لا يسألون أخاهم حين يندبهم  / في النائبات إذا قال برهانا… !  وقالها آخر : حشد على الحقّ عيّافو الخنا أنف   /إذا ألمّت بهم مكروهة صبروا…. وأقسم المجد حقّا ألاّ يحالفهم / حتى يحالف بطن الرّاحة الشّعر.. !  وقال آخر: تعيّرنا أنّا قليل عديدنا  /  فقلت لها إنّ الكرام قليل… !  لدينا الأنفة والشموخ ،والسّؤدد والعزّة والمجد، والأبراج الشاهقة التي تناطح عنان السّماء ،ولكن أعوادنا هشّة واهية ،إنطلقنا نتوق بلا بوصلة ولا هادٍ نحو بطولات فردية،  دونكيشوتية ، وهمية لا طائل تحتها… ! 

إننا قوم رحماء بغيرنا ، وإن كانت بنا غلظة، مشهود لنا بالصّفح والتسامح، وإن كانت بنا أثَرة . مع ذلك إننا رحماء بالضعفاء ،معروفون بهذه الثنائية المركّبة  التي طالما تغنّى بها شعراؤنا الاقدمون قال قائلهم  متباهياً :  ” نحن قوم تذيبنا الأعين النّجلُ   / على أنّا نذيب الحديدَا…طوع أيدى الغرام تقتادنا الغيد / ونقتاد في الطّعان الأسودَا.. وترانا يوم الكريهة أحراراً  / وفي السّلم للغواني عبيدَا…” !

***

(*) كاتب من المغرب ، عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوطا – (كولومبيا) .

  


 

 

 

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *