العقل الأنترنتي في مواجهة العقل المنطقي

Views: 434

حسن عجمي

   تصارعت عقول عديدة عبر التاريخ منها صراع العقل المنطقي والعلمي من جهة والعقل الخرافي من جهة أخرى وما زال هذا الصراع قائماً. لكننا نشهد اليوم صراعاً جديداً ألا وهو الصراع بين العقل المنطقي العلمي والعقل الأنترنتي الذي يعارض ويقاتل المنطق والتفكير العلمي.

   مثلٌ على معارضة العقل الأنترنتي للعقل المنطقي هو التالي: إذا بحثت على الأنترنت باللغة العربية أو الإنكليزية عن العقل فسوف تجد تعريف ويكيبيديا للعقل ألا وهو “العقل هو مجموعة من القوى الإدراكية التي تتضمن الوعي، المعرفة، التفكير، الحكم، اللغة والذاكرة..”. وبذلك العقل مُعرَّف من خلال القوى الإدراكية كالوعي والمعرفة والتفكير. لكن القوى الإدراكية التي من ضمنها الوعي والتفكير والمعرفة ليست سوى العقل. من هنا يُحلِّل هذا التعريف العقل من خلال العقل ما يجعل هذا التعريف الأنترنتي يقع في الدور المرفوض منطقياً. وإن بحثت عن “العقل” باللغة الإنكليزية فقط فسوف تجد على الأنترنت تعاريف أخرى تقع في الدور أيضاً كتعريف معجم “ميريام-وبستر” القائل بأنَّ “العقل عنصر أو مجموعة من العناصر التي تشعر، تدرك، تفكّر وتريد وتعقل..”. وهذا تعريف يقع في الدور كتعريف الماء بالماء لأنَّ الإدراك والتفكير والتعقل ليست سوى حالات ومصطلحات عقلية ولذا هذا التعريف يُعرِّف العقل بالعقل. هكذا العقل الأنترنتي عقل معجمي يقاتل المنطق فيقتل إنسانية الإنسان الكامنة في المنطق ومراعاة مبادئه.

 

معارضة المنطق

   تكاد الأمثلة على معارضة المنطق لا تنتهي إن بحثت عن أيّ مصطلح أو مفهوم على الأنترنت ما يبرهن على معارضة العقل الأنترنتي لأبسط مبادىء التفكير السليم كمبدأ تجنب الوقوع في الدور. مثلٌ آخر هو تعريف الواقع حيث تقرأ على ويكيبيديا أنَّ “الواقع… يعني حالة الأشياء كما هي موجودة.. و ما وجد فعلاً في مقابل الخيال والوهم..”. لكن حالة الأشياء كما هي موجودة ليست سوى الواقع ما يجعل هذا التعريف يعرِّف الواقع من خلال الواقع فيقع في الدور المرفوض منطقياً. أما الموقع المعجمي “ميريام-وبستر” فيقع في المشكلة نفسها بقوله إنَّ “الواقع هو صفة أو حالة أن يكون الشيء واقعياً وهو الحدث أو الكينونة أو الحالة الواقعية، ومجموع كل الأشياء والأحداث الواقعية..”. وهذه تعاريف للواقع من خلال الواقع فتعاريف للواقع على أنه الواقع. وبذلك هي تعاريف بلا مضامين لأنها تحلِّل الماء بالماء من جراء وقوعها في الدور. أما المعرفة فمُعرَّفة على ويكيبيديا على أنها “الإدراك والوعي وفهم الحقائق”. ولكن الإدراك والوعي والفهم ليست سوى أنواع من المعرفة وبذلك المعرفة هنا مُعرَّفة من خلال المعرفة ما يوضح وقوع هذا التعريف في الدور أيضاً.

   كل هذا يرينا أنَّ العقل الأنترنتي خالٍ من مضامين لأنه يناقض المنطق كمناقضة مبدأ تجنب الوقوع في الدور. فحين يقع العقل الأنترنتي بالدور لا يُقدِّم أيّ مضمون لأنه حينها يُعرِّف الماء بالماء. من هنا، العقل الأنترنتي هو دمقرطة الجهل والتخلّف بدلاً من أن يكون دمقرطة المعرفة بما أنه عقل يناقض المنطق فيفشل في تقديم معان ٍ مفيدة أو مضامين حقيقية. فلا إفادة في تعريف الماء بالماء تماماً كما لا مضمون حقيقي عندما نعرِّف الماء بالماء.

الفيلسوف ديفيد أرمسترونغ

 

العقل المنطقي

   أما العقل المنطقي فيحلِّل المفاهيم ويفسِّر الظواهر على ضوء مراعاة مبادىء التفكير السليم فيطرح مضامين فعلية ومفيدة كتعريف العقل على أنه الدماغ أي الحالات الفسيولوجية في الدماغ كما لدى الفيلسوف ديفيد أرمسترونغ أو كتعريف العقل على أنه ميول للتصرّف كما يقول الفيلسوف غلبرت رايل أو كتحليل الواقع على أنه معلومات وتبادلها كما يؤكِّد الفيزيائي جون ويلر أو كتحليل الواقع على أنه معادلات رياضية كما لدى الفيزيائي ماكس تغمارك. فكل هذه التعاريف الفلسفية والعلمية لا تقع في الدور على نقيض من العقل الأنترنتي الذي يُروِّج لمعارضة المنطق ومحاربة مبادىء التفكير الموضوعي والعلمي. لذا الصراع حتمي بين العقل المنطقي العلمي والعقل الأنترنتي. فهل سوف ينتصر العقل الأنترنتي أم العقل المنطقي؟ هذا قرارنا نحن.

الفيلسوف غلبرت رايل

 

التواصل الافتراضي

   من جهة أخرى، التواصل على مواقع التواصل الاجتماعي تواصلٌ بلا سياق فلا يتضمن السياقات السلوكية والفكرية الضرورية في اللقاءات الاجتماعية والثقافية بسبب عدم الحضور الفعلي للأفراد وعدم تفاعلهم في الواقع المعاش بالإضافة إلى اختصار العبارات ضمن التواصل الافتراضي على الأنترنت أو حذف العبارات كلياً واستخدام الأيقونات ما يحتِّم اختزال السياق أو حذفه كاملاً. لكن السياق هو الذي يُحدِّد معاني العبارات. وبذلك التواصل الافتراضي على مواقع التواصل الاجتماعي خالٍ من معان ٍ لأنه تواصل بلا سياق. فحين نتواصل على الأنترنت يغيب حضور السياق كغياب سياق الحضور الفعلي للأشخاص وتعابيرهم الجسدية وغياب سياق المحيط الطبيعي أو الاجتماعي المصاحب للتفاعل والتواصل الإنساني في الواقع المعاش. وبذلك يتناقص ما من الممكن أن يُستنتَج من هذه السياقات فتتناقص المعاني إن لم تغب كلياً. هكذا العقل الأنترنتي وما يتضمن من تواصل افتراضي قاتل السياق فقاتل المعاني.

  بالإضافة إلى ذلك، وسيلة التواصل تُحدِّد مضامين الرسائل التي نتبادلها على مواقع التواصل الاجتماعي. فمثلاً، الفيسبوك والتويتر يحدِّدان أن نختصر العبارات المتبادلة وأن نعبِّر عما قد يثير إعجاب ومحبة الأصدقاء الافتراضيين لكي تنال منشوراتنا أيقونات الإعجاب والمحبة فيدلّ على النجاح. هكذا هذه الوسائل تحدِّد مضامين ما ننشر على مواقع التواصل فتسجن بذلك حريتنا في تشكيل مضامين معتقداتنا وكيفية التعبير عنها ما يحتِّم اغتيال معتقداتنا وحريتنا في آن. من هذا المنطلق أيضاً تروِّج مواقع التواصل الاجتماعي لإعادة صياغة العقائد والمعتقدات فالسلوكيات السائدة في المجتمع بدلاً من التفكير ببناء معتقدات وسلوكيات جديدة وأكثر تطوّراً وذلك من خلال ترويج ما يطلبه القارئون أو المستمعون لكي تنال منشوراتنا الأنترنتية قبول القارىء أو المستمع وإعجابه. من هنا، هذه المواقع تساهم بقوة في عملية انغلاق واغلاق الفكر والتفكير واغتيال إمكانية التحرّر مما هو سائد وقتل إمكانية التطوّر.

الفيزيائي جون ويلر

 

   كما يقتل العقلُ الأنترنتي العقلَ الإنساني من خلال قتله للمنطق والمعاني يغتال أيضاً المشاعر الإنسانية. فضمن العقل الأنترنتي نستخدم على مواقع التواصل الاجتماعي أيقونات معيّنة كأيقونات الإعجاب والبكاء والغضب بدلاً من استخدام عبارات ذات معان ٍ مُعبِّرة عن مشاعرنا الإنسانية الحقيقية. وبذلك نستبدل الأيقونات بالمشاعر ما يقضي على أية مشاعر مُكتسَبة ومُعبَّر عنها بلمسات وهمسات لغوية إنسانوية وشخصية. هكذا يقتل العقل الأنترنتي مشاعرنا ويحوّلنا إلى سجناء الأيقونات المُحدَّدة سلفاً. وبهذا نخسر إنسانيتنا الكامنة في المشاعر. من هنا أيضاً العقل الأنترنتي قاتل الإنسان وإنسانيته.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *